العامل البشري مقوّم أساسي للابتكار

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو واضحاً في الوقت الحالي أنه على ألمانيا أن تعمل بشكل أحسن لتنمي موهبة الابتكار في شبابها من الجنسين المنحدرين من جميع الطبقات الاجتماعية والأصول العرقية. ومن خلال ما اكتشفه بحث فرصة أطلس، يمكن تحقيق هذا، مثلاً، من خلال برامج تدريبية وتوجيهية مصممة لهذا الغرض تزيد من نسبة تعريض الأطفال للابتكار.

لماذا لم تنتج ألمانيا، وهي أرض مبتكرين صنعوا التاريخ مثل جوهان غوتنبورغ وألبيرت آينشتاين، شركات ضخمة ذات التكنولوجيا العالية مثل: جوجل وأمازون وفيسبوك؟ البعض يلوم الشعور بالخجل إزاء الفشل المرتبط بعدم تشجيع المقاولات المبتكرة في ألمانيا.

وتشير بعض أصابع الاتهام إلى الحواجز البيروقراطية، التي تعرقل بدء مشروع تجاري ما، لكن هناك سبب آخر مقلق يفسّر لماذا فقدت ألمانيا محركها الإبداعي، المتمثل في روادها المنحدرين من الطبقات الفقيرة والذين لا يحظون بفرصة النجاح.

وحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وصل مستوى مرونة الأرباح بين أبناء الجيل الواحد إلى نحون 50%، وهذا يعني أنه إذا كان أحد أبوي الشخص (أ) يجني ضعف ما يتقاضاه أحد أبوي الشخص (ب)، سيحصل الشخص (أ)، في المتوسط، على 50% أكثر من الشخص (ب). ونظراً لمثل هذه الفوارق المستمرة، تصنف ألمانيا من بين الدول التي لديها أدنى معدلات التنقلية بين أبناء الجيل الواحد في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث يصل معدل متوسط المرونة إلى 38%، ويبدو أنه في تراجع.

وغالباً ما تتلاءم المعدلات المنخفضة للتنقلية بين أبناء الجيل الواحد في الاقتصادات المتقدمة مع المعدلات المرتفعة لعدم المساواة في الدخل. ويفسر ما سماه ألان كروجر من جامعة برينستون «منعطف غاتسبي العظيم»، العلاقة بين تركيز الدخل في جيل واحد وقدرة من ينتمون إلى الجيل القادم على صعود السلم الاقتصادي.

وبما أن المعدلات المرتفعة لعدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية، وما يصحبها من انعدام المساواة في الفرص، تعرقل التنقلية الاقتصادية بين أبناء الجيل الواحد، بدأ رصيد البلاد من مبتكري المستقبل يتراجع. وفي بحث جديد فريد من نوعه أنجز مؤخراً -فرصة أطلس: تحديد الجذور الطفولية للتنقلية الاجتماعية، يستعين راج شيتي ومساعداه ببيانات ضخمة لشرح هذه الظاهرة- وتكلفتها الضخمة.

وبناء على بيانات متعلقة بـ1.2 مليون مخترع وأسرهم -التي تشمل التعليم ومعدلات الامتحانات والرواتب- أظهرت الدراسة أن 8.3 أطفال في كل 1000 طفل من نسبة 1% العليا من الأسر (في ما يخص الدخل) يصبحون مخترعين. وبالنسبة للأسر ذات الدخل دون المتوسط، فالمعدل أقل بنسبة 0.84 طفل في كل ألف طفل.

وهذا ليس لأن الأطفال المنتمين للأسر ذات الدخل المرتفع موهوبون أكثر، إذ حسب بحث فرصة أطلس، في كل 1000 تلميذ في المستوى الثالث المنتمين للأسر المرتفعة الدخل (المصنفة في المراتب الـ20 الأولى في مستوى الدخل) الذين يحصلون على معدل في النسبة المئوية التسعين في الرياضيات، سبعة منهم يصبحون مخترعين، وفي ما يخص الأطفال المنتمين إلى الأسر الضعيفة الدخل (نسبة 80% الأدنى)، فهذا المعدل أقل بنسبة 3 تلاميذ في كل 1000.

وبالطبع، ليس الدخل هو العامل الرئيس الوحيد، إذ هناك فتاتان فقط في كل 1000 ممن تحصلن على معدلات مرتفعة تصبحان مخترعتين، مقارنة مع 6 ذكور في كل 1000، كما أن العِرق له تأثير أيضاً، فالأطفال ذوو البشرة السوداء أو من ينحدرون من أصول لاتينية، مثلاً، أقل حظاً من نظرائهم البيض في أن يصبحوا مخترعين.

ما هو أصل هذه الفوارق؟ يُظهر بحث فرص أطلس أن المجتمعات التي تعرف معدلات مرتفعة في براءة الاختراع تنتج عدداً أكبر بكثير من المخترعين في كل 1000 طفل، لكن هذا ليس لأن أطفال المخترعين يرثون بطريقة ما أو بأخرى موهبة الاختراع.

إن السبب قد يكون راجعاً للتعرض للابتكار في فترة الطفولة. وكشف تشيتي وزملاؤه أن مشاهدة تجربة ابتكارية ما كافية لتحفيز الأطفال على الابتكار بأنفسهم. وتشير دراستهم أيضاً إلى أنه إذا تعرضت الفتيات لقصص المخترعات من صنف النساء بالوتيرة نفسها التي يتعرض بها الذكور لقصص المخترعين من صنف الرجال، سيتراجع الفارق بين الجنسين في ما يخص الاختراع إلى النصف.

وتُحدث هذه الحقائق انعكاسات مهمة، إذ تقول دراسة فرص أطلس إنه إذا اخترع النساء والأقليات والأطفال من الأسر الضعيفة الدخل بالمستوى نفسه، الذي يخترع به الرجال ذوو البشرة البيضاء وذوو الدخل المرتفع، سيرتفع معدل الابتكار في الولايات المتحدة 4 مرات.

وفي ألمانيا، مستوى اللامساواة في الدخل أقل من نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن ألمانيا تمنح التعليم المجاني للجميع، بما في ذلك -توازناً اجتماعياً قوياً في المرحلة ما بعد الثانوية، لكن معدل ألمانيا في ما يخص التنقلية الاجتماعية يبقى أضعف من نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية- والبلاد تدفع ثمن ذلك. وفي دراسة أنجزت مؤخراً، أشار مقاولون ألمان إلى نقص في المواهب ذات صلة كأكبر عائق أمام بدء نشاط ما.

وكما يبدو، تركز ألمانيا في جهودها لتعزيز الابتكار على الحوافز الضريبية الجديدة من أجل البحث والتنمية، لكن من المستبعد أن يكون لحذف بعض من النسب المئوية من الضرائب التي يدفعها المخترعون الرائدون -الذين يتقاضون أكثر من مليون دولار سنوياً، في المتوسط- أثر مستحب على تصرفاتهم. وإذا بقي رصيد المواهب محدوداً، فمن الأرجح أن تزيد الحوافز الضريبية التي ترمي إلى النهوض بالابتكار من رواتب من يخترعون بالفعل، بدل الزيادة في عدد الاختراعات.

وما يزيد الطين بلة هو أنه أصبح من الصعب أكثر الوصول إلى حدود جديدة نظراً لكون كمية المعرفة تنمو. وحسب أحد التقديرات، يتطلب إنتاج الكمية نفسها من المعرفة التي أنتجت منذ 80 عاماً عدد الباحثين نفسه 20 مرة.

وهذا يعني أنه إذا أرادت ألمانيا أو أي بلد آخر، إبراز قدراتها الابتكارية، ستحتاج إلى استراتيجية تركز على العامل البشري. وينبغي أن تنبني هذه الاستراتيجية على المساواة في الفرص والتعرض للابتكار، خاصة بين الأطفال الحاصلين على أعلى المعدلات الدراسية.

دانيال مارين - أستاذة لشعبة علوم الاقتصاد في الجامعة التقنية لميونيخ وزميلة باحثة لدى مركز الأبحاث المتعلقة بالسياسة الاقتصادية.

 

Email