رأسمالية الدولة والأسواق الناشئة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يمثل سقوط جدار برلين قبل 30 سنة تقريباً ذروة تراجع دور الدولة من الاقتصاد العالمي الذي عكس هزيمة الاقتصاد الاشتراكي فعلياً على مستوى العالم، فمن فرنسا سيطرت الدولة على الأمور الاقتصادية والاجتماعية إلى الصين الشيوعية، بدأت تلك الدول التي تتبع نماذج متباعدة بشكل كبير تبنّي مقاربة لعمل سياسات قائمة على الحرية الاقتصادية، ومبنية على فكرة أنه كلما قل تدخّل الدولة كان ذلك أفضل.

وفي خضم التراجع العالمي لاقتصاد الدولة والاقتصاد الاشتراكي، تم تخصيص بعض الشركات التي تملكها الدولة بشكل تام، ولكن الأغلبية الساحقة من «جواهر التاج» بقيت جزئياً في أيدي الحكومات مع شريك خاص استراتيجي أو مستثمرين من القطاع الخاص يستحوذون على حصص، من خلال أسواق رأس المال، وبغض النظر عن شكل التخصيص، فهو لم يعبر عن توجه فلسفي فحسب، بل كان له تداعيات اقتصادية واسعة النطاق، ليس أقلها تلك المتعلقة بأسواق الأوراق المالية التي انتعشت مجدداً من خلال إدراج الشركات التي تملكها الدولة في بلدان مختلفة تماماً عن بعضها.

لكن مع بداية الألفية توقف تراجع الدولة من الاقتصاد بشكل ملحوظ، فنجاح اقتصادات مثل الصين دفع العديد من الحكومات إلى نسخ تجربتها المتعلقة بالشركات التي تملكها، والتجربة السنغافورية المتعلقة بصندوق الثروة السيادية تيماسيك. ومن أجل ذلك، تطورت تركيبة الثروة السيادية من نموذج قديم لملكية الدولة السلبية إلى نموذج يقر بحقيقة أن بقاء الشركات التي تملكها الدولة يعتمد على قدرتها على المنافسة عالمياً. إن وضع الشركة التي تملكها الدولة الاحتكاري أو القائم على احتكار الأقلية في الوطن لم يعد يضمن تنافسية تلك المؤسسة، وخاصة في سياق التقنيات الجديدة التي تغيّر الوضع القائم والعابرة للحدود وعلى المدى الطويل، فإن الحماية الحكومية لن تساعد شركة اتصالات تملكها الدولة على مقاومة شركات مثل سكايب وواتساب وفايبر.

رداً على هذا التحدي، تركز الحكومات بشكل أقل على التخصيص مقارنة بالتحديث، فالشركات التي تملكها الدولة وصناديق الثروة السيادية لديها خبرة محدودة في قطاع التقنية وثقافتها التجارية جامدة مقارنة بالشركات التي تستهدفها. إن الإشراف على حوكمة شركات عالية التقنية يتطلب مجموعة مهارات مختلفة تماماً عن إدارة المشاريع المشتركة مع الشركاء الأجانب، وهي حرفة أصبحت الشركات التي تملكها الدولة وصناديق الثروة السيادية تتقنها تماماً.

وحتى مع وجود المعرفة، فإن حوكمة الشركات العالية التقنية مثل فيسبوك وسنابتشات يمكن أن تشكّل تحدياً إضافياً، وذلك نظراً إلى أن مؤسسي الشركات التقنية والمستثمرين السياديين عادة ما يفضّلون مستوى أعلى من التحكم العملياتي، وإضافة إلى مسألة التحكم، فإن الاستحواذ على الشركات التقنية يتطلب كذلك أن تتبنى الشركات التي تملكها الدولة وصناديق الثروة السيادية نهجاً مختلفاً فيما يتعلق بإدارة المخاطر، نظراً إلى الطبيعة غير المستقرة للتقييم في هذا القطاع.

إن المستثمرين السياديين في الأسواق الناشئة لديهم الكثير مما يتعلمونه في هذا الخصوص من الصين، حيث نشطت الشركات التي تملكها الدولة في الاستحواذ على شركات التقنية في العالم، وبعد حصول بعض الإشكاليات في السنوات الأخيرة، أصدرت وزارة المالية الصينية الآن تعليمات لتخفيف المخاطر للشركات التي تملكها الدولة، والتي تسعى لعمليات الاستحواذ الأجنبية.

وحتى لو فضّلت العديد من صناديق الاستثمار في الأسواق الناشئة أن تبقى عبارة عن مستثمرين صامتين وغير مصوّتين مع حصص سلبية في الشركات الأجنبية، فإن الاندفاع الحالي تجاه الاستحواذ في القطاع التقني يتطلب أن تكتسب تلك الصناديق فهماً أفضل لحقوقها كمساهمين، كما يتطلب كذلك أن تدرب فرقها من أجل اكتساب المزيد من الخبرة الاستثمارية، والتنسيق بشكل وثيق مع المستثمرين المحليين الآخرين، وذلك حتى يكون للاستحواذ تأثير متعدد في الاقتصادات الوطنية الخاصة بها.

مع انخفاض نشاطات الأسهم الخاصة في الشرق الأوسط وغيرها من الأماكن في السنوات الأخيرة، فإن من المرجّح أن تستمر الشركات التي تملكها الدولة وصناديق الثروة السيادية في المنطقة في تأسيس أدوات للأسهم الخاصة عائدة لها، ومن خلال الاستثمارات السيادية في الشركات العالية التقنية، فإن بإمكان صنّاع السياسات تحقيق تأثيرات إيجابية متعددة، بما في ذلك ما يتعلق بأسواق رأس المال التي تم تطويرها سابقاً من خلال التخصيص.

على أي حال، إن التركيز على تخصيص الشركات التي تملكها الدولة فقط يعطي انطباعاً خاطئاً بتوجه رأسمالية الدولة في الأسواق الناشئة، فرأسمالية الدولة لا ترتكز على التقليل من ملكية الحكومة، بل على إعادة التخطيط، حتى تتلاءم مع مستقبل الاقتصاد العالمي. إن هذا التحوّل أساسي لبقاء ملكية الدولة، ويتطلب أن يعيد المستثمرون السياديون التفكير في نموذج الحوكمة التقليدي. لو أرادت الشركات التي تملكها الحكومة أن لا تنقرض مثل الديناصورات، فإنها تحتاج إلى أن تتعلم، ليس الرقص مع الشركاء الأجانب فقط، ولكن أيضاً كيفية السقوط والنهوض مجدداً وتجربة حركات جديدة.

* مديرة تنفيذية لجوفرن، وهي مركز للحوكمة الاقتصادية والتجارية.

Email