مخاوف السيولة والتكيف التدريجي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لو تخيلنا بلدين. بلد (أ) لديه عجز مالي أكثر بقليل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي بينما البلد (ب) لديه عجز كبير يصل إلى 9%، وبالإضافة إلى ذلك وحتى وقت قريب كان الدين العام للبلد (أ) بالكاد يتجاوز 50% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما الدين العام للبلد (ب) ارتفع بشكل كبير وسريع بحيث سيصل قريباً إلى 90% من الناتج المحلي.

إذاً من بين هذين البلدين فإن البلد (ب) هو البلد الأكثر احتمالية لأن يعاني من أزمة عملات، فهل هذا صحيح؟

الإجابة ليس تماماً، فالبلد (أ) هو الأرجنتين والبلد (ب) هو البرازيل ومنذ بداية سنة 2018 فقد البيزو الأرجنتيني نصف قيمته، وبعد أن كانت على وشك الخروج من سوق الصرف الأجنبي، اضطرت الأرجنتين لتبني إجراءات تقشف من أجل تأمين حزمة إنقاذ تبلغ 50 مليار دولار أميركي من صندوق النقد الدولي - وحتى هذا الإجراء لم ينجح في تهدئة المستثمرين، وفي الوقت نفسه فلقد ضعف الريال البرازيلي، وهذا عائد في الغالب إلى النتيجة غير المؤكدة للانتخابات الرئاسية في أكتوبر المقبل، ولكن لا يوجد أزمة مالية واضحة بالأفق.

إن الحكمة التقليدية هي أن الأرجنتين في وضع صعب، ولكن البرازيل ليست في الوضع نفسه وذلك، بسبب أوضاعهما المختلفة بالنسبة للحساب الجاري: في نهاية سنة 2017 أظهرت الأرجنتين عجزاً وصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً، وذلك على النقيض من العجز البرازيلي، والذي كان متوازناً تقريباً. إن المنطق يقول إنه نظراً لأن البرازيل ليست في حاجة للاعتماد على المقرضين الأجانب فإن الأسواق المالية بالكاد تتأثر سلباً حتى لو قام السياسيون بتقديم وعود مبالغ بها كثيراً خلال حملاتهم الانتخابية.

لابد أن هذا الطرح هو التحليل الصحيح إذاً، فالتوقف المفاجئ في تدفقات رؤوس الأموال الدولية يعني أن على الأرجنتين أن تخفض من الواردات وأن تعزز الصادرات بين ليلة وضحاها مما يعني أن العملة ستنخفض بشكل كبير.

لكن هذه ليست نهاية القصة، حيث يجب أن نتذكر أن الحساب الجاري هو الفرق بين ما يستثمره بلد ما وما يدخره. إن عجز الأرجنتين يظهر أن الأرجنتين تستثمر في القدرة الإنتاجية أكثر من ما تدخره حكومتها والقطاع الخاص فيها - 19% مقابل 14% من الناتج المحلي الإجمالي.

على النقيض من ذلك فإن الحساب الجاري المتوازن البرازيلي بالإضافة إلى عجز مالي يصل إلى 9% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي يعني أنه لابد أن الشركات والأسر البرازيلية لديها فائض مساوٍ بالضبط لنسبة 9% من الناتج المحلي الإجمالي أي بعبارة أخرى يفضل القطاع الخاص البرازيلي الاستثمار في السندات الحكومية على الاستثمار في رأس المال الثابت، ونظراً لأن الحكومة البرازيلية تستثمر القليل فإن إجمالي الاستثمار البرازيلي والذي بالكاد يصل إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي هو مبلغ ضئيل. (إن التشيلي المجاورة تستثمر 23% من الناتج المحلي الإجمالي بينما تستثمر الهند والصين 33% و 44% على التوالي).

إذاً ما هو البلد الذي يجب أن يعتبر المقرضون أنه بلد أكثر أماناً، فهل هو البلد الذي يخصص حوالي خمس موارده السنوية لزيادة الإنتاج «وما يترتب على ذلك من القدرة على السداد بالمستقبل»، أو البلد الذي يستثمر أقل من ذلك بكثير؟ بإمكان البرازيليين أن يجادلوا إلى ما لا نهاية ما إذا كانت الرواتب التقاعدية الحكومية السخية والتي هي السبب في جزء كبير من العجز المالي هي عادلة أو غير عادلة ولكن هناك شيء واضح وهو أن وضع المتقاعدين الأفضل حالاً اليوم لا يعني أن البرازيل سيكون لديها الوسائل لسداد ديونها غداً.

إذاً لماذا الأسواق لا تأخذ ذلك بعين الاعتبار؟ ألا يجب أن تشعر تلك الأسواق بالقلق من وضع البرازيل وأن تترك الأرجنتين المسكينة وشأنها وحتى لمرة واحدة؟

وهنا تعطينا الحكمة التقليدية خط الدفاع الثاني وهو أن البرازيل لديها 360 مليار دولار أميركي من الاحتياطات بينما احتياطات الأرجنتين بالكاد تصل 50 مليار دولار أميركي تقريباً بالإضافة إلى الجزء غير الموزع من قرض صندوق النقد الدولي؟ ولكن ماذا في ذلك، فكلا البلدين قاما بتعويم سعر الصرف فيهما مما يعني أن من المفترض أن لا تقوم البنوك المركزية فيهما بالتدخل في سوق الصرف من خلال شراء وبيع الاحتياطات.

الأمر الأكثر جوهرية هو لماذا ننظر إلى الاحتياطات بشكل مختلف عن نظرتنا للأصول الأخرى في الميزانيات العمومية الوطنية؟ فلو افترضنا أن إيلان غولدفان النجم البرازيلي في البنك المركزي سيصدر سندات في نيويورك وسيستخدم العائدات بالدولار من أجل تضخيم احتياطات البلاد الدولية فإن المشاركين في السوق سيرحبون بالقرار في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الأحوال سيكونون غير مبالين لأن وضع صافي الدين البرازيلي لم يتغير.

إن الدرس الأكثر فائدة هو أن على البلدان أن لا تضع نفسها في وضع يسمح بمخاوف السيولة أن تتجاوز جميع القضايا الأخرى. إن عملية التكيف التدريجي في الأرجنتين بدت وكأنها عملية معقوله باستثناء أنها تركت البلاد في نهاية المطاف سريعة التأثر بمنطق «أو اللامنطق» المتعلق بالسيولة.

أخيراً وليس آخراً، هناك شيء ناقص فيما يتعلق بالترتيبات الدولية المالية التي تعرض العديد من البلدان ولمرات عدة لأزمات سيولة، فهل نحتاج لمزيد من الأسهم ولديون أقل؟ هل نحتاج لمزيد من برامج «البناء والتشغيل والنقل» بالنسبة للبنية التحتية ومشاريع أقل ممولة من السندات؟ هل نحتاج مقرضاً عالمياً كملاذ أخير وبالدولار ويكون أكبر وأسرع من صندوق النقد الدولي؟

لقد خفت حدة الأزمة المالية في أوروبا عندما تعهد رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي بعمل «كل ما يلزم» من أجل إنقاذ اليورو؟ فمن سيلعب دور دراجي في الأرجنتين؟

* وزير مالية سابق في التشيلي وهو مؤلف كتب وأبحاث عدة عن الاقتصاد والتنمية الدولية كما عمل في جامعات هارفارد وكولومبيا ونيويورك.

Email