أميركا وتركيا.. الشراكة في خطر

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الآن بعد أن أصبحت تركيا على خلاف مع حليفتها السابقة، الولايات المتحدة، تحولت أزمة العُملة في البلاد إلى مشكلة سياسية من الدرجة الأولى. القضية المباشرة هنا هي رفض تركيا إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون، المحتجز بتهمة الإرهاب، والتجسس، والتخريب، بسبب دوره المزعوم في الانقلاب الفاشل في يوليو 2016 ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

الواقع أن حكومة الولايات المتحدة محقة في الاعتراض على احتجاز برونسون. لكن ردة فعلها كانت هَدّامة وأتت بنتائج عكسية. وعلى وجه الخصوص، ربما يؤدي فرض تعريفات جمركية أميركية إضافية على الواردات من الصلب والألومنيوم من تركيا إلى المزيد من تقويض الثقة في الاقتصاد التركي، مما قد يشعل شرارة أزمة أوسع نطاقاً من شأنها أن تلحق ضرراً جسيماً بالاقتصاد العالمي. علاوة على ذلك، تسمح التعريفات الجمركية لأردوغان بإلقاء اللوم عن المحنة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، على أميركا وليس على عجز حكومته.

لا يزال من الممكن أن تجد الحكومة التركية السبيل إلى الإفراج عن برونسون، وأن يقرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المتلهف على ارضاء الإنجيليين الذين يشكلون جزءاً أساسياً من قاعدته، إلغاء التعريفات. ولكن حتى لو حُلَّت الأزمة المباشرة، فإن الأزمة البنيوية في العلاقات الأميركية التركية ــ والعلاقات الغربية التركية في عموم الأمر ــ ستظل قائمة. ونحن نشهد الآن الانهيار التدريجي المضطرد للعلاقة التي تحولت بالفعل إلى تحالف بالاسم فقط. ورغم أن إدارة البيت الابيض محقة في مجابهة تركيا، فإنها اختارت الرد الخطأ، بل وأيضاً القضية الخطأ.

كانت العلاقة بين تركيا والغرب قائمة منذ أمد بعيد على مبدأين أساسيين، ولم يعد أي من الجانبين يبالي بتحقيقهما. الأول أن تركيا تشكل جزءاً من الغرب، مما يعني أنها ديمقراطية ليبرالية. غير أن تركيا ليست ليبرالية ولا ديمقراطية. فقد كانت خاضعة فعلياً لحكم الحزب الواحد في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، وأصبحت السلطة متركزة في يدي أردوغان، الذي هو أيضاً زعيم حزب العدالة والتنمية.

في عهد أردوغان، ألغيت الضوابط والتوازنات إلى حد كبير من النظام السياسي التركي، والآن بات الرئيس يسيطر على وسائل الإعلام، والجهاز البيروقراطي، والمحاكم. والواقع أن نفس الانقلاب الفاشل الذي يستشهد به أردوغان كأساس لسجن برونسون خدم أيضاً كذريعة لاعتقال آلاف آخرين. ومن المستحيل في هذه المرحلة أن نرى كيف قد تتأهل تركيا على الإطلاق لعضوية الاتحاد الأوروبي.

المبدأ الثاني الذي يقوم عليه وضع تركيا «الغربي» هو التوافق في ما يتصل بالسياسة الخارجية. اشترت تركيا مؤخراً أكثر من 100 طائرة مقاتلة نفاثة متقدمة من طراز ف -35 من الولايات المتحدة. ومع ذلك، كانت تركيا في السنوات الأخيرة تدعم التنظيمات الإرهابية، كما اقتربت من إيران لمسافة أكبر، وتعاقدت لشراء صواريخ أرض - جو من طراز س - 400 من روسيا.

تقف كل من تركيا والولايات المتحدة على الجانب المضاد للأخرى في سوريا. وفي حين كان الأكراد في سوريا شركاء مقربين من الولايات المتحدة، فإن تركيا تعتبرهم إرهابيين، بسبب علاقاتهم مع الجماعات الكردية داخل تركيا والتي كانت تاريخياً تسعى إلى الحصول على الحكم الذاتي، إن لم يكن الاستقلال التام. وعلى هذه الخلفية، ليس من قبيل المبالغة أن نتخيل اشتباك القوات الأميركية والتركية في قتال.

قد يزعم بعض المراقبين أن المستوى الحالي من الاحتكاك بين الولايات المتحدة وتركيا ليس جديداً، فلم يخل الأمر من خلافات بين البلدين منذ أمد بعيد. ولم يكن الأتراك راضين على القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة بسحب الصواريخ المتوسطة المدى من تركيا كجزء من الاتفاق الذي أنهى في عام 1962 أزمة الصواريخ الكوبية. كما وقعت مصادمات متكررة بين البلدين بسبب التدخل التركي في قبرص ثم احتلالها في عام 1974، وبسبب دعم الولايات المتحدة لليونان. كما رفضت تركيا منح القوات العسكرية الأميركية إمكانية الوصول إلى قاعدة أنجرليك الجوية خلال حرب العراق في عام 2003. وفي السنوات الأخيرة، استشاط غضب الحكومة التركية بسبب رفض أميركا تسليم فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا، الذي يعتقد أردوغان أنه كان العقل المدبر لمحاولة الانقلاب في عام 2016.

بيد أن ما نشهده اليوم يعد مختلفاً. فقد زال منذ أمد بعيد غِراء معاداة السوفييت الذي أبقى الدولتين على مقربة خلال الحرب الباردة. والآن أصبحنا إزاء زواج بلا حب، حيث يستمر الطرفان في التعايش تحت نفس السقف، حتى برغم انتهاء أي صلة حقيقية بينهما.

المشكلة هنا أن معاهدة حلف شمال الأطلسي لا توفر أي آلية تسمح بالطلاق. فبوسع تركيا أن تنسحب من الحلف، ولكن من غير الممكن إجبارها على الخروج. وعلى ضوء هذه الحقيقة، ينبغي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحفاظ على نهج ذي شقين في التعامل مع تركيا.

فأولاً، ينبغي لصناع السياسة أن ينتقدوا السياسة التركية كلما كان ذلك مسوغاً. ولكن يتعين عليهم أيضاً أن يعملوا على التقليل من اعتمادهم على الوصول إلى القواعد التركية مثل أنجرليك، وحرمان تركيا من الوصول إلى المعدات العسكرية المتقدمة، وإعادة النظر في سياسة وضع الأسلحة النووية في تركيا. علاوة على ذلك، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تسلم غولن ما لم تتمكن تركيا من إثبات تورطه في الانقلاب استناداً إلى أدلة قادرة على الصمود في محكمة أميركية وتلبية شروط معاهدة التسليم المتبادل للمجرمين لعام 1981. ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تتخلى عن الأكراد، نظراً للدور الثمين الذي يضطلعون به في القتال ضد تنظيم داعش.

ثانياً، ينبغي للولايات المتحدة وأوروبا الانتظار إلى أن ينتهي عهد أردوغان، ومن ثَم الاقتراب من قيادات تركيا الجديدة بصفقة كبرى. ولا بد أن يشمل العرض الدعم الغربي في مقابل التزام تركيا بالديمقراطية الليبرالية والسياسة الخارجية التي تركز على محاربة الإرهاب ومقاومة روسيا.

في صحيفة نيويورك تايمز، حذر أردوغان مؤخراً من أن الشراكة بين الولايات المتحدة وتركيا «ربما تكون في خطر»، وأن تركيا ستبدأ قريباً البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد إذا لم تتراجع الولايات المتحدة عن نزعتها الأحادية ولم تكف عن عدم احترام تركيا. الواقع أن الشراكة كانت في خطر بالفعل، وهو ما يرجع بشكل كبير إلى تصرفات تركية، وقد بدأ أردوغان بالفعل عملية البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد. والآن حان الوقت لكي تتكيف الولايات المتحدة وأوروبا مع هذا الواقع.

ريتشارد ن. هاس -  رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب «عالَم في فوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام القديم».

 

Email