باكستان وسياسة الاقتصاد الكلّي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد الانتخابات الأخيرة التي شهدتها باكستان، بدأ الآن عمران خان وحزبه، حركة إنصاف باكستان، تشكيل حكومة جديدة. وكما جرت العادة، سوف تُستَقبَل الحكومة الجديدة بأزمة اقتصادية. ويبدو أن القيام برحلة إلى صندوق النقد الدولي يشكّل ضرورة لا مفر منها.

الواقع أن باكستان أدمنت صندوق النقد الدولي، فقد أنفقت البلاد بالفعل 22 عاماً من السنوات الثلاثين الأخيرة في تنفيذ نحو 12 برنامجاً من برامج صندوق النقد الدولي المختلفة للإنقاذ.

وكما أوضح مستشارا صندوق النقد الدولي السابقان احتشام أحمد وعزيز علي محمد في ورقة العمل التي أعداها لصالح مركز آسيا للبحوث في عام 2012، لا يوجد لدى أي مسؤول أميركي، أو مسؤول في صندوق النقد الدولي، أو مسؤول باكستاني، أي حافز لإصلاح المشاكل الاقتصادية البنيوية في باكستان، ولهذا فإن دورة عمليات الإنقاذ تتواصل بلا انقطاع.

من المؤسف أن قِلة في باكستان اطلعوا على دراسة أحمد ومحمد أو ناقشوا أهميتها، ولو اطلعوا عليها لعلموا أن نهج صندوق النقد الدولي في التعامل مع البلاد كان فاشلاً، فعلى مدار عقود من الزمن، ظلت برامج صندوق النقد الدولي تعمل على إضعاف الإنتاجية وإمكانات النمو في باكستان، من خلال التسبب في تآكل قدرة الدولة، وخلق الظروف المناسبة لتشجيع المزيد من السعي وراء الريع والفساد.

ألزمت برامج صندوق النقد الدولي المتعاقبة باكستان بتبني المزيد من الضرائب «التي لن تُرَد أبداً»، والرسوم الإضافية، والرسوم المفروضة على السلع الأساسية مثل النفط والكهرباء، حتى برغم أن هذه التدابير تضر بفرص تشغيل العمالة ونمو الاستثمار.

وعندما تفشل الحكومة في تحقيق أهدافها المالية، يتفق الصندوق ووزارة المالية الباكستانية على ميزانيات مصغرة ربع سنوية، والتي كثيراً ما تشمل فرض ضرائب جديدة على الرسوم المدرسية، والمعاملات المصرفية، والوصول إلى الإنترنت، وما إلى ذلك.

غني عن القول إنه إذا لم تكن الشركات تعرف حتى ما هي التدابير الضريبية التي قد تشتمل عليها الميزانية المصغرة ربع السنوية القادمة، فلن تكون قادرة على التخطيط والاستثمار. وهذا هو الاقتصاد ببساطة.

علاوة على ذلك، أجبر صندوق النقد الدولي وزارة المالية، إلى جانب السياسات الضريبية المشوهة، على خفض الإنفاق بلا تخطيط مسبق، وفي غياب أي إصلاحات، على الرغم من التأثير السلبي الواضح الذي يخلفه هذا على النمو.

فعندما فرضت مثل هذه التخفيضات بموجب برنامج صندوق النقد الدولي في تسعينات القرن العشرين، انتهت الحال بخدمة الحافلات الوطنية في باكستان إلى لوحة التقطيع، وتُرِكَت المركبات تتدهور. ومنذ ذلك الحين، بدأ الاقتطاع الحاد من تمويل الخدمات العامة، بما في ذلك السكك الحديدية، والشرطة، والصحة، والتعليم.

بعبارة أخرى، كانت باكستان موضوع تجربة طويلة الأجل في التقشف. وقد تسببت عمليات خفض الإنفاق المصممة على عجل في تقويض النمو، وبالتالي وضع الحكومة المالي، الأمر الذي اضطرها إلى تقليص الخدمات العامة ومشاريع البنية الأساسية. وكانت النتيجة التآكل الشديد الذي طرأ على قدرة الدولة.

لا شك في أن حكومة خان الجديدة سوف تتحدث مع صندوق النقد الدولي بشأن الإصلاح، لكن مثل هذا الحديث لا يعقبه تحرك حقيقي أبداً، فقد نوقشت الإصلاحات اللازمة للتغلب على النقص المستمر في الطاقة في باكستان على مدار العقد الماضي، ومع ذلك لا تزال الخسائر في ارتفاع. ومع تمرير تكاليف سوء الإدارة في هيئة زيادة في الأسعار، تجاوزت الديون التي يحتفظ بها منتجو الطاقة من القطاع الخاص والحكومة تريليون روبية (8.2 مليارات دولار أميركي).

لا شك في أن التمويل الجديد من صندوق النقد الدولي سيقود حكومة خان إلى تكرار أخطاء الماضي. وسوف تتمسك بأسعار الصرف المصطنعة، في حين تتجنب الإصلاحات التي ربما تعمل فعلياً على سد الثغرات التي تعيب الشركات المملوكة للدولة. وعندما كان الصندوق يعد برنامجه للفترة 2013-2016 لباكستان، بادرت إلى تحذير نائبة المدير المشرفة على الخطة من أنها ستستخدم للمبالغة في تقدير سعر الصرف، فأصرت على أن ذلك لن يحدث، لكنه حدث.

ولا يتغير النمط أبداً. فبمباركة الصندوق، تسرف الحكومة في التسوق، وتقبل قروضاً مكلفة لتنفيذ مشاريع باهظة التكلفة، مما يؤدي إلى تراكم المزيد من الديون وإضافة أوجه قصور جديدة. وبعد بضع سنوات، يترتب على ذلك أزمة أخرى، فتُقابَل ببرنامج آخر من برامج صندوق النقد الدولي.

الواقع أن تركيز هذه البرامج على الأمد القريب يضمن تأجيل الإصلاحات، وعدم السماح للصناعات المتقادمة بالموت. من ناحية أخرى، يعاني التعليم من نقص التمويل، ويصبح نقص الطاقة والمياه أكثر تكراراً وحدة، وتتفاقم اختلالات التوازن الاقتصادي، ويتواصل تآكل قدرة الحكومة على صنع السياسات. وسرعان ما يصبح تحقيق مؤشرات اقتصادية كلية مستقرة هو كل ما يهم في الأمر، حتى ولو تسبب هذا في تسارع الانحلال الاجتماعي والسياسي.

إن الاندفاع نحو تلبية الأرقام المالية التي يمليها صندوق النقد الدولي هو الذي يؤدي إلى وضع سياسات رديئة. ففي غياب التدابير الواجبة ــ مثل التدقيق البرلماني أو من قِبَل مجلس الوزراء، والمراجعات الوزارية ومن جانب الخبراء، والمشاورات المحلية ــ تكتسب وزارة المالية المزيد من السلطة، وتتراجع الحوكمة. هذا هو ما حدث في ظل الحكومة السابقة ــ التي استخدمت برنامج صندوق النقد الدولي للدفع بمشاريع تافهة ــ والآن يدفع الباكستانيون الثمن.

إن عملية صنع سياسات الاقتصاد الكلي السليمة من غير الممكن أن تُدار من خلال ميزانيات مصغرة اعتباطية، بل يجب أن تُعالَج اختلالات التوازن الاقتصادي من خلال تحفيز النمو في الاقتصاد الحقيقي، والذي من شأنه أن يسمح باستيعاب العجز والدين. وكما أوضحت في كتابي بعنوان «نظرة إلى الوراء: كيف أصبحت باكستان نمراً آسيوياً في عام 2050»، يتطلب النمو الاقتصادي والتنمية الحوكمة السليمة وقدرة الدولة، ولا يمكن تلبية مثل هذه المعايير إلا من خلال تنفيذ إصلاحات مكثفة ومدروسة جيداً للأمد البعيد. والسؤال هنا هو ما إذا كان صندوق النقد الدولي ليشجع هذه الاتجاه، أو أنه سيجعل باكستان تستمر في ارتكاب نفس الأخطاء في حين تتوقع نتائج مختلفة.

نديم الحق  *نائب رئيس لجنة التخطيط الأسبق في باكستان، وممثل سابق رفيع المستوى لصندوق النقد الدولي في مصر وسريلانكا.

 

Email