ترجمة الطفرة الدورية في أوروبا

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

سعى وزير الاقتصاد والمالية الإيطالي الجديد جيوفاني تريا إلى طمأنة أسواق المال وأن الحكومة الائتلافية الجديدة المكونة من حركة خمس نجوم وحزب الرابطة لن تتخلى عن اليورو ولن تقدم على تضخيم عجز الميزانية بما يخالف القواعد المالية للاتحاد الأوروبي. لكن أوروبا ليست بعيدة عن دائرة الخطر، خاصة بعدما تسببت حكومة إيطاليا الشعبوية المتشككة في الاتحاد الأوروبي في رفع مستوى المخاطر متوسطة الأجل التي يفرضها القطاع المصرفي في الدولة، والدين العام، وسياسات العمل والهجرة، ونموذج النمو، بدرجة أكبر من أي وقت مضى.

يصادف نوفمبر المقبل الذكرى الخامسة والعشرين لإقرار معاهدة ماستريخت، التي غيرت المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي، كما يصادف العام المقبل الذكرى العشرين لإطلاق اليورو. ولم تكتفِ كل مؤسسة بالبقاء فقط، بل توسعت، رغم تحديات مثل أزمة الديون السيادية التي مرت بها اليونان، وقرار بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي. لكن رغم تمكن منطقة اليورو من تجاوز هذه العواصف، فإنها لا تزال محاصرة بسلسلة من القضايا المعضلة.

ولقد ساعد تنامي مشاعر القومية والعداء للمهاجرين في السنوات الأخيرة على صعود الأحزاب الشعبوية المستعدة لتحدي قواعد الاتحاد الأوروبي والوقوف أمام البيروقراطيين في بروكسل «مجلس الاتحاد الأوروبي»، ومنذ الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، تقف بنوك أوروبية كثيرة على قدم مهتزة وتعاني من وضع متذبذب، كما ظلت مستويات الديون السيادية، وديون الشركات والأسر مرتفعة. ورغم هبوط البطالة إلى حد ما، فلا يزال معدلها ضعف نظيره في الولايات المتحدة. كما هبط معدل النمو الاقتصادي الكلي في أوروبا مرة أخرى، بعد طفرة نسبية حدثت أخيراً.

علاوة على ذلك، لم تصادف محاولات خفض رسوم التحويلات الباهظة والضرائب المرتفعة والتخلص من القوانين التنظيمية غير المرنة سوى نجاح محدود، رغم ارتفاع أعمار سكان أوروبا. وأبرز مثال على ذلك إصلاحات المعاشات والضرائب وسوق العمل المقترحة من جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي أثارت احتجاجات في كل مناسبة.

باعتبار كل ما سبق، نجد أن أوروبا عانت طويلاً من فتور النمو وضخامة الديون السيادية - والتي ستصير أكثر إرهاقاً لدول القارة عندما يرتفع سعر الفائدة في النهاية ــ إضافة إلى ضعف البنوك وعدم كفاءتها. وبالنظر قدماً، فإن تعرض القطاع المصرفي لمزيد من الاضطراب قد يضعه أمام تحدٍ صعب بالفعل، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن نصف الائتمان المقدم في الاتحاد الأوروبي بكل أشكاله يأتي من البنوك - وهي نسبة تصل إلى 70% في ألمانيا وإيطاليا. وبالمقارنة نجد أن 35% فقط من الائتمان المقدم في الولايات المتحدة يأتي من البنوك.

فضلاً عن ذلك، تعكس الضوائق الاقتصادية وضعف القدرة التنافسية التي يعاني منها باستمرار عدد من دول منطقة اليورو افتقادها إلى عملة خاصة يمكنها خفض قيمتها. ولقد ساعد فقدان السيادة النقدية، مع التوترات الديموغرافية وأزمة المهاجرين واللاجئين، في تفسير سبب تهافت كثير من الناخبين على الأحزاب الشعبوية والقومية. وباتت هناك نزعة عدائية متنامية في إيطاليا وبريطانيا وعدد من الدول الأعضاء الرئيسة الأخرى تجاه القواعد المالية المشتركة وبعض مبادئ الاتحاد الأوروبي الأساسية مثل حرية تنقل الأشخاص.

والملاحظ أن مشكلات أوروبا يغلب عليها التداخل بين بعضها بعضاً، مما يؤدي إلى تفاقمها. فضعف النمو مثلاً يجعل من الصعب تسوية القروض العاطلة لدى البنوك، مما يزيد بالتالي من تعويق النمو وتغذية مشاعر السخط العام. وحتى لو استبعدت حكومة إيطاليا الجديدة حدوث صدام بسبب اليورو في المستقبل القريب، فسيتحتم عليها مواجهة تلك المشكلات الاقتصادية، ومع زعم وزير الاقتصاد والمالية الإيطالي أن زيادات الإنفاق وخفض الضرائب ليست ضمن التدابير المطروحة، فقد اتفقت أحزاب الائتلاف على هذا الخليط من السياسات تحديداً عندما شكلت حكومتها.

يميل الناخبون في الدول الديمقراطية إلى تأييد زيادات الإنفاق وخفض الضرائب رغم ما لذلك من تداعيات على ديون الدولة. لكن دين إيطاليا العام، والذي يبلغ 130% من الناتج المحلي الإجمالي، هو الأعلى بالفعل في أوروبا. ولو انتهى الأمر بالسلطات إلى خرق قواعد الميزانية المتبعة في الاتحاد الأوروبي، فقد تتجرأ حكومات الدول الأعضاء الأخرى على أن تحذو حذوها - لا سيما إذا كانت هناك ضغوط سياسية محلية تدفعها إلى ذلك. بفضل أسعار الفائدة المتدنية للغاية، تمكنت إيطاليا من الإبقاء على عجز موازنتها تحت مستوى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، اتساقاً مع ميثاق الاستقرار والنمو لمنطقة اليورو. لكن شهر عسل الدين الإيطالي سينتهي عندما تبدأ تكاليف الاقتراض في الارتفاع.

ومما يزيد الطين بلة أن نسبة كبيرة من ديون إيطاليا السيادية تمتلكها بنوكها المتعثرة. ومن المعروف أنه لطالما عادى الإيطاليون توجيه الاتحاد الأوروبي بتطبيق «خطة إنقاذ للبنوك» تقضي بمطالبة الدائنين بتحمل نسبة من الخسارة في حالات تعثر البنوك - ذلك أن ملكية بنوك إيطاليا، والتي نشأت من دول المدن التاريخية في الدولة، يغلب عليها بشدة طابع المحلية والتمركز. وعليه فإن انهيار أي بنك إيطالي سيسبب أضراراً بالغة لاقتصاد الإقليم المحيط، بينما ستكون تداعيات تعثر أي بنك أميركي أقل تركزاً وأكثر توزيعاً.

ثمة قضية أخرى ينبغي الانتباه إليها، ألا وهي الهجرة. فمنذ عام 2011، وصل إلى إيطاليا 750 ألف مهاجر عبر البحر الأبيض المتوسط. والآن يطالب زعيم حزب الرابطة ووزير الداخلية، ماتيو سالفيني، دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، خاصة فرنسا، بقبول المزيد من طالبي اللجوء. وعقب رفض إيطاليا مؤخراً استقبال قارب إنقاذ يحمل نحو 600 مهاجر، كتب سالفيني على فيسبوك تعليقاً يقول: «إنقاذ الأرواح واجب، لكن تحويل إيطاليا إلى معسكر كبير للاجئين ليس واجباً».

وتعتبر معاداة الناخبين الإيطاليين المتنامية للهجرة جزءاً من اتجاه أكبر يمتد عبر الاتحاد الأوروبي، من المجر وبولندا حتى بريطانيا. وقبل الاستفتاء على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي في 2016 بوقت قصير، وجه ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني حينها، مناشدة في اللحظة الأخيرة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يستجدي موافقتها لوضع قيد على حرية تنقل الأفراد إلى بريطانيا، لكن طلبه قوبل بالرفض من جانب ميركل، ليتم بعدها التصويت لصالح الخروج البريطاني بهامش ضئيل.

من سخرية القدر أن تواجه ميركل الآن ذات الانتقادات العنيفة المعادية للهجرة التي واجهها كاميرون في 2016. وتعد الهجرة في الغالب مفيدة لأي اقتصاد في الأمد البعيد، خاصة إذا كانت نسبة المتقاعدين في تزايد. لكن عندما يتجاوز مستوى الهجرة قدرة أي بلد على استيعاب عمالة جديدة، فقد يترتب على ذلك تكاليف اقتصادية واجتماعية موجعة، على الأقل في الأمد القريب.

تموج أوروبا بتوترات متنامية بين مفاهيم الاستقلال المحلي والسيادة الوطنية والسلطة فوق الوطنية «متمثلة في الاتحاد الأوروبي»، وإذا لم تُترجم الطفرة الدورية في أوروبا إلى نمو مستدام طويل الأجل، فستخضع العملة الموحدة ــ والتكامل الأوروبي بصفة عامة - لاختبار القدرة على الصمود بفِعل التهديد الرباعي الإيطالي متمثلاً في البنوك، والديون، ومعاداة الهجرة، والضائقة الاقتصادية. ولن يتوقف الأمر في معظمه على حكومة إيطاليا الجديدة وحدها، بل على مصير برنامج ماكرون الإصلاحي أيضاً.

* أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، وزميل رفيع المستوى في مؤسسة هوفر، وكان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين لجورج بوش الأب من 1989 إلى 1993.

Email