سياسات الاقتصاد الكلي ومسار التنمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن حالة الذعر التي أحدثتها العملة، والتي عانت منها الأرجنتين في الشهر الفائت، باغتت كثيرين. الواقع أن مجموعة من الرهانات المحفوفة بالمخاطر، والتي قامت بها الحكومة الأرجنتينية في ديسمبر 2015، تسببت في زيادة تعرض البلاد للمخاطر. وما لم يكن واضحاً، هو متى قد يخضع اقتصاد الأرجنتين للاختبار. وعندما أتى موعد الاختبار، فشلت الأرجنتين.

كان لزاماً على الأرجنتين أن تعالج عدداً من اختلالات الاقتصاد الكلي، عندما تولى الرئيس ماوريسيو ماكري منصبه في نهاية عام 2015. وتضمنت التدابير المبكرة، إلغاء الضوابط التي كانت مفروضة على سعر الصرف ورأس المال، وخفض الضرائب على الصادرات من السلع الأساسية. كما استعادت الأرجنتين القدرة على الوصول إلى أسواق الائتمان الدولية، في أعقاب التسوية التي عقدتها مع ما يسمى «الصناديق الجشعة»، بشأن النزاع على الدين، والذي دام أكثر من عشر سنوات.

أخذت الحكومة على عاتقها سلوك نهج جديد في التعامل مع الاقتصاد الكلي، يستند إلى ركيزتين: الخفض التدريجي للعجز المالي الأولي، ونظام طموح لاستهداف التضخم، والذي كان المفترض أن يؤدي إلى خفض نمو الأسعار السنوي إلى خانة الآحاد، في غضون ثلاث سنوات فقط.

وابتهجت الأسواق. فكان الرأي السائد الذي روجت له الحكومة الأرجنتينية بشغف، هو أن البلاد قامت بما هو ضروري لتحقيق نمو اقتصادي أسرع وأكثر استدامة. وكان المفترض أن يتدفق الاستثمار المباشر الأجنبي، لكنه لم يتدفق.

بل عانت الأرجنتين عوضاً عن ذلك من الركود التضخمي في عام 2016، ثم أعقب ذلك، التعافي الذي اعتمد على الاستدانة في عام 2017. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع في الواردات، لم يكن مصحوباً بزيادة متناسبة في الصادرات، ما أدى إلى اتساع عجز الحساب الجاري إلى 4.6 % من الناتج المحلي الإجمالي، ونثر بذور الشك حول فضائل النهج الجديد.

ثم انتهت حالة الابتهاج في الأسواق، قبل بضعة أسابيع، وتدهورت التوقعات، وفرت رؤوس الأموال. وانخفضت قيمة البيزو بنسبة 19 % في مقابل الدولار الأميركي، في غضون الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر مايو فقط.

على النقيض من آمال ماكري، اجتذبت إصلاحاته في الأساس، رؤوس أموال المحافظ القصيرة الأجل، والتمويل في هيئة سندات، سواء بالعملة الأجنبية أو المحلية، بدلاً من الاستثمار المباشر الأجنبي. ويتحمل البنك المركزي الأرجنتيني، حصة كبيرة من المسؤولية، في حين أثبت نهجه عدم فعاليته إلى حد كبير، في الحد من التضخم إلى المستوى المستهدف «لا يزال المعدل السنوي عند مستوى نحو 25 %»، كما شجعت أسعار الفائدة المرتفعة، تدفقات رؤوس أموال المضاربة، والتي أدت إلى تفاقم الاختلالات الخارجية، وتزايد ضعف الأرجنتين في مواجهة الصدمات الخارجية.

كجزء من نهج استهداف التضخم، قام البنك المركزي، بتعقيم حصة كبيرة من الزيادات في القاعدة النقدية، من خلال بيع سندات البنك المركزي. وهذا يعني أن القطاع العام كان فعلياً يمول الجزء الأكبر من العجز المالي الأولي الضخم (4.2 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016، ثم 3.83 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017)، عن طريق إصدارات الدين القصيرة الأجل من قِبَل البنك المركزي. وكانت إصدارات سندات البنك المركزي، بالغة الضخامة، حيث ارتفعت بنسبة 345 % منذ ديسمبر/‏كانون الأول 2015. وربما كان هذا ليصبح مستداماً، لو صحت التوقعات المبكرة لآفاق الأرجنتين.

كانت المقايضات واضحة. وكان التعقيم الأقل عدوانية، ليحتوي نمو دين البنك المركزي، الذي تبين الآن أنه بالغ الخطورة، وكان ليمنع الضغوط التي دفعت أسعار الصرف إلى الارتفاع، لكنه كان ليؤدي أيضاً إلى ارتفاع التضخم. ومع ذلك، فإن محاولة خفض التضخم والعجز المالي بسرعتين متماثلتين، كانت لتشكل نهجاً أكثر حكمة. فلا ينبغي اتخاذ قرارات تتعلق بالاقتصاد الكلي، على أساس السيناريوهات الأكثر تفاؤلاً، عندما تكون تكلفة التوقعات الضائعة ضخمة.

كشفت أزمة العملة أخيراً، عن نقاط الضعف التي تعيب الأرجنتين. وبالنظر إلى المستقبل، فسوف تتعرض البلاد لمصادر خطر مختلفة عديدة. فأولاً، لا يزال هناك مخزون كبير من سندات البنك المركزي. وكلما صار جزء كبير من هذا الدين مستحقاً، ستصبح الأرجنتين رهينة لمزاج الأسواق المالية. وهذا من شأنه أن يزيد من تقلب سعر الصرف المتوقع، والذي قد يخلق الفرص للاستثمارات المالية القائمة على المضاربة، لكنه سيثبط الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي. ثانياً، لأن ديون القطاع العام المقومة بعملات أجنبية، أصبحت أعلى كثيراً مما كانت عليه قبل عامين، فإن الزيادة في مخاطر سعر الصرف، كفيلة أيضاً بالتشكيك في استدامة ديون القطاع العام.

لكي يتسنى لنا تقدير إلى أين تتجه الأرجنتين بعد الأزمة، يتعين علينا أن نسلط الضوء على العديد من العناصر البارزة في ما يتصل بالكيفية التي أديرت بها هذه المسألة. فأولاً، خسر البنك المركزي نحو 10 % من إجمالي مخزونه من احتياطيات النقد الأجنبي في غضون شهر واحد فقط. وثانياً، جرى رفع سعر الفائدة الاسمية السنوية على سندات البنك المركزي إلى 40 %، وهو السعر الأعلى في العالَم، كما تهدد هذه الخطوة بخلق كرة ثلج من ديون البنك المركزي. ثالثاً، وهو ما يُعَد الصدمة الأكبر للأرجنتين، أعلن ماكري أن البلاد ستسعى لتأمين اتفاق احتياطي مع صندوق النقد الدولي.

وعلى هذا، فإذا انزلق القطاع العام في الأرجنتين إلى ضائقة الدين في السنوات المقبلة، فسوف يكون لزاماً عليه أن يخضع لوصاية صندوق النقد الدولي، وهو دائن في حد ذاته، لكنه يمثل أيضاً مؤسسة يهيمن عليها دائنون دوليون. وعند هذه النقطة، قد تتسبب الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي في مقابل التمويل، عادة، في إحداث أضرار بالغة.

الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج، هو إعادة التأكيد على نهج استهداف التضخم، الذي أدى إلى تفاقم اختلالات التوازن الخارجي في الأرجنتين. ولن يكون من المستغرب إذن، أن تبدأ دورة جديدة من ارتفاع سعر الصرف الحقيقي في عام 2019. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، فإن هذا سيُعَد خبراً طيباً لماكري، لكنه لن يبشر بخير لمستقبل الأرجنتين.

في نهاية المطاف، ولأن النهج الذي اتبعه ماكري لوضع اقتصاد الأرجنتين على مسار النمو المستدام، فشل حتى الآن، كما تسبب في زيادة اعتماد البلاد على الدائنين الدوليين، فلا تزال إدارته تواجه التحدي المتمثل في تجنب أزمة الديون. ولحماية النشاط الاقتصادي ومعالجة نقاط الضعف، يجب الحفاظ على استراتيجية خفض العجز المالي الأولي تدريجياً. لكن إنقاذ الأرجنتين من زيادة اختلالات التوازن الخارجي التي تؤثر في استدامة الدين العام الخارجي، يستلزم تغيير السياسة النقدية. وهذا يعني الاعتراف أخيراً، بأن محاولة الحد من التضخم بمعدل أسرع كثيراً من الحد من العجز المالي، تنطوي على مخاطر باهظة التكلفة. كما يتطلب المسار الحذر، الخفض التدريجي للمحزون من سندات البنك المركزي، انطلاقاً من إدراك حقيقة مفادها أن الضغوط التضخمية الأكبر في الأمد القريب، هي ثمن تقليص خطر ارتفاع اختلالات التوازن الخارجي، فضلاً عن تخفيضات أكبر لسعر الصرف على طول الطريق.

من الخطأ بكل تأكيد، مواصلة خفض الضرائب على الصادرات من فول الصويا، كما أعلنت إدارة ماكري أنها ستفعل. وأي خفض للضرائب في المستقبل، من شأنه أن يزيد من حجم العجز، في حين لا يستفيد منه سوى قطاع يتمتع بتحصيل الريع بالفعل.

الواقع أن تغيير سياسات الاقتصاد الكلي، لا يكفي لوضع الأرجنتين على مسار التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة، لكنه ضروري. منذ تولت إدارة ماكري السلطة، بدأت التحذيرات بأنه اختار نهجاً يتسم بارتفاع المخاطر. ولكن من المؤسف أن هذه التحذيرات قوبلت بالتجاهل. وقد لا تخلو الاستراتيجية التي نوصي بها من المخاطر، لكننا على يقين من قدرتها على تقديم مسار إلى الأمام، أكثر قابلية للتطبيق وأكثر سلامة.

 

ـــ باحث مشارك في كلية إدارة الأعمال في جامعة كولومبيا، وأستاذ مشارك في جامعة بوينس آيريس، والرئيس المشارك لمبادرة كولومبيا لفريق عمل حوار السياسات المعني بإعادة هيكلة الديون والإفلاس السيادي، وكبير زملاء مركز إبداع الحوكمة الدولية.

ـــ حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت.

opinion@albayan.ae

Email