التقاعس عن التكيّف مع التغيرات

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تقف إيطاليا وأوروبا عند نقطة تحول حاسمة، فبعد انتخابات مارس الماضي، التي انتهت باستحواذ حركة النجوم الخمس المناهضة للمؤسسة وحزب الرابطة اليميني المتطرف على أغلبية برلمانية مجمعة، أتاح لها الوضع تأليف حكومة ائتلافية بعد 88 يوماً من الشد والجذب، توالت أشهر من عدم اليقين، وأصبحت إيطاليا أول دولة كبرى في الاتحاد الأوروبي يحكمها ائتلاف شعبوي.

تشكك حركة النجوم الخمس وحزب الرابطة صراحة في فوائد عضوية منطقة اليورو، رغم أن أياً من الحزبين لم يجعل من الانسحاب من اليورو التزاماً محدداً في برنامجهما في الحملة الانتخابية، وهو الفشل الذي استغله الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا في الاعتراض على اختيارات رئيسية للحكومة. كما يزدري الحزبان العولمة بشكل أكثر عموماً. وحزب الرابطة على وجه الخصوص مهووس بشن حملات ضارية ضد الهجرة. وعلى الجبهة الداخلية، وَعَد الحزبان بالتصدي للفساد، والإطاحة بما يعتبرانه مؤسسة سياسية تخدم مصالحها الذاتية، وتقديم سياسات جذرية للحد من البطالة وإعادة توزيع الدخول.

ومع ذلك، لن نتعرف على الأبعاد الدقيقة لأجندة النجوم الخمس/الرابطة قبل أن يبدأ الائتلاف الشعبوي الحكم بجدية. هناك شائعات بأن الحزبين يريدان شطب الديون السيادية المستحقة على إيطاليا، والتي تقف حالياً عند مستوى ثابت يزيد قليلاً على 130% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا فعلا ذلك، فمن المؤكد أن مواجهة على الطريقة اليونانية مع الاتحاد الأوروبي آتية نتيجة لذلك، مع ارتفاع سريع في أسعار الفائدة والفوارق على الديون السيادية الإيطالية، وخاصة إذا قرر البنك المركزي الأوروبي أن تفويضه يمنعه من التدخل.

في مثل هذا السيناريو، سوف تعاني البنوك الإيطالية التي تحتفظ حالياً بكميات كبيرة من الديون الحكومية من أضرار كبيرة في ميزانياتها العمومية، ولا يمكن استبعاد خطر فرار الودائع.

على النقيض من أغلب دول منطقة اليورو، كان النمو الاسمي «المعدل تبعاً للتضخم» في إيطاليا أضعف من أن ينتج خفضاً كبيراً في المديونية، حتى بأسعار الفائدة المنخفضة اليوم. وإذا لم يتغير أي عامل آخر، فإن ارتفاع أسعار الفائدة الاسمية سيؤدي بالتالي إلى ارتفاع نسب الدين وزيادة القيود المفروضة على الحيز المالي المتاح للحكومة، مع تأثيرات سلبية متسلسلة على النمو وتشغيل العمالة. وعلى عكس معظم بقية أوروبا، يظل نصيب الفرد الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي الإيطالي أقل كثيراً من الذروة التي بلغها في عام 2007 قبل الأزمة، مما يشير إلى أن استعادة النمو تظل تشكل تحدياً أساسياً.

يتوقف تحقيق أي من المخاطر التي تواجهها إيطاليا الآن على ما إذا كانت الحكومة القادمة تقبل الواقع وتلاحق تدابير وسياسات حكيمة لتحفيز نمو أكثر شمولاً.

الواقع أن أصداء النتائج في إيطاليا تتردد خارج أوروبا، لأن التطورات السياسية هناك تتسق مع تراجع عالمي عن العولمة وارتفاع الأصوات التي تطالب الحكومات الوطنية باستعادة السيطرة على تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر والمعلومات/البيانات. بالنظر إلى الماضي، سيتبين لنا أن هذا الاتجاه العالمي كان حتمياً، فلسنوات، تجاوزت قوى السوق العالمية والتكنولوجيات الجديدة القوية بوضوح قدرة الحكومات على التكيف مع التغير الاقتصادي.

إذاً، لا يجوز لنا أن نعتبر وضع إيطاليا فريداً، غير أنها رغم ذلك، تحتاج إلى أكثر من دول أخرى عديدة إلى أجندة تضمن استقرار الاقتصاد الكلي وتشجع نمو الشمولية. وهذا يعني توفير المزيد من فرص العمل، وتوزيع الدخول والثروة بشكل أكثر عدالة، وتوفير المزيد من فرص إنشاء المشاريع.

في غياب قدر أكبر من الشمول الاقتصادي، ربما تجد إيطاليا قريباً أن الشباب الموهوبين أصبحوا في طليعة صادراتها. وسوف يبحث العمال الذي يتمتعون بحرية الحركة عن منافذ لمهاراتهم وإبداعهم ودوافعهم إلى المغامرة التجارية في أماكن أخرى، فتخسر إيطاليا بهذا أحد المحركات الرئيسية للدينامية الاقتصادية، والنمو، والقدرة على التكيف.

خارج الأوساط المالية والدوائر الاقتصادية، يميل الأجانب إلى رؤية جانب مختلف ومهم من إيطاليا، فهم يرون بلداً مذهل الجمال، غنياً بالأصول غير الملموسة والثقافة والصناعات الخَلّاقة، وموطناً للعديد من مقاصد السفر المرغوبة في العالم. ويعرف المنتمون إلى الأوساط الأكاديمية أو بعض قطاعات الأعمال عن مراكز التميز في علوم الطب الحيوي، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي في إيطاليا، وأن الباحثين وخبراء التكنولوجيا ورواد الأعمال الإيطاليين يحتلون مكانة بارزة في مراكز الإبداع على مستوى العالَم. كما يدرك آخرون بلا أدنى شك أن الحكومات الإيطالية تميل إلى التغير بشكل متكرر، وأن الاقتصاد والمجتمع نادراً ما تضررا بفعل اضطرابات غير مبررة نتيجة لذلك.

الواقع أن المراقبين الدوليين يتفقون جميعاً على أن إيطاليا تتمتع بإمكانات اقتصادية هائلة، لكن التحدي يكمن في تحرير هذه الإمكانات، وهو ما يتطلب حدوث عدة أشياء.

تحتاج الحكومة الإيطالية الجديدة إلى اجتثاث الفساد وخدمة المصالح الذاتية، وإظهار التزام أقوى كثيراً بالمصالح العامة. وربما يكون الشعبويون على حق في ما يتصل بهذه المشاكل. وربما أصابوا في اعتقادهم بأن التأكيد على قدر أكبر من السيادة على التدفقات الرئيسية من العولمة أمر ضروري في مواجهة قوى الطرد المركزي السياسة والاجتماعية والتكنولوجية التي تجتاح الدول المتقدمة.

علاوة على ذلك، تحتاج إيطاليا إلى تطوير الأنظمة البيئية لريادة الأعمال التي تدعم الدينامية والإبداع. فالقطاع المالي منغلق للغاية الآن، وهو يوفر قدراً ضئيلاً للغاية من التمويل والدعم للمشاريع الجديدة. كما تتوفر فرص كبرى في التجارة الإلكترونية، وأنظمة الدفع المحمولة، ومنصات الوسائط الاجتماعية، لخفض الحواجز التي تحول دون الدخول وتشجيع الإبداع. ومن جانبها، تتقدم الصين بسرعة في هذه المجالات، مما يخلق فرصاً كبيرة للشباب في هذه العملية.

بطبيعة الحال، مع أي تكنولوجيا رقمية، تنشأ مخاوف مبررة بشأن أمن البيانات، والخصوصية، والقوى الشريرة العازمة على التلاعب بالمعلومات لتقويض التماسك الاجتماعي والمؤسسات الديمقراطية، ولكن لا ينبغي لهذه القضايا أن تقف في طريق تحقيق الإمكانية الهائلة التي تنطوي عليها التكنولوجيا الرقمية للعمل كمحرك للنمو الشامل.

وأخيراً، ينبغي لنا أن ننتبه إلى أن التعاون بين الحكومة، وقطاع الأعمال، والعمال، لعب دوراً أساسياً في الدول التي تكيفت بشكل أفضل مع العولمة والتغير البنيوي الذي استحثته التكنولوجيا. من المؤكد أن التعاون يتطلب الثقة، والثقة تترسخ تدريجياً بمرور الوقت، ولكن في غياب الثقة، تتصلب البنى الاقتصادية، وتتخلف الإنتاجية، وتعاني القدرة التنافسية، ويهاجر النشاط في السلع والخدمات القابلة للتداول إلى أماكن أخرى.

الواقع أن عدم اليقين بشأن المستقبل أمر حتمي في هذه المرحلة، ولكن ما لم يكن أي بلد مستعداً لقبول الركود الطويل الأجل، فإن التقاعس عن التكيف مع التغيرات القادمة ليس خياراً وارداً. وفي ظل تفويض واضح للتغيير، تستطيع حكومة إيطاليا الجديدة أن تنفذ أجندة سياسية نشطة وقوية وعملية وطويلة الأجل لإنتاج النمو الشامل، بخلاف ذلك، سيظل من غير الممكن تحقيق إمكانات إيطاليا العظيمة بالكامل.

Ⅶحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، وكبير زملاء مؤسسة هوفر

Ⅶمايكل سبنس *

Email