«آسيان» وتحدّي الصمود

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نحن نعيش أوقاتاً عصيبة مضطربة، حيث يخيم التشاؤم حتى على أكثر أجزاء كوكب الأرض ازدهاراً. وكثيرون مقتنعون بأن النظام الدولي يتهاوى. ويخشى بعض المراقبين أن يكون الصدام بين الحضارات وشيكاً، إن لم يكن قد بدأ بالفعل، مع ذلك، وفي وسط كل هذه الكآبة، تقدم منطقة جنوب شرق آسيا بصيصاً غير متوقع من الأمل.

فقد أحرزت المنطقة تقدماً غير عادي في العقود الأخيرة، فحققت مستوى من السِلم والازدهار لم يكن ليتخيله أحد في السابق. والمنطقة مدينة بقدر كبير من هذا النجاح لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي تحتفل بالذكرى السنوية الخمسين لتأسيسها هذا الشهر.

تُعَد منطقة جنوب شرق آسيا واحدة من المناطق الأكثر تنوعاً في العالَم. إذ يبلغ عدد سكانها 640 مليون نسمة، 240 مليون مسلم، و120 مليون مسيحي، و150 مليون بوذي، وعدة ملايين من الهندوس، والطاويين، وأتباع كونفوشيوس، والشيوعيين.

ويقطن إندونيسيا، الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في المنطقة، 261 مليون نسمة، في حين لا يتجاوز عدد سكان بروناي 450 ألف نسمة. ويعادل نصيب الفرد في الدخل في سنغافورة، 52960 دولارا سنويا، 22.5 ضعف نظيره في لاوس (2353 دولارا).

الواقع أن هذا التنوع يضع جنوب شرق آسيا في موقف غير موات من حيث تعزيز التعاون الإقليمي. وعندما تأسست آسيان في عام 1967، توقع أغلب الخبراء أن تموت في غضون سنوات قليلة، في ذلك الوقت، كانت جنوب شرق آسيا منطقة فقيرة شديدة الاضطراب، حتى أن المؤرخ البريطاني سي. ايه.

فيشر أطلق عليها وصف «بلقان آسيا». كانت حرب فيتنام جارية، والحرب الصينية الفيتنامية على وشك أن تندلع. وكان كثيرون ينظرون إلى الدول الخمس غير الشيوعية التي أسست آسيان - إندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند - على أنها أحجار دومينو، تسقط تباعاً باستسلام دولة مجاورة للشيوعية أو انزلاقها إلى صراع أهلي.

لكن آسيان تحدت التوقعات، لتصبح ثاني أكثر منظمة إقليمية نجاحاً في العالَم، بعد الاتحاد الأوروبي. وتعقد آسيان نحو ألف اجتماع سنوياً لتعميق التعاون في مجالات مثل التعليم، والصحة، والدبلوماسية. وقد وقعت آسيان على اتفاقيات التجارة الحرة مع الصين، واليابان، والهند، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا، كما أنشأت جماعة آسيان الاقتصادية.

واليوم تشكل آسيان سابع أكبر اقتصاد في العالَم، وهي على الطريق الصحيح لتصبح رابع أكبر اقتصاد في العالَم بحلول عام 2050. وكما أوضحت في كتابي «معجزة آسيان»، فقد دعمت عوامل عديدة نجاح الكتلة.

ففي البداية، زودتها معاداة الشيوعية بحافز قوي للتعاون. ونجح القادة الأقوياء، مثل سوهارتو في إندونيسيا، ورئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، والأب المؤسس لسنغافورة لي كوان يو، في الإبقاء على تماسك المجموعة. وقد ساعد كثيراً أن تتقارب المصالح الاستراتيجية لأميركا والصين وأعضاء الكتلة في وقت انطلاقة آسيان في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

ولكن حتى عندما انتهت الحرب الباردة، لم تنزلق المنطقة إلى الصراع، كما حدث في البلقان. فقد حافظت دول آسيان على عاداتها التعاونية وأصبحت راسخة في جنوب شرق آسيا في السبعينيات والثمانينيات.

الواقع أن الدول الشيوعية المعادية لآسيان سابقاً ــ كمبوديا، ولاوس، وفيتنام ــ قررت الانضمام إلى الكتلة. وكذلك فعلت ميانمار، فأنهت عقوداً من العزلة. وقد أثارت سياسة آسيان في إشراك ميانمار الانتقادات من الغرب، ولكنها ساعدت في إرساء الأساس هناك للانتقال السلمي من الحكم العسكري. (ولنقارن هذا مع سياسة العزلة التي انتهجها الغرب في التعامل مع سوريا على سبيل المثال، والتي لن تقود إلى نتيجة مماثلة بكل تأكيد).

من المؤكد أن رابطة دول جنوب شرق آسيا بعيدة عن الكمال. إذا يبدو أنها تتحرك بتثاقل في الأمد القريب ــ فتسير خطوتين إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف، ثم خطوة إلى الجانب، ومع ذلك، لا يستطيع أحد أن ينكر التقدم الذي أحرزته آسيان في الأمد الطويل.

فقد نما الناتج المحلي الإجمالي المجمع لدول الرابطة من 95 مليار دولار في عام 1970 إلى 2.5 تريليون دولار في عام 2014. وهي المنصة الوحيدة الجديرة بالثقة للمشاركة الجيوسياسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهي فريدة من نوعها في قدرتها على عقد اجتماعات تحضرها كل القوى العالمية الكبرى، من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الصين وروسيا. وتواصل الرابطة مواجهة تحديات خطيرة.

فقد تسببت النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي في خلق انقسامات عميقة، وتفرض الخصومة الجيوسياسية المتزايدة الحِدة بين الولايات المتحدة والصين تهديداً آخر لتماسك الرابطة. كما أصبحت السياسات الداخلية في العديد من دول الرابطة، بما في ذلك ماليزيا وتايلاند، فوضوية على نحو متزايد.

بيد أن تاريخ آسيان يشير إلى أن الكتلة قادرة على الصمود في وجه هذه العواصف. وتمتد جذور صمودها المبهر إلى ثقافة التشاور والتوافق التي تحمل لواء مناصرتها إندونيسيا. ولنتخيل هنا إلى أي مدى قد تستفيد دول مجلس التعاون الخليجي أو رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، من الالتزام بمثل هذه المعايير.

ذات يوم، كان الاتحاد الأوروبي على مستوى المعيار الذهبي للتعاون الإقليمي. ولكنه يواصل كفاحه ضد سلسلة تبدو بلا نهاية من الأزمات والنمو الاقتصادي الضعيف. وإذا أضفنا إلى هذا رحيل المملكة المتحدة الوشيك، فمن الحكمة أن نلتمس نماذج أخرى للتعاون.

وتُعَد رابطة دول جنوب شرق آسيا، على الرغم من افتقارها إلى الكمال، نموذجاً جذاباً، وفي عام 2012، حصل الاتحاد الأوروبي على جائزة نوبل للسلام. ولكن، ربما يثبت نهج رابطة دول جنوب شرق آسيا أنه الطريق إلى المستقبل، والذي من شأنه أيضاً أن يمكن مناطق أخرى معاندة من تعزيز أواصر التعاون المتينة.

كيشور محبوباني -  عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، وهو المؤلف المشارك مع جيفري سنغ لكتاب «معجزة آسيان: حافز للسلام».

 

Email