بابا عريس مرة جديدة

زواج الآباء حصاد الحسرة وفرقة الأبناء

ت + ت - الحجم الطبيعي

عن حق أو خطأ يقدم بعض الآباء على تكرار تجربة الزواج، ملبين بذلك نداء العاطفة والرغبة، وربما مصالح مالية أو دنيوية، وأحياناً يكون ذلك بدافع القهر أو الإيذاء للزوجة الأولى، أو لتحقيق مصلحة دينية بحسب اعتقاد البعض، وفي كل الأحوال لا ينظر هؤلاء إلى وقع هذا الزواج الثاني أو المتكرر على أبنائهم خاصة من الزوجة الأولى، الذين يرون الأب ملكاً خاصاً لهم، ربما أكثر من كونه ملكاً لأمهم..

ولا جدال في أن الشرع أحلّ للرجل الزواج مثنى وثلاث ورباع، لكن وفق شروط مهمة لضمان سلامة الأسرة والحفاظ على ترابطها، إلا أن البعض يلتفون على هذه الشروط، فلا يلتزمون بضوابطها، فلا عدل ولا قدرة على الإنفاق، والأهم لا إشباع لاحتياجات الأبناء من أبيهم.

وفي حقيقة الأمر، أنه مهما حرص الأزواج على تحقيق الشروط التي تتيح لهم تكرار الزواج، فإن المرأة والأبناء يرفضون زواج الأب أيا كانت مبرراته.. ومن هنا أطلقوا على الزوجة الثانية «الضرة»، ربما لتضرر الزوجة الأولى والأبناء منها، وتعرضهم لاضطرابات نفسية قاسية عندما يتزوج الأب، وبرغم أن الطعنة تتلقاها الأم، وتعتبر أنها تنال من كرامتها وكيانها وأنوثتها، إلا أن الحقيقة والواقع يؤكدان أن الأبناء هم الأكثر حسرة وتضرراً، فلا يؤمنون في هذه الحالة بالمثل المصري القائل: «القديمة تحلى ولو كانت وحلة»، بل ينعكس زواج الأب على أبنائه سلبيا على المستويين النفسي والاجتماعي، إضافة إلى انعكاساته السلبية على الحياة الاقتصادية للأسرة الأولى.

بلا أب

وبحسب فاطمة.م، امرأة في العقد الرابع من عمرها: أصبح أمجد ابني غير مهتم بدروسه وهو في المرحلة الإعدادية، يأتي إلى المنزل متأخراً، كما أنه أصبح عصبياً منذ مغادرة والده المنزل..

سكتت برهة قبل أن تضيف بشيء من الأسى: منها لله زوجته الجديدة، زميلته في العمل، منذ فترة لاحظت أنه بدأ يهتم بملبسه ونفسه أكثر من المعتاد، وأصبح يخرج مساء ويأتي آخر الليل فيلقي بنفسه على سريره دون أن يتحدث معي أو مع ابنه.. واستبد بي الشك حتى علمت أنه تزوج سرا من زميلته، وحينما واجهته لم يجد سبيلا من الاعتراف، مؤكدا أنه اختار السكن معها حتى لا تحدث مشكلات بيننا، وبذلك أصبح يأتي إلينا مرتين أو ثلاث في الأسبوع، ولا يقضي سوى ساعات قليلة في كل زيارة، ولا يسأل عن ابنه ومستقبله، وحتى المصروف أصبح أقل مما يكفينا، وهذا أدى إلى إحساس أمجد بأنه أقل من زملائه، وأنه أصبح بلا أب!.

أما تلميذ الصف الثالث الابتدائي طارق، فسألناه فحكا تجربته وهو برفقة والدته قائلا: والدي بدأ يغيب عن البيت كثيراً، وعندما أسأل أمي تقول «إنه مسافر»، لكن زملائي في الحي أخبروني بأنه تزوج من أخرى حسب ما سمعوه من أمهاتهم.. وعندما عاد يوما إلى المنزل سألته فأخبرني بحقيقة ما قاله زملائي، لكنه حاول امتصاص حزني وألمي مؤكدا أنه لن يتخلى عني أو عن والدتي.. ليلتها بكيت بكاء شديدًا، حاولت أن أعيده إلى عالمنا الذي كان جميلا، لكنه قبلني وانصرف، وأصبح يأتينا مرتين في الأسبوع ليلاً، وغالباً ما أكون نائماً فيوقظني ويقبلني على رأسي ويذهب إلى غرفته، وعندما أصحو لا أجده.

سكت برهة ثم أضاف في تأثر شديد: كان يذاكر لي دروسي كل يوم، وكنت أسعد بحكاياته الطريفة التي يقصها علي قبل أن أنام، الآن حرمت من كل ذلك، وعندما أطلب منه شيئا كان يستجيب تارة ويعتذر عشرات المرات على خلاف السابق، حتى رسوم الرحلة المدرسية اعتذر عن دفعها مبررا ذلك بأن التزاماته المادية تضاعفت، وأصبح غير مستعد لتلبية أي متطلبات «ترفيهية»!

عزوة!

وتتطرق أم سامر إلى تجربتها، قائلة: رغم محدودية دخله تزوج من أخرى، لكنه لا يبخل على أبنائه بشيء ويحبهم جدا، لكن للأسف لا يأتي إلى منزلنا إلا في أوقات قليلة وأحيانا يغيب أسبوعين دون أن يأتي، فقط يتصل يوميا للسؤال عن أولاده وعني، لديه ولدان وبنت وبعد إنجابي لابني الأصغر بفترة حدثت لي مشكلة في الرحم وأكد الأطباء أنني لن أنجب مرة أخرى، وكان راضياً بما أعطاه الله من أبناء، لكن والده ووالدته يؤمنان بكثرة الأبناء، وعندما عرفا بمشكلتي مع الإنجاب أشعلا ناراً لا تنطفئ ومارسا عليه ضغوطًا شديدة للزواج من أخرى؛ لأنهما دائماً يتفاخران بكثرة الأبناء ويعتبرانها عزوة للرجل، فضغطا بكل قوة حتى رضخ.. وأخبرني برغبة والديه، فلم أجرؤ على الخوض في هذا الجانب؛ لأنني أعرف عاداتهما، فاختارا له ابنة خالته وهي فتاة جميلة وتصغره كثيراً في السن، وفي ظل غيابه الطويل عانى أبناؤه، وتدنت درجاتهم الدراسية وأصبحوا يشكون كثيراً من غيابه، وأحياناً عندما يأتي ويذهب يصبح البيت جحيماً على الأولاد ولا ينقطع بكاؤهم.

تهيئة الطفل

إلى ذلك، أكد د. محمد المهدي أستاذ علم النفس، أن زواج الأب من أخرى بدون مبررات مقنعة أمر قاسٍ على الأسرة، خاصة الأطفال، ودائما في مثل هذه الحالات تحدث مشاكل كثيرة، لكن لو كانت هناك مبررات وقناعة فلابد أولا من تهيئة الأبناء جيدا، خاصة لو كانوا في مرحلة الطفولة، وإبلاغ الطفل أن الأب قد يتأخر أو يطول غيابه لأيام في الأسبوع، وطمأنته بالتزام الأب تجاهه ومنحه مزيدًا من العطف والاهتمام للتعويض عن غياب الأب، لكن دون الكذب على الطفل، مع ضرورة تجنيبه أي مشاحنات بين الأبوين لما لذلك من انعكاسات سلبية على نفسيته، وقد توقعه في صراع داخلي نتيجة التغيير الذي طرأ على أسرته، ما ينعكس عليه نفسياً واجتماعيًا نتيجة التوترات والهواجس التي قد تقوده إلى السلوك عدائي تجاه والده ومجتمعه، فضلا على ما قد يسببه له من قلق واضطراب وانطواء نتيجة عدم معرفته أو إدراكه للأهداف الكامنة وراء هذا القرار الذي بموجبه تزوج والده من غير والدته، وللأسف في كثير من الحالات التي يتزوج فيها الأب بدون مبررات مقنعة يحدث صراع بين الأبوين، وتطلب خلاله الزوجة الأولى الطلاق باعتبارها متضررة، وفي كثير من الأحيان يتم استخدام الطفل في الصراع بين الأم والأب، بينما المفترض إبعاده عن ذلك وتوفير الحماية له وليس الزج به في قلب المشكلة.

ما يجب على الزوجين

وتؤكد د. سامية الساعاتي أستاذ علم الاجتماع أن الزواج من أخرى قرار قد تحكمه عوامل تتطابق مع الشرع، أو تحكمه ظروف أخرى نفسية أو عاطفية مثل عدم شعوره مع زوجته الأولى بالراحة، أو أنه لا يجد الأجواء الرومانسية التي يحلم بها، ربما لأنها منشغلة عنه بالأولاد دون أن تدرك أن الزوج أيضاً يحتاج إلى رعاية، وهذا جهلا منها باحتياجات الرجل العاطفية والنفسية.. ولهذا يفكر في زوجة ثانية تعوضه عن تقصير زوجته وتلبي احتياجاته التي لا يجدها مع زوجته الأولى، لكن هذا الواقع دائما ما يفرز خلافا حاداً مع الزوجة؛ ما يحول دون تمكنه من القيام بكامل واجباته تجاه أسرته الأولى، وقد يتم استخدام الأطفال أو الأبناء أداة للصراع أو الاستغلال والضغط، وأيضا من الممكن أن تكون الزوجة الثانية سبباً مباشراً في تقصير الزوج تجاه أسرته الأولى، عندما تعطيه ما كان يفتقده مع الأولى وتؤثر عليه من خلال ذلك.

القدوة الفاعلة

أخيرا، يؤكد د.صبري عبدالرؤوف، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن الوالدين هما القدوة الفاعلة في نفوس الأبناء وبينهما يشعرون بالأمان والرضا والعزة، وأن رعاية الوالدين لها أكبر الأثر في التنشئة السوية لأبنائهما؛ مشيرا إلى أن التعدُّد أمر مشروع لحل كثير من المشكلات الاجتماعية، لكن بشروط إن انسلخ منها فقد يدخل في دائرة الحرمة، وقد يتسبب في التفسخ الاجتماعي والأخلاقي وزرع أشجار الكراهية داخل الأسر، ومن ثم يكون سببًا في تدمير حياة أسرة هانئة، فهناك مسؤولية كبيرة على الأب مثل وجوب النفقة، كما قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، فهذا الجانب قد يتأثر سواء كان السبب هو عدم القدرة على الإنفاق على أسرتين في آن واحد أو تحريض الزوجة الثانية للزوج ضد الأسرة الأولى، كما أن الزواج الثاني قد يدفع الأب في ظل مشاغل الحياة إلى إهمال الجانب التربوي لأبنائه وتركه للزوجة فقط، وهذا ما حذر منه صلى الله عليه وسلم، حين قال: (كفى بالمرء إثما أن يضيِّع من يعول)، وقال أيضا: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأب راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته)؛ ولأن الأسرة هي التي تخلق حالة التوازن النفسي لتكوين الشخصية، لذلك وضع الشرع شروطًا لتعدد الزوجات، حتى لا يقبل رجل على الزواج من أخرى لمجرد أن شهوته تغلبت عليه، وهو غير قادر على الإنفاق أو العدل بين الزوجات من ناحية وبين الأبناء من ناحية أخرى.

Email