الإمارات تستأنف الحضارة العربية بسبر أغوار الكوكب الأحمر

من «سوناتة القمر» إلى سيمفونية المريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سبتمبر العام الماضي، وجّه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، بإسناد رئاسة هيئة دبي للثقافة والفنون «دبي للثقافة»، لسمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم. وقد أرفق هذا القرار بالتوجيه بوضع تصور استراتيجية جديدة لعمل «الهيئة»، تستجيب لتطلعات الإمارة، ودورها الريادي في الدولة، وتضع الثقافة في صلب نموذجها الفريد في المنطقة.

جاء هذا التوجيه ليؤكد الأهمية المركزية للثقافة في العملية التنموية الشاملة، ودورها الحيوي في تشكيل التوجهات المستقبلية، ورفع كفاءة البيئة المحلية في التواصل مع المحيط القريب والبعيد، وصنع الهوية الوطنية القادرة على تحقيق القبول العالمي، وإعادة صياغة الوعي العام، بما يتماشى مع التوجهات والمسارات التي يفرضها عصر المعرفة، والاستثمار في العلم، واستشراف المستقبل. ولم يأت هذا لمعالجة إخفاق هنا، أو قصور هناك في عمل «الهيئة». بل مثّل توسيعاً لدور الثقافة الحيوي في تمكين الإنسان من أدوات العصر، وتعزيز قدرته على التعاطي مع مفردات الوعي الجديد في عالم اليوم وتوظيفها، استجابة لمتغيرات كبيرة، لا بد من التعامل معها، وأخذها بعين الاعتبار، واستثمارها على الوجه الأمثل.

في ذلك الشهر نفسه، كان المستجد الأكبر، في الإمارات، والإنجاز البارز الذي شد انتباه العالم بأسره، هو نجاح الإمارات في إرسال أول رائد فضاء إماراتي إلى محطة الفضاء الدولية. وهي الخطوة التي انضمت الدولة بموجبها إلى نادي الحلم الإنس اني الكبير بارتياد الفضاء واستكشافه، باعتباره أحد استحقاقات الدخول الفاعل والحاسمة في اقتصاد المعرفة، القائم على التكنولوجيا وعلوم المستقبل ومبادئ الاستدامة والاتصالات ومجالات العلم الجديدة الدقيقة؛ وهو ما يتطلب إعادة إنتاج وعي جديد يواكب هذه التطورات. وليس هنالك ما هو أكثر إلحاحية من الثقافة، في صنع ذلك.

ريادة الثقافة

«الثقافة» و«المعرفة» توأمان ملتصقان. لا حياة لأحدهما دون الآخر. وما بينهما، وفي بيئتهما، يولد «العلم» ويعيش ويتنفس. وتقتضي التوجهات العالمية نحو اقتصاد المعرفة، توسيع دور «الثقافة» ليشمل، إلى جانب تلبية الحاجات الروحية للإنسان والترفيه، إنتاج «الفكر» و«العلم» و«الإبداع»، بمختلف صنوفه. بما يلبي حاجات الدولة والمجتمع.

إذاً، الثقافة في قلب الاستراتيجية الشاملة، عنصراً فاعلاً، ومشاركاً أصيلاً، وصانعاً للتغييرات المطلوبة، التي تخلق أرضية وبيئة مناسبة للقطاعات الحيوية الأخرى، التي تصنع قوة أي مجتمع ودولة: الاقتصاد والسياسة والعسكرية.

وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد استبقت التحولات الكبيرة في القرن العشرين، التي أفرزها الانتقال إلى عصر ريادة الفضاء، بالحلم الإنساني الفطري والخيال الإنساني والإبداعات في مجالات الفنون.

في الحلم الإنساني الفطري، كان الطيران والتحليق في الآفاق البعيدة، والتحرر من الجاذبية الأرضية، أقدم حلم عرفه الإنسان، واحتفظت به البشرية طوال تاريخها، تتوارثه، وتتناقله من جيل إلى جيل.

وفي الخيال الإنساني، في صلبه، كان يعيش على الدوام الطموح بتحقيق هذا الحلم، «الطيران والتحليق إلى الآفاق البعيدة». أي، إتاحة إمكانية الطيران والتحليق للإنسان عملياً، وبوسائل علمية. وهو ما كان محور محاولات العالم العربي المسلم الأندلسي، عباس بن فرناس. والذي شاركه فيه لاحقاً آخرون من ثقافات أخرى.

وفي الإبداع الفني، لا تزال «سوناتة القمر» للموسيقار العظيم لودفيغ فان بيتهوفن، أشهر نظرات الإنسان الإبداعية، إلى خارج كوكبنا، ولا يزال هذا العمل الإبداعي الخلاق يختزل آلاف القصائد والآثار الإبداعية التي رنت إلى السماء، معبرة عن التوق الإنساني لاستكشاف الفضاء. في حين أن السينما، ذلك الفن الذي تربع على عرش القرن العشرين، انعطف منذ بداياته نحو السماء، وأنتج أول الأفلام التي يصل فيها الإنسان إلى القمر على متن صاروخ.

لقد غير ذلك «الحلم الفطري» القديم و«الخيال البشري» و«الإبداع الإنساني» وعي الإنسان، وأعاد تهيئته ليكون الفضاء في مركز اهتمامه، وفي صلب طموحاته المنطقية.

إنها الثقافة، بأشكالها المختلفة: الحلم والخيال والإبداع، أقوى سلاح لتحدي المستحيل.

رافعة تاريخية

لقد اشتهر العرب والمسلمون على نحو خاص بتطور علوم الفلك، وحققوا إنجازات غير مسبوقة في هذا المجال لا تزال إلى اليوم شواهد على حضارة عظيمة، وثقافة شاملة رفيعة، مثلت رافعة للارتقاء بدورهم التاريخي. ولكن هذه الحضارة العظيمة، لم تلبث أن تآكلت واندثر دورها. وقد مرت عليها قرون على هذه الحال، ما يجعل من المطالبة بإحياء دورها أمراً ملحاً.

لذا، كانت دعوة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إلى «استئناف الحضارة» دون تأخير، فـ«المستقبل يبدأ اليوم». ولم يكتف سموه بهذه الدعوة، ولكنه رعى ويرعى مثل هذا الجهد في مختلف المجالات. ومن ذلك مجال علوم الفضاء.

ولذا، تتوجه الدولة إلى البناء على إرث الآباء المؤسسين، وملاحقة «حلم زايد»، فتولي الثقافة اهتماماً غير مسبوق، وتهيئ الظروف لتوسيع دورها في الحياة العامة.

ولذا، أيضاً، فإن «مسبار الأمل»، ينطلق في مهمته التاريخية، محملاً بمعان ومغاز كثيرة، بالغة الدلالة. منها استئناف الحضارة العربية الإسلامية، استهلالاً ببدء استعادة دورها ومكانتها القديمة في علوم الفلك. وهنا، لا بد من ملاحظة أن سموه يؤكد في كل حديث له على هوية مهمة «مسبار الأمل» التاريخية، فيصفها بالمهمة الإماراتية العربية الإسلامية، إشارة إلى دورها في استئناف الحضارة. وإنها مهمة تحقق 60 مليون كيلومتر من الطموح الإماراتي!

رحلة إلى المستقبل

لقد أطلق سموه الاسم الرسمي للمسبار، «الأمل». ولم يأت هذا الاسم من غير قصد، أو مغزى، فقد أراد فيه، ومنه، أن يكون طارداً لليأس الذي يخيم على شعوبنا، ويجثم في صدور شبابنا؛ فـ«مسبار الأمل» غزا القلوب والعقول قبل أن يرتاد الكوكب الأحمر.

وفي الواقع، فإن مهمة مسبار الأمل، الذي سيصل إلى محطته الأهم بالتزامن مع حلول ذكرى اليوبيل الذهبي لدولة الإمارات العربية المتحدة، ومرور خمسين عاماً على قيامها (2021)، يمثل من جهة ربطاً بين المواعيد الإماراتية المرتبطة بعمر الدولة، وجدولاً زمنياً للإنجاز وإعداد الأجيال الإماراتية والعربية للمستقبل.

وبهذا، ليس من المستغرب أن تتضافر مع المهمة التاريخية حزمة من برامج مبادرات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، موجهة نحو الشباب الإماراتي والعربي، بهدف تمكينهم من علوم الفضاء والتكنولوجيا ولغاتها، ودفعهم إلى تحصيل الاستعداد الثقافي والعلمي، من خلال «تحدي القراءة العربي» و«مليون مبرمج عربي» و«أفضل معلم».. وغيرها. إنها كلها مبادرات تتضافر في نفض اليأس عن النفوس، وتمكين الشباب من أدوات العصر، وتهيئتهم للمستقبل.قيمةوهنا، تتقدم الإمارات وتتصدر اهتمام العالم باستئناف استكشاف الفضاء وارتياده، وتضع هدفاً طموحاً باستيطان المريخ، وتأسيس أول حضور للإنسان على سطح الكوكب الأحمر، «مشروع المريخ 2117».

إن رحلة مسبار الأمل، في مهمته التاريخية، تنقل العالم من واقع صعب يعم الكوكب، اليوم، إلى ثقافة الطموحات الكبيرة. كما أنها تنتشل الإنسان العربي من الظروف القاسية التي تشهدها منطقتنا، إلى ثقافة الأمل والتفاؤل؛ وحسب الإمارات اليوم أنها تقود العالم من «سوناتة القمر» إلى كتابة سيمفونية المريخ المفعمة بالأمل، وأنها تستأنف الحضارة العربية الإسلامية بارتياد الكوكب الأحمر.

بلى، بينما يسترخي كثيرون اليوم على أنغام «سوناتة القمر»، تكتب الإمارات لحنها المبتكر، سيمفونية المريخ.

الإمارات تستأنف الحضارة العربية بسبر أغوار الكوكب الأحمر

رؤية تكاملية

التكاملية في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، تضعنا أمام رؤية منهجية، شاملة، تستبصر الحاجات، وتستعد لها، وتهيئ الإمكانات لخلق الفرص، وصناعة المستقبل، وإعداد جيل قادر على استشرافه ومواجهة تحدياته. وهذه الرؤية، في هذا كله، وثيقة الصلة بالأجندة التنموية والاستراتيجية الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، لا سيما ما تعلق منها بالتنمية البشرية، وإعداد الإنسان الإماراتي للمستقبل، وبناء اقتصاد المعرفة، والمحافظة على المكانة الريادية للإمارات، وتعزيز موقعها بين دول العالم، دولة فاعلة في تعزيز التعاون الدولي في المجالات الحضارية. وفي الواقع، يمثل المشروع الإماراتي الطموح، الذي يتصدره اليوم «مسبار الأمل»، دفعة قوية لبرامج الفضاء العالمية؛ فالتنافس العالمي في هذا المجال، تراخى في الخمسين عاماً الماضية، وبات مشدوداً إلى مدار الأرض، لم يتجاوزه إلا مرة واحدة إلى القمر. وأضحى بحاجة إلى دفقة تعيد إليه حيويته، وتبث فيه الحماس لمواصلة استكشاف الفضاء، وارتياده.

Email