مدارات

وسائل التواصل الاجتماعي بين الانفتاح والعصبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

موجات من الغضب المسموم تلوث منصات التواصل الاجتماعي المصممة أساساً من أجل التواصل والالتقاء والاجتماع بالآخرين، وأسراب من الهجمات، كثيراً ما تكون مجهولة المصدر، تغذي أجواء سياسية متوترة مستقطبة ومشحونة، ففي النهاية، المنشورات الملتهبة تجذب الانتباه وتنتشر بسرعة البرق، ويصاحب كل ذلك انتشار لنظريات المؤامرة، والمعلومات الخاطئة، والشتائم والكلام الذي ينم عن كراهية. فهل صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي تشجع «عقلية الغوغاء»؟

يعرب مارك دونبار في مجلة «ذا هيومانيست» عن اعتقاده بأن وسائل التواصل الاجتماعي، تأخذ الأجزاء الأسوأ لدينا، وتزيدها سوءاً، ويسأل: «هل بمقدورنا تحسينها؟»، ففي النهاية، سيكون من الحماقة إنكار تأثيرها الإيجابي على حياتنا الشخصية والمهنية، ولا مجال للعودة إلى عصر ما قبل الرقمي، بل يتحتم علينا عبوره.

لكن، هناك، في المقابل، إحساساً بالتوتر لا سيما في مشاهدة كيف سهلت تلك الوسائل لقوة مركزية التحكم بما يلفت انتباهنا من عدمه، وكيف تركت الناس على استعداد للانفعال بدلاً من التفكير، وكيف جعلتنا مدمنين.

يشير دونبار إلى صدور عشرات الكتب أخيراً، حول الطريقة التي تُبرز وسائل التواصل الاجتماعي أسوأ الدوافع لدينا، الكراهية والاحتيال والاكتئاب والحسد الخ.. بعضها يركز على الجانب الشخصي النفسي، وبعضها الآخر على تدميرها الانضباط النفسي والقدرة على التفكير النقدي، وأخرى على دورها في الحط من أوضاعنا السياسية، وحتى هناك من يرى تلك المنصات كـ«توجيهات مجتمعية» مسلحة للرقابة ضد الأعداء السياسيين وحظرهم.

علاقات القوة

وفيما يوافق كثيرون على أنها تجعل العالم أسوأ حالاً، هناك بعض الكتاب الذين يعتقدون أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت كبش فداء في الواقع. يقول الكاتب في قضايا التكنولوجيا، نيكولاس كار: المشكلة في«فيسبوك» ليست المنصة فقط، بل نحن أيضاً. يقول إن «فيسبوك» لم تنشر الشائعات عن المسلمين الروهينغا بل المتعصبين على المنصة. وهي لم تدفع شركة تجارية للتلاعب بالناس، بل إن هؤلاء يقومون بذلك نتيجة لعلاقات القوة القائمة وهياكل الحوافز.

فالمشكلة في وسائل التواصل الاجتماعية ليس تجسيدها المباشر لتلك الأشياء، بل تجسيدها لها بسهولة أكبر، حيث تمنح تلك المنصات المنافقين والدجالين وصولاً مباشراً إلى العقول المخدرة، في ظل انتشار الهواتف المحمولة بإمكانية وصول كلي الوجود.

في كتابه «عشر حجج لإلغاء حسابك على وسائل التواصل الآن» يؤكد جارون لانيه أن اللوم لا يقع على الإنترنت أو ما يطلق عليه «نواة» وسائل التواصل الاجتماعي، بل على «الهياكل» التي أسستها تلك الشركات في سبيل كسب المال. يقول إن نموذج أعمالها قائمٌ على «تغيير سلوك المستخدمين وتحويله إلى إمبراطورية للإيجار».

النموذج يقدم خدمة مجانية، في شكل وصول إلى المنصة أو استخدام مجاني لمحرك البحث، وفي المقابل يجمع المعلومات عن المستخدمين، ليس فقط أثناء استخدامهم للخدمة.

وتجني تلك الشركات المال من الإعلانات في الأساس، ومن بيع بيانات المستخدمين إلى طرف ثالث. يعتقد أن «الرقابة تؤدي إلى التلاعب»، وهذا ما نراه حالياً في نموذج أعمال تلك المنصات، حيث بإمكان طرف ثالث أن يدفع مبلغاً من المال ليس مقابل التجسس على المستخدمين وحسب، بل أيضاً لاستخدام ما جرى تعلمه عنهم للتلاعب بهم.

«انتباهنا هو المنتج، وتلك الأعمال تريدنا مشاركين بقدر الإمكان على منصاتها»، يقول دونبار، مما يعني الطلب منا تصفح صفحات لا تعد ولا تحصى، ومشاهدة تعليقات ونشرها، إلخ.. وما هي أفضل طريقة لإبقاء انتباه أحدهم؟ إظهار ما يريد كل شخص مشاهدته، ما يحبه وما يكرهه وما يثير نشوة الخوف والانتقام لديه.

تكثيف النبضات السلبية

في ذلك، يرى لانيه شيئين غير سويين في طريقة جذب انتباهنا. أولاً، أن تلك الصفحات مخصصة للشخص المعني، فلا أحد منا يرى الشيء نفسه، وبناء على ذلك يكتب: لقد تم تعطيل «فهمنا» للآخر، لأننا لا ندرك التجربة التي مروا بها في تغذيتهم على الإنترنت، والعكس صحيح، بالتالي التقمص العاطفي الذي يمكن أن يقدمه الآخرون لنا يجري اعتراضه، لأنه لا يمكننا معرفة المحتوى الذي نُفهم من خلاله، وعلى الرغم من أن وسائل التواصل لم تسبب قصر النظر أو الدوغمائية، إلا أنها تزيدها سوءاً.

شيء آخر يعتقد لانيه أنه على خطأ في نموذج الأعمال لوسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط تكثيفها لوتيرة النبضات السلبية، بل ميلها أيضاً إلى تفضيل وجهات النظر «الأكثر عصبية واستبداداً ورهاباً وقبلية»، يقول لانيه: «هذا النموذج الاعمالي لا يقود السياسة إلى اليمين أو اليسار بل نزولاً باتجاه الحضيض».

في المقابل، يعرب دونبار عن تشكيكه بفكرة أن النموذج الاعمالي للمنصات لا يميل إلا نحو الانحطاط، بل يرى أن بعض المعتقدات والتحيزات أكثر ميلاً من غيرها لهذه الاندفاعة، يقول ليس مصادفة أن القصص العشر الأكثر مشاركة «هي دائماً لمواقع خاصة باليمين المتطرف».

فعلى مدى ستة أعوام، كان هناك انبعاث للنزعة الاستبدادية لليمين المتطرف، وقد حصد معظمهم الشعبية والقوة مباشرة عبر وسائل التواصل، وكثير منهم عبر نشر الأكاذيب ضد الخصوم، وأحياناً بمساعدة شركات تسويق.

يعتقد أن هيمنة اليمين المتطرف على الساحة السياسية لوسائل التواصل لم يكن محض صدفة. فاليمين المتطرف موجود حالياً كقوة معارضة، وسياساته معارضة للنزعة الليبرالية الثقافية، أي أنه يؤيد أو يعارض شيئاً لخصومه، وهذا النوع من المعارضة يستلزم الغضب الدائم.

«الغضب الدائم هو بالضبط ما تريده منصات التواصل الاجتماعي، لأن الغضب يعني المشاركة الدائمة» يقول دونبار. نموذج الأعمال هذا قد يجلب كل السياسة نزولاً إلى الحضيض، لكنه يميل بنيوياً إلى السياسة التي تعتمد على المجادلة بدلاً من السعي وراء الحقيقة، والمشاعر السلبية أكثر من الشك الأخلاقي. وهذا النوع من السياسة موجود في جانب أكثر من آخر، في اعتقاده.

في المعرفة قوة

مع ذلك، فهو متأكد من أن لا أحد سيغادر وسائل التواصل الاجتماعي، وأن المنصات لن تغير نموذج أعمالها لأنه يدر عليها المال الوفير، «ففي المعرفة قوة»، وبفضل نموذج الأعمال القائم لدى تلك المنصات الحافز المؤسسي لمراكمة البيانات بشأن المستخدمين.

وفيما يعتقد رشكوف بأن نواة وسائل التواصل هي أيضاً نواة اقتصادنا برمته، فإن الموضوع أبعد من ذلك بالنسبة إلى دونبار، يقول «هذه المنصات تعمل على إحلال النشاط مكان الحقيقة، حتى باعتراف رشكوف». فكيف يمكن الحد من مشكلة الحسابات الكاذبة، والجماعات المزيفة؟

يشير دونبار إلى مفارقة أنه في الوقت الذي للجميع صوت هذه الأيام، ضاق نطاق الرأي والتعبير إلى حد كبير، مشيراً إلى ما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» كيف استخدم المسؤولون التنفيذيون في «فيسبوك» إحدى شركات الضغط لنشر الكذبة بأن انتقاد عملاق وسائل التواصل الاجتماعي متجذر في معاداة السامية، ليؤكد مدى مركزية استمرار صناعة الرأي حالياً.

يقول دونبار: "إذا كانت أفلام الرعب مؤشراً على المخاوف الجماعية للمجتمع، فليس مستغرباً أن تحوي قصصاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، لأن ما نجده على وسائل التواصل: التحجر الفكري والانحطاط الروحي والغضب السياسي، كإلهاء عن التغيير السياسي، في نسخة مكثفة عما هو خطأ في مجتمعنا وأنفسنا.

Email