مدارات

نقطة تحوّل في الطب تدفع البشرية نحو المجهول

ت + ت - الحجم الطبيعي

لمشاهدة الغرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا

 

تغيير السمات الوراثية للبشر أصبح حقيقة وليس مجرد احتمال، إثر إعلان العالم الصيني، هي جيانكوي، في نوفمبر 2018 عن نجاح تجربته بتعديل الحمض النووي لتوأم أجنة بشرية ضد مرض فيروس نقص المناعة البشرية، وهي التجربة التي وُوجهت بإدانة واسعة بزعم أن الطبيب تجاهل المعايير الأخلاقية وسلامة مرضاه، ما أعاد إلى الواجهة الجدل الدائر بشأن التوقعات المستقبلية لمثل تلك الاختبارات الطبية، ففي ثنايا تلك التكنولوجيا المرتبطة بتعديل الشيفرة الوراثية للبشر معضلة أخلاقية بين وعود بالشفاء من أمراض مستعصية من جهة، والقلق بشأن احتمال التسبب بمشكلات أكبر غير معروفة للأجيال المقبلة، عدا عن استخدامات مقلقة في «تصميم أطفال حسب الطلب» وبروز علم «تحسين» النسل. «نحن أمام نقطة تحول في الطب، وعلى أعتاب تغيير رئيسي»، تفيد الطبيبة ماري تود برغمان في معهد الخلايا الجذعية بجامعة هارفرد، وهو المعهد الذي أفاد أحد أطبائه في ديسمبر، وهو الطبيب فيرنر نويهاوسر، أنه يخطط للبدء في استخدام تقنية «كريسبر» لتعديل الجينات في تغيير شيفرة الحمض النووي داخل خلايا الحيوانات المنوية لأحد الأشخاص، لمعرفة إمكانية خفض خطر الإصابة بمرض الزهايمر في المستقبل.

وكان العلماء منذ مدة يختبرون على حيوانات تعاني من اضطرابات شبيهة بالبشر لكشف أي عيوب في الجينات، ويطورون علاجات محتملة لضمور العضلات وأمراض فقر الدم المنجلي والسرطان، وغيره. وتلك الأبحاث كانت تزدهر في الآونة الأخيرة بفضل ابتكار تقنية جديدة تعرف باسم «كرسبر -كاس9»، سريعة ورخيصة وبسيطة الاستخدام، ويقال إنها قادرة على تعديل الجينات بدقة داخل الخلايا الحية، وإيجاد أقسام معينة من الحمض الريْبِي النووي المنزوع الأوكسجين «دي إن إيه»، لقصها وإصلاحها واستبدالها.

التقدم كان سريعاً للغاية إلى درجة أن الحوار حول القضايا الأخلاقية والمجتمعية المحتملة والمتعلقة بالسلامة كان يجاهد للحاق بالركب.

مأزق أخلاقي

يقول أستاذ كلية هارفرد للحقوق، غلين كوهين، إن عمليات التعديل الجيني تأتي بتنوع كبير مع عواقب كثيرة، ويحتاج أي نقاش أخلاقي عميق أن يأخذ بعين الاعتبار تلك الفروقات، فتعديل الخط الجنسي أو «خط الخلايا الإنتاشي»، الذي زعم الدكتور الصيني أنه طبقه، يختلف تماماً عن العلاجات «الجينية الجسدية» التي تعمل حالياً على تغيير مجالات الطب، فبينما التعديل الجيني للخلايا الجسدية يؤثر فقط في بعض خلايا المريض، فإن التعديل على «الخط الإنتاشي» يؤثر في جميع خلايا الكائن الحي، بالتالي يتم تمريره إلى الأجيال المقبلة، ما يجعل من الصعب التنبؤ بعواقبه المحتملة.

بالتالي هناك قيود كبيرة على استخداماته، لا سيما أن هناك مخاطر تعديل الجين الخطأ، ما يدعى «التأثير خارج الهدف»، حيث يمكن لتعديل أحد الجينات إصلاح مشكلة لكن التسبب بمشكلة أخرى، أو التسبيب بما يدعى «الفسيفساء الجينية»، عندما يكون لدى الشخص مزيج من خلايا سوية وأخرى مصابة بالطفرة.

فوائد ومخاطر

بالتالي، يطرح الباحثون عدد من التساؤلات عما إذا كانت الفوائد على صحة البشر تفوق المخاطر؟ أحد رواد تقنية «كرسبر» لتعديل الجينات، فنغ تشانغ، دعا فوراً إلى وقف النشاط على زراعة أجنة معدلة في البشر بعد تجربة الطبيب الصيني، بسبب المخاطر المرتفعة جداً عند استخدامها في الجنين، وأوضح لاحقاً في كلية كنيدي في هارفرد: «المجتمع بحاجة لاكتشاف ما إذا كنا جميعاً نريد القيام بذلك، وما إذا كان الأمر مفيداً للمجتمع، وهذا يستغرق وقتاً، فإذا مضينا بذلك، فنحن بحاجة إلى مبادئ توجيهية أولاً، حتى يمكن المضي بطريقة مسؤولة بالإشراف المناسب والضوابط على الجودة».

مواقف متضاربة

يقول العلماء إن الهدف هو وقف انتقال الأمراض المميتة من الأهل إلى أطفالهم، ويدافع أستاذ علم الوراثة في جامعة هارفرد، جورج تشرش، في مقال نشره في مجلة «نايتشور» عام 2015، عن الاختبارات قائلاً: «إن التكنولوجيا مهيأة لتحويل الطب الوقائي»، ومحذراً من أن حظر العلماء من استكشاف عملية تعديل الجينات الموروثة يمكن «أن يؤدي إلى إضعاف أفضل الأبحاث الطبية ويدفع بدلاً من ذلك بهذه الممارسة بشكل سري إلى السوق السوداء والسياحة الطبية غير المضبوطة».

لكن اللجنة الدولية للأخلاقيات الأحيائية التابعة لمنظمة «اليونيسكو» لها موقف واضح بحظر تعديل الحمض النووي للبشر لتجنب أي عبث غير الأخلاقي بالسمات الوراثية، وفيما تقرّ بأن تقنية «التعديل الجيني كرسبر-كاس9» لديها القدرة على علاج أو حتى الشفاء في أمراض معينة، مثل أمراض الخلايا المنجلية والتليف الكيسي وبعض السرطانات، تؤكد أن «التدخل في الجينوم البشري يجب القبول به فقط لأسباب وقائية وتشخيصية أو علاجية ومن دون إجراء تعديل على المتحدرين من النسل»، مضيفة أن البديل «يعرض للخطر الكرامة المتأصلة والمتساوية لجميع البشر ويجدد علوم تحسين النسل»، ويجعل «تصميم أطفال على الطلب أكثر احتمالاً» في المختبرات للتحكم بالسمات الوراثية مثل المظهر والذكاء.

أخلاقيات علم الأحياء

وما يدعو للقلق برأي مدير مركز أخلاقيات الطب الحيوي في كلية هارفرد الطبية، روبرت تروغ، هو كيف يمكن للمجتمع العلمي تنظيم نفسه مع تكنولوجيا سهلة الاستخدام نسبياً، مثل كريسبر؟ وهو يعرب عن اعتقاده بأنه إلى جانب الطفرات العشوائية التي غالباً ما تؤدي إلى ولادات بعيوب خطيرة، يؤدي تلاعب البشر ببيئتهم وتعريض أنفسهم لكيميائيات كثيرة أيضاً لتغييرات غير معروفة في الجينوم لديهم، فإذا كانوا قلقين بشأن إجراء تدخل دقيق لعلاج الأمراض المختلفة، يجب أن يظهروا اهتماماً بهذا الموضوع أيضاً.

وفيما يتفق المؤيدون لتعديل الجينات بأن تحديد ما هو مناسب من عدمه سيستغرق وقتاً طويلاً وعناية كبيرة على الصعيد الأخلاقي ومبادئ توجيهية صارمة لسلوك مهني مسؤول، وإشراف ورقابة، يرى بعضهم مثل عميد «كلية الطب في هارفرد»، جورج كيو دالي، أن الوقت قد حان للمضي قدماً من آفاق ما يجوز أخلاقياً للبدء في تحديد ما يبدو عليه المسار الفعلي للتطبيق السريري، وما ستكون المعايير التنظيمية للتقدم بهذه التكنولوجيا»، لكنه يشير، مع ذلك، إلى أن المجتمع الطبي قد لا يكون مهيأ للذهاب في هذا المسار، فهناك حاجة لتحديد العقبات إذا كان لا بد من المضي قدماً بمسؤولية وأخلاق، مشدداً: «إذا كنا لا نستطيع التغلب على تلك العقبات، فلا نتقدم إلى الأمام».

بدورهم، يحذر آخرون من أنه قبل الانتقال إلى العيادة يجب على المجتمع العلمي التوصل إلى أفضل طريقة لقياس النجاح، فهناك اختلافات إلى الآن بشأن جودة البيانات وكيفية تفسيرها، على سبيل المثال، قد يكون الطبيب الصيني في المقابل زاد مخاطر تعرض التوأم للإصابة بفيروس الأنفلونزا. كما يدعو غيرهم إلى تركيز النقاش على المخاطر الاجتماعية بدلاً من الضرر الجسدي المحتمل على الأفراد، ويشيرون إلى أن الفتاتين التوأم اللتين حاول الدكتور الصيني علاجهما غير مصابتين بمرض، بل كان الدافع للتدخل العيش في بلاد يعد مرض «الأيدز» فيها وصمة عار، ما يطرح تساؤلات ما إذا كنا سنقرر أنه من الجيد تعديل أطفال لتلبية أفكار خاصة بالمجتمع؟ هذا عدا الجانب المتعلق بالفرص غير المتساوية للوصول إلى أي تعديلات جينية صحية مستقبلاً بين الفقراء والاغنياء.

وكان مؤتمر القمة الدولي الثاني لتعديل الجينوم البشري المنعقد في هونغ كونغ في 29 نوفمبر، قد شهد بروزاً لوجهات نظر تفيد بأن التكنولوجيا الهادفة إلى تغيير الوراثة تتحسن بسرعة ولها ميزات تجعلها آمنة، مما يعني تبرير استخدامها بشكل أوسع نطاقاً، ومع ذلك، يبقى التخوف من تداعيات يستحيل السيطرة عليها مرفرفاً فوق الرؤوس، كما شبح تصميم أطفال وفقاً لسمات معينة. وتعرب الكاتبة الأمريكية في منظمة علم الوراثة والمجتمع، مارسي دارنوفكسي، عن رأيها بأن: «الحجج الطبية ضعيفة والتبعات الاجتماعية المحتملة خطيرة».

 

في المدى القريب، ما سنراه هو تطور التكنولوجيا في التطبيقات على «الخلايا الجسدية» لعلاج الأمراض دون تمرير التعديلات للأجيال المقبلة. ومع تطور التكنولوجيا سوف نتعلم بشأن سلامتها وفعاليتها وأفضل الطرق لتطبيقها، عندها ربما نكون مستعدين لتطبيقها على الأجنة.

فنغ تشانغ

(أحد مبتكري تقنية «كرسبر»- معهد هارفرد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا)

 

مصطلح «أطفال الأنابيب» هو مصطلح مخيف عن قصد. لكن بعد ولادة لويز براون، أول طفل بالتلقيح الاصطناعي بصحة جيدة منذ 40 عاماً، تغيرت المواقف بشكل جذري. وانقلبت الاخلاقيات 180 درجة.. إذا ثبت أن هذا التوأم المعدل سليم ومعافى، سوف تُطرح على نطاق البحث نقاشات مختلفة للغاية.

 جورج تشرش

(أستاذ علم الوراثة في جامعة هارفرد)

 

يجب أن تقود الأمم المتحدة النقاش بشأن التعديل الجيني، ذلك أن مهمة الوساطة بين أوجه التقدم في التكنولوجيا الحيوية والشواغل المجتمعية الأوسع نطاقاً، يجب وضعها في مؤسسات تمثيلية مثل الأمم المتحدة.

ــ  ماتياس براون (جامعة فريدريتش- إلكسندر في ألمانيا)

ــ  داريان متشام (جامعة بريستول في بريطانيا)

 

يشكّل التعديل الجيني قوة عظمى قادرة على تعديل المبادئ الجوهرية للبيولوجيا، والمجتمع بأكمله يجب أن يكون جزءاً من النقاش حول ما يجوز القيام به وما لا يجوز.

 إي بول زهر

(أستاذ علم الحركة والأعصاب في جامعة فيكتوريا- كندا)

صفحة متخصصة تصدر عن قسم الترجمة

Email