مدارات

مستقبل التلفزيون في عصر التكنولوجيا الرقمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تغيرت عادات مشاهدة التلفزيون في العقد الأخير، بفعل التكنولوجيا الرقمية وتغير أذواق المشاهدين وجملة تحولات اجتماعية واقتصادية، وقد تمكن عمالقة تدفق البث الرقمي مثل «نتفليكس» و«إتش بي أو» وغيرها، من تقديم نموذج جديد ناجح لمشاهدة التلفزيون يتسم بمزيد من الكثافة والتنوع والتخصيص أكثر من أي وقت مضى، مما طرح السؤال المشروع، هل فقدت قنوات التلفزيون التقليدية أهميتها؟

تعتقد الكاتبة آنا لشكوفيتش في صحيفة «نيو ستايتسمن» أن هناك نهجاً جديداً في طريقة سرد القصص في المسلسلات التلفزيونية ذات الحبكات المعقدة والقصص المتعددة والعرض المستمر، وهذا الأمر يختلف عن السابق، حيث التلفزيون كان مصمماً خصيصاً لاستيعاب المشاهد العادي غير المنتظم الذي يشاهد التلفزيون بشكل عرضي، وتنقل عن المنتج التلفزيوني وأستاذ فنون الإعلام في لندن، جون أليس، أن التلفزيون كان يفترض ألا يكون تجربة مكثفة، كما حال السينما التي أوجدت عاشقين «شاهدوا كل شيء وعلموا بأقل التفاصيل غير المنطقية»، ويختلف عن الأفلام التي تم إنتاجها لجمالها وكمالها الفني بدلاً من تحقيق الأرباح.

مشاهدة مستمرة

حالياً تغيرت عادات مشاهدة التلفزيون بفضل قنوات الاشتراك الرائدة مثل «إتش بي أو» وشركة «إيه إم سي» وخدمات البث بالاشتراك، مثل «نتفليكس» و«أمازون» وغيرها، إلى حد إدخال عبارة «مشاهدة مستمرة» في معاجم اللغة.

تؤكد الكاتبة أن الناس سعداء اليوم في استهلاك برامج تلفزيونية متعددة الحلقات أطول مدى وأكثر تعقيداً وأبطأ حالاً، تتطلب المزيد من الاندماج واستيعاب تحديات الشخصيات المعقدة، بل الاستمرار في مشاهدة المسلسلات حتى بعد أن يُقتل الأبطال وينتهي دورهم، حتى عندما تعيد البرامج اختراع نفسها وتغير إعداداتها. اليوم يتم تعريف التلفزيون من قبل مشاهد شغوف متعطش، فماذا يعني ذلك بالنسبة إلى البث التلفزيوني؟

تبدو البيانات قاتمة، تفيد الكاتبة، مع ارتفاع أعداد مستخدمي خدمات تكنولوجيا البث الرقمي، وتراجع المشتركين بالبث التلفزيوني العادي.

ففي الولايات المتحدة، مليون أميركي ألغوا اشتراكهم في الكابل أو الأقمار الاصطناعية في الفترة بين يوليو وسبتمبر، وفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»، وهذا من أكبر الانخفاضات الموسمية على الإطلاق.

وفي المملكة المتحدة، أفادت هيئة الاتصالات الحكومية (أوفكوم) أن البث الرقمي في أوائل العام الماضي تجاوز البث التلفزيوني التقليدي للمرة الأولى، وهناك الآن المزيد من الاشتراكات في المملكة المتحدة لـ «نتفليكس» و«آمازون» و«ناو تي في» (15.4 مليوناً) مقارنة بخدمات «التلفزيون التقليدية المدفوعة» كتلك التي تقدمها «سكاي» و«فيرجن ميديا» و«بي تي» و«تاك تاك» (15.1 مليوناً)، وأن هناك أسباباً تدعو «بي بي سي» للقلق بصعود البث التدفقي الرقمي، حيث ألغى 3.5 ملايين مقيم في بريطانيا رسوم الرخص للمحطة بين 2013 و2017، بمعدل مليون شخص في السنة تقريباً.

إحصاءات مقلقة

وبشكل متزايد، يبحث المشاهدون عن نوع العروض التي تصنعها خدمات بث التدفق الرقمي التلفزيوني.

ففي مسح أخير، أفاد أكثر من ثلث المشتركين الذين شملهم استطلاع عن «نتفليكس»، إنهم سجلوا لمشاهدة «اوريجينالز» لنتفليكس (برامج جديدة وأفلام مصنوعة من جانب نتفليكس مثل «ذا كراون» بدلاً من برامج موجودة مرخصة للخدمة مثل «فرندز») مما يُظهر أن المشاهدين يرون الخدمة كمنتج لمحتوى أصيل ذات جودة عالية يستحق أن يدفعوا للحصول عليها.

هذا التصور قد يزداد بشكل ملحوظ خلال الفترة المقبلة، تقول الكاتبة، التي ترى ما يدعو للقلق في تلك الإحصاءات بوجه خاص، لأن أموالاً طائلة كان يجري توظيفها في منافسة بميزانيات عالية من خدمات البث الرقمي، وتلك كانت تزيد استثماراتها على البرامج الجديدة فقط.

في 2018، كانت نسبة 85% من إنفاق «نتفليكس» على المحتوى المبتكر، ما يعادل 13 مليار دولار، وفقاً لصحيفة «ايكونوميست» نقلاً عن مصرف «غولدمان ساكس»، وهذا أكبر بكثير من أي محطة بث أمريكية، بل حتى يتجاوز أربعة أضعاف ما تنفقه الشبكات التقليدية الأكبر في المملكة المتحدة مجتمعة.

وقد بات المشتركون في خدمات البث الرقمي يحصلون على برامج بميزانيات أعلى بكثير: ديكورات رائعة ومواقع غريبة ووجوه مشهورة ومواهب مكلفة، مما يخولها لتحمل مزيد من المخاطرة.

ومتحررة من أغلال جداول أوقات الذروة، تقوم خدمات البث الرقمي بتخصيص صفحات المستخدم الرئيسية استناداً إلى سجل المشاهدة، بحيث يشاهدون البرامج التي من المحتمل أن تثير اهتمامهم. وتحدد «نتفليكس» «مجموعات الذوق» وتجمع المشاهدين معاً وتدفعهم نحو ما قد يثير انتباههم.

بهذه الطريقة فإن نوع العروض التي يمكن أن تضعف في الجدول الزمني التقليدي السائد يمكن أن يكون لها نوع جديد من الجاذبية المستهدفة على الإنترنت، تفيد الكاتبة، وهذا يعني أيضاً عدداً أقل من المشاهدين المصابين بخيبة الأمل، من الناحية النظرية.

وفي غضون ذلك، تزداد المنافسة على البث التلفزيوني حدة. خلال العام الماضي، أطلقت «يوتيوب» خدمة بث رقمي قائمة على الاشتراكات «يوتيوب بريميوم» ببرنامج من الخيال العلمي بملايين الدولارات يدعى «أوريجون». ووضعت «فيسبوك» ثقلها وراء خدمتها «فيسبوك واتش»، مع طبعة أمريكية جديدة للعرض الترويجي الناجح عالمياً «سكام» والكوميديا السوداء «كوين أمريكا»، من بطولة كاثرين زيتا جونز.

وفي أواخر 2019، من المقرر أن تطلق «ديزني» خدمة البث الرقمي «ديزني +»، وأن تطلق «ورنر ميديا» التابعة لشركة «إيه تي أند تي» خدمتها هذا العام.

بذور السقوط

لكن الانتشار الهائل للمحتوى قد يعني أن البث الرقمي يخلق بذور سقوطه، وفقاً للكاتبة، التي تقتبس كلام المدير التنفيذي لشبكة البث «إف اكس» جون لاندغراف في عام 2015، عن «ذروة التلفزيون»: «هناك الكثير لمشاهدته وقد أُرهق الجمهور»، وكان لاندغراف قد تنبأ بانفجار الفقاعة العام الماضي.

وترى الكاتبة بعض الحقيقة فيما يقوله، لا سيما وأن «يوتيوب»، بعد أن أنفقت الملايين على «أوريجون» الذي تم استقباله بشكل ضعيف، قلصت إنفاقها على البرامج النصية وفقاً لمجلة «هوليوود ريبورتر»، وابتعدت عن نموذج الاشتراكات، وتعتقد الكاتبة أن كلاً من «فيسبوك» و«أبل» قد تواجهان مشكلة مماثلة، مع شعورهما بأن الإنفاق الكبير لا يتَرجم بالضرورة إلى أرقام مشاهدة عالية.

«نتفليكس» نفسها التي تشهد ارتفاعاً في أعداد المشتركين والإيرادات، أنفقت في الربع الثالث من العام الماضي 859 مليون دولار في صناعة أفلام وعروض أكثر مما دفعه الـ 130 مليون مشترك لديها لمشاهدة تلك العروض. وانخفضت أسهم شركات «فيسبوك وأبل وأمازون ونتفليكس وغوغل» في عام 2018، كما تراجعت حصص «نتفليكس» بنسبة 37% ما بين يوليو وديسمبر.

تقول الكاتبة إن توسع التلفزيون يعني أن الجمهور لن يقبل بعملية تكرار جدولة البرامج، مشيرة إلى أن مسلسلات مثل «إيست اندرز» لـ «بي بي سي» استنزفت ملايين المشاهدين البريطانيين على مدى العقد الماضي، كما برامج الواقع والترفيه «ذا اكس فاكتور» لـ «أي تي في». لكن البرامج التي تم تجديدها والدراما الجديدة اللامعة مثل «بودي غارد» لـ «بي بي سي» جذبت أعداد مشاهدة تحسدها عليها خدمات البث الرقمي، مع 17.1 مليون شخص شاهدوا البرنامج على مدى 28 يوماً، بالمقارنة، مع 16 مليون مشاهد لـ «غيمس أوف ثرونز» على «اتش بي أو».

تفيد الكاتبة ربما تستطيع هيئات البث التقليدية أن تنجو من خلال التمسك بقوتها، إذا غدت مشاهدة التلفزيون أكثر كثافة، فهذا يعني أن الرغبة في التحدث والتحليل التلفزيوني قد ازدادت بشكل كبير.

تنقل الكاتبة عن رئيس «بي بي سي» ديفيد كلمنتي، رأيه في التحديات الهائلة التي تواجه الشركة للحفاظ على المشاهدين لا سيما الشباب في العصر الرقمي، وما أفاد به بأن الهيئة في أقوى حالاتها عندما يجري تجميع فئات عمرية لمشاركة لحظات وطنية، وكيف بعض البرامج، كالزفاف الملكي وكأس العالم والدراما الشعبية، تجمع الناس معاً، لتؤكد أن الناس لا يزالون متعطشين للتلفزيون الذي يتجاوز «مجموعات الذوق» ويتحول إلى جزء من المحادثة الوطنية، فإذا ما أحسن تدبيره، برأيها، يمكن لتلفزيون «الحدث» أن يحمل المفتاح لبقاء تلفزيون البث.

Email