مدارات

تهيئة المعلم لتحقيق أهداف التنمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«دخول المدرسة لا يعني التعلم»، تقول الكاتبة لانت بريتشت في كتابها «إعادة إحياء التعليم»، فهناك 250 مليون طفل في العالم لا يستطيعون القراءة والكتابة أو القيام بعمليات حسابية أساسية، برغم أن العديد منهم دخلوا المدارس لبضع سنوات، والعالم يمر بأزمة تعلم عالمية، تفيد منظمة «اليونيسكو»، وهذه الأزمة كانت تتفاقم أخيراً، مع انتقال الطلب في سوق العمل باتجاه المهارات الإدراكية المعرفية غير الروتينية، بسبب الأتمتة.

المشكلة هي أن المناهج المدرسية في كثير من البلدان النامية لا تنظر في التغييرات الحاصلة، وإن فعلت، فإن أنظمتها التعليمية لا تمتلك الأدوات للتعامل مع المهارات الأكثر تعقيداً، تقول أستاذة التعليم في جامعة هارفرد، كلوديا كوستن، متسائلة عما ينبغي أن يكون عليه دور المعلم في تلك البلدان، التي ينبغي أن تسرع الخطى للتعلم من البلدان التي حسنّت نظم تعليمها، والقيام بإصلاح مناهج مؤسسات التعليم العالي لإعداد أساتذة المستقبل.

وعلى مدى أجيال، كانت طرق التعلم محور نقاشات عديدة، وقد ظهرت عدة نظريات حول أفضل سبل التعلم، وتلك النظريات على تنوعها شكلت منبعاً لاستراتيجيات وتكتيكات وتقنيات تدريس، وكانت ذات فائدة في اختيار وصفات فعالة للتغلب على مشكلات تدريس معينة.

ويؤكد الخبير غلين سنلبيركر، أن الأساتذة الذين يعالجون مشكلات تعلم عملية لا يمكنهم تحمل «ترف تقييد أنفسهم بنظرية واحدة، بل ينبغي أن يفحصوا كل نظريات العلوم الأساسية التي طورها علماء النفس، واختيار المبادئ والمفاهيم التي تبدو قيّمة لوضع تعليمي معين».

من التدريس إلى التعلم

وعلى العموم، يتحدث الخبراء عن ثلاث مدارس أساسية للتعلم: السلوكية والإدراكية والبنائية. وعلى مدى سنوات، كان اهتمام المدرسة السلوكية منصباً على تحفيز الطالب للحصول على الاستجابة أو تعديل السلوك المرغوب لديه، إلى أن جاءت المدرسة الإدراكية، التي انصب تركيزها على بنية معارف الطالب نفسه.

هذا التحول من المدرسة السلوكية (حيث التشديد على تعزيز أداء الطالب عبر التحفيز-الاستجابة والتكرار والمراجعة)، إلى المدرسة الإدراكية (حيث التشديد على تشجيع العمليات العقلية لدى الطالب)، أوجد تحولاً موازياً من الاهتمام بمواد التعليم إلى الاهتمام بالطالب نفسه وتفاعله مع نظام التدريس، حيث بات المتعلم مشاركاً نشطاً في عملية التعلم، وأفكاره ومعتقداته ومواقفه وقيمه ذات أهمية، أما دور الأساتذة ومصممو الدروس، فيكمن في معاونته في تنظيم تلك المعلومات بالطريقة الأمثل.

وقد تبين أن المدرسة الإدراكية أكثر ملاءمة من السلوكية في تفسير أشكال من التعلم أكثر تعقيداً، مثل (تطوير اللغة، حل المشكلات، توليد الاستدلال، معالجة المعلومات، والتفكير النقدي)، يقول الخبيران بيغي ارتمير وتيموثي نيوباي، في مقالة بعنوان «السلوكية، الإدراكية، البنائية: مقارنة مزايا من تصور تصميم التدريس».

وتلا ذلك بروز مدرسة جديدة، تسمى "البنائية"، والتي تقوم على مفهوم أساسي، هو "أن التعلم يحصل دوماً في سياق، وأن السياق يشكل رابطاً لا ينفصم عن المعرفة المتضمنة فيه"، فما نعرفه عن العالم الحقيقي ينبع من تفسيرنا الخاص لتجاربنا.

وفي سبيل أن يكون التعلم ذا معنى ودائماً، ينبغي أن يشمل: النشاط (الممارسة) والمفهوم (المعرفة) والثقافة (السياق).

ويقول الخبراء إن الكثير مما ينبغي علينا تعلمه، يشمل معارف في مجالات تفتقر إلى البنية المنظمة، وأنه للبنائية فائدة في مراحل متقدمة من استحواذ المعرفة، حيث مفاهيم خاطئة أولية، وتحيزات تم الاستحواذ عليها خلال فترة أولى من التعلم، يمكن اكتشافها والتداول بشأنها، وإذا لزم الأمر تعديلها أو إزالتها.

ولهذا يجري تشجيع المتعلمين على بناء فهمهم الخاص، ومن ثم التحقق من صحة تلك التصورات، وبناء على ذلك، لا يرتبط هدف الإنجاز بالمضمون كثيراً، بقدر ارتباطه بعملية البناء.

كفاءات متنوعة

حَوّل الانتقال من السلوكية إلى الإدراكية والبنائية، التركيز "من التدريس إلى التعلم"، ومن النقل السلبي للحقائق إلى التطبيق النشط للأفكار على المشكلات. ويعتقد خبراء التعليم بأن الطلاب الذين يتعرضون لتلك المقاربات التعليمية، يكسبون كفاءات مختلفة. فالإنسان لا يتعلم الحقائق بالطريقة نفسها التي يتعلم المفاهيم وحل المشكلات، ومن المهم أن يكون الأساتذة قادرين على الاختيار، بذكاء، الطرق الملائمة لتحقيق نتائج على النحو الأمثل.

وعلى ذلك، ترى كوستن، التي عملت في مجال التعليم في ريو دي جانيرو، أهمية التأهيل قبل الخدمة ومسار التوظيف للمدرسين لإدارة تلك الأدوار الأكثر تعقيداً، في تدريسهم اليومي.

وتؤكد على أهمية التقدم باتجاه نموذج، يبعد عن رؤية المعلم كمزود خدمات للصف، بل أكثر كوسيط في عملية تطوير المهارات، مثل تعلم القراءة والكتابة والحساب، والمهارات الإدراكية العليا، أو المهارات الاجتماعية والعاطفية.

وترى إمكانية تطوير تلك المهارات بشكل أفضل عبر التفاعل، وليس الخطابات أو النسخ عن اللوح، كما يفعل معظم الأساتذة، كما أن تطوير مهنة الأستاذ، ينطوي على دمج فكرة أنه جزء من فريق، بالإضافة إلى كونه وسيطاً، وأن التدريس ليس عملاً معزولاً، حيث ينبغي أن يتعلم التعاون والمشاركة الإبداعية، وكيفية تنظيم الصفوف ومراقبة عمله.

في البلدان النامية خصوصاً، تقول إن هناك حاجة إلى متعلمين متكيفين قادرين على العمل بشكل جيد، عندما تكون الظروف الأمثل غير متوفرة، والحلول تعتمد على الابتكار والارتجال والمناقشة والتداول الاجتماعي.

لكن تنظيم صفوف حيث المشاركة المتواصلة متوقعة، هو أمر غاية في الصعوبة بالنسبة إلى أساتذة مبتدئين، تلقوا تعليمهم عبر أساليب تعليم لا تتطلب مشاركة الطلاب، لا سيما أن المعلمين الحاليين يفتقرون في العادة إلى تلك المهارات لمواجهة واقع معقد.

وتشير إلى فاعلية تبني مزيج من استراتيجيات تعليم مكتوبة، مع إفساح المجال للتجربة ودعم الابتكار، كما تشير إلى ما أظهرته الدراسات، من أن أساتذة غير مهرة استفادوا كثيراً من دعم إضافي، مثل تنظيم صفوف مهيئة مسبقاً، وصفوف إلكترونية، وكتب مدرسية أكثر تفصيلاً.

مقترحات خضعت للتجربة

حتى في ظل ظروف تتسم بالصعوبة، حيث تنقص الأساتذة المعرفة، ويفتقرون إلى المواد، فإن التعلم في كيفية تقديم صفوف أكثر تشاركية، وإتاحة فضاء للطلاب لتطوير مهارات تفكير أعلى، يأتي بنتائج إيجابية، تؤكد كوستن. وهذا يتطلب توجيهاً للصفوف إلى جانب تأمين مواد مفصلة لدعم جهود المعلم المبتدئ لإعداد خطط دروس ذات مغزى. كما يتطلب وقتاً إضافياً، إذا كانت الصفوف قصيرة للغاية، أو مستندة إلى مناهج مثقلة بمحتوى غير ضروري. وتقول إنها من خبرتها، رأت نتائج واعدة بإقران مدارس ضعيفة مع مدارس بأداء أفضل في المنطقة نفسها.

منح المساحة

دور المدارس ليس محصوراً في إعداد الطلاب لاحتياجات سوق العمل فحسب، فالطفل بحاجة للنمو ليصبح عضواً مطلعاً في مجتمعه، والمعلم الذي يعتقد أنه جزء من الإنسانية، يميل إلى تعزيز التصورات العامة بشؤون العالم الحالية وتحدياته لدى طلابه، الذين يتطلب إعدادهم لذلك، منحهم بعض المساحة لممارسة خياراتهم ونشاطهم في مرحلة مبكرة.

يعتبر رائد النظرية السلوكية في التعليم، ويعتقد أنه يمكن تشكيل السلوكيات بتطبيق تعزيزات من خلال مكافأة السلوك المرغوب ومعاقبة غير المرغوب، يساعد المعلمين طلابهم على التميز أكاديمياً وشخصياً. التدريس في مجال تعلم اللغة يسمى الأسلوب الصوتي اللغوي ويتصف باستخدام الصف كله ترديد عبارات وحوارات وتصحيح فوري. المعلم له الهيمنة في الصف وتقييمه يقرر الخطأ من الصواب.

Ⅶ بي إف سكينر (1904-1990) عالم وفيلسوف أميركي

يعد رائد النظرية الإدراكية والبنائية، تميز بدراسته لكيفية اكتساب الفهم لدى الأطفال. وكانت نظريته مهتمة بالآليات التي يحدث عبرها التطور الفكري، وبحث عن نظرية «المعرفة الجينية»، باعتباره جدولا زمنيا حددته الطبيعة لتطور قدرات الطفل على التفكير عبر أربع مراحل. فإذا كانت القدرات محددة جينياً، فإن التعزيزات ليست كافية لتعلم المفاهيم، بل يجب أن يكون التطور العقلي في المرحلة المناسبة لاستيعابها. بالتالي المعلم لم يعد ناقلاً للمعرفة لكن موجهاً للطفل لاكتشاف العالم.

Ⅶ جان بياجيه (1896-1980) عالم نفس سويسري

خلفية تاريخية

كيف يتعلم الناس؟ أنصار التجريبية مع وجهة النظر بأن التجربة هي المصدر الأساسي للمعرفة، وأي شيء يجري تعمله يكتسب عبر التفاعل مع البيئة. من وجهة النظر تلك، فإن قضايا التعلم تركز على ضمان حدوث ترابطات صحيحة. أنصار العقلانية يقولون إن المعرفة تنبع من العقل من دون مساعدة الحواس. أي أن الشجرة تصبح معروفة عبر التفكير في فكرة المرء عن المثال المعطى للشجرة. من وجهة النظر تلك، فإن قضايا التعلم تركز على أفضل طريقة لتركيب معلومات جديدة لتسهيل استحضار ما هو موجود في العقل.

رائد نظرية التطور الاجتماعي والبنائية، نظريته تشدد على الدور الجوهري للتفاعلات الاجتماعية في تطوير الإدراك، حيث يعتقد بقوة بأن المجتمع يلعب دوراً مركزياً في «إعطاء معنى». على عكس بياجيه بأن تطور الأطفال ينبغي أن يسبق تعلمهم، جادل «بأن التعلم الاجتماعي يسبق التطور، ولا يمكن فهم التطور الفردي من دون الإشارة إلى السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتم تضمينه فيه». تفترض البنائية أن المعرفة مبنية من المعرفة السابقة للمتعلم. بالتالي، حتى الاستماع إلى محاضرة ينطوي على محاولات نشطة لبناء معرفة جديدة.

Ⅶ ليف فيغوتسكي (1896-1934) عالم نفس روسي

من رواد النظرية البنائية، يعتبر التعليم والتعلم مسارات اجتماعية تفاعلية، وأن الطلاب ينجحون في بيئة تسمح لهم باختبار المنهج الدراسي والتفاعل معه، وينبغي أن يمنح الطلاب الفرصة للمشاركة في تعلمهم. يقول إنه في سبيل أن يكون التعلم فعالاً، فإن المضمون يجب تقديمه بطريقة تسمح للطالب بربط المعلومات بتجارب سابقة، وتعميق الارتباط مع هذه المعرفة الجديدة. ودعا إلى بيئة تعليمية توازن بين تقديم المعرفة وتأخذ في الاعتبار اهتمامات وتجارب الطلاب.

Ⅶ جون ديوي (1859-1952) فيلسوف وعالم نفس أميركي

فرضيات بشأن أولويات التدريس

تشدد المدرسة السلوكية على النتائج التي يمكن قياسها في الطلاب كتحقيقهم للأهداف السلوكية، مهارات تحليل المهام، وعلى:

التقييم المسبق للطلاب لتحديد أين يجب أن يبدأ التدريس.

التركيز على إتقان الخطوات الأولى قبل التقدم بمستويات أداء أكثر تعقيداً.

استخدام التعزيزات للتأثير في الأداء كالمكافآت، إلخ.

وبالمقابل تشدد المدرسة الإدراكية على المشاركة النشطة للمتعلم بما في ذلك التدريب على التفكير، واستخدام تحليل هرمي لتحديد العلاقات وتفسيرها، كإجراءات تحليل المهام الإدراكية، إلى جانب:

التركيز على تنظيم وهيكلة وتسلسل المعلومات لتسهيل المعالجة المثلى كاستخدام استراتيجيات إدراكية كالملخصات والمنظمات التمهيدية، إلخ.

إيجاد بيئة تشجع الطلاب على إجراء روابط مع مواد سبق تعلمها كاستحضار أمثلة ذات صلة، وغيرها.

أما المدرسة البنائية فتعتمد على

التشديد على تحديد السياق الذي سيجري فيه تعلم المهارات وتطبيقها لاحقاً.

التركيز على سيطرة المتعلم وقدرته على العمل بالمعلومات في استخدام نشط لما تم عمله.

تقديم معلومات مع تنوع في الطرق المختلفة.

دعم استخدام مهارات حل المشكلات.

تركيز التقييم على نقل المعرفة والمهارات.

Email