«آخر ليلة باردة».. براعة الأداء وحرفيّة النص

ت + ت - الحجم الطبيعي

حملت فعاليات اليوم الثاني من مهرجان دبي لمسرح الشباب في دورته الـ12 على خشبة مسرح ندوة الثقافة والفنون، كثيراً من الفعاليات الثقافية المصاحبة للمهرجان، ترتقي لمستويات احترافية مكتملة العناصر، في مقدمها مسرحية «آخر ليلة باردة» لمسرح خورفكان للفنون، والتي جاءت متمكنة من أدواتها نصاً وإخراجاً وأداءً، للكاتبة باسمة يونس، واختزالاً في 45 دقيقة فقط للعرض من قِبل محمود حسن القطان.

إذ تمرر المخرجة الإماراتية إلهام محمد في ثناياه رؤيتها بإيجاز، توافق ببراعة في الأداء من قبل الممثلتين سارة ونورة، تجسد في حرفية التعاطي مع النص بتلقائية وذكاء شديدين، وهذا العمل الشاق، هو سبيل المسرحيين للتفاعل مع أفكار جديدة، فيها حس عالٍ من الانتباه والتركيز، إضافة إلى جذب اهتمام الجمهور والنقاد في نضوج مبكر، يبحث عن فرص أكبر وتؤرخ بصماته.

نص استثنائي

ويحسب للمخرجة إلهام، جرأتها الشديدة وإدارتها المحكمة، دون الخوف من المقارنة، لنص استثنائي للمؤلفة والكاتبة باسمة، تم عرضه من قبل خلال الدورة الـ10 لمهرجان أيام الشارقة المسرحية قبل 18 عاماً، وكان من إنتاج فرقة مسرح دبا الحصن، ومن إخراج حسين محمود علي، الحائز على جائزة أفضل إخراج مسرحي في المهرجان ذاته في دورته الـ8 عام 1998، عن مسرحيته «عودة الرحلة الطويلة».

وخلال الندوة التطبيقية، أكدت المخرجة إلهام أن المسرحية كانت بمثابة مشروع نوعي، اقتضى مجموعة من ورش العمل الطويلة والمتكررة مع معد النص محمود حسن القطان، وبطلات العمل، وصولاً إلى مرحلة معقدة جداً في الارتباط مع النص، والاستجابة لانفعالاته الشائكة، من خلال ردود الأفعال بتلقائية لشخوص المسرحية، التي، وبكل تأكيد، حصدت نجاحاً واهتماماً من الجمهور والنقاد تجاه الأداء المميز لكافة فريق العمل.

نوازع إنسانية

ومن جانب آخر، منحت «آخر ليلة باردة»، جمهور العرض مساحة حرة للغوص في أعماق النص عبر شخوصها، ليعيشوا انفعالاتها، وملامحها، وتتعرى النفوس حينما تجبرها الوقائع على نزع الأقنعة الموهومة.

وفي داخل كل شخصية من شخصيات هذا العمل، نوازع إنسانية، قد تبدو حالات عادية ملموسة ومتداولة ومتكررة بين الجميع، لكن البطلة تحمل هموماً ورغبات تصطدم بحواجز الممنوع والأعراف الاجتماعية، فتحيلها إلى مخادعة، وتتعامل بغير ما يسكنها من هواجس وآلام، فهي في مضمونها تنصهر ببراعة موثقة من قبل بطلات العمل في اختلاجات النفس البشرية، والتي تشغل الإنسان وعلاقاته الحياتية بين الآخرين، وتمور مشاعره المتنوعة بين الغيرة والحقد والحسد في دواخله الخفية، لكنه لا يجرؤ على إخراجها فوق السطح، ولا يقدر على التصريح بها بشكل واضح ومعلن.

تكديس الوجع

أختان «شما وأمل»، إحداهما عانس والأخرى مقعدة، سجنها الكرسي المتحرك وثوب زفافها، وفي ليلة انتظار العريس، يبدأ النص في سرد لعبته، مرسلاً إشارته التي أرادتها المؤلفة، لتعبّر عن هذا الواقع الذي تعيش فيه العانس حبيسة معاناتها مع الوحدة، والواقع الآخر الذي يجعل إنسانة مقعدة تحرم من أن تكون زوجة كبقية الزوجات.

تتداعى أحداث العرض، لنكتشف مسارات الغيرة بين الأختين، الأولى تتهيأ للزفاف على كرسي المعاقين، والأخرى تدرك أنها ستقضي أشد الليالي برودة ووحدة، حينما تغادر أختها. على كرسيها المتحرك.

في ظل هذه الثنائية النفسية المتناقضة، يفاجئنا النص أن الأحداث السردية تظل تعتمل بداخلهما، وتتراكم في زوايا نفسيهما الدفينة، وتحاولان إخفاءها أو تغطيتها بقشرة رقيقة من التضحية والمحبة المفروضتين عليها، لكي يبقى إنساناً سوياً في عرف مجتمعه الإنساني، ويظل التكدس لتلك الأوجاع المستترة في حالة تصاعد، تتعلق إلى ذروة الغليان، حتى تمزق ما بداخلنا، وتنهمر هاطلة بنزيف الألم والوجع. والمسرحية تلعب على وتر نزاعات المشاعر وصخبها.

Email