من أمثال القرآن

بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول الله عَزَّ وجَلَّ: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (الجمعة:5).

يؤكد الفقهاء أنه مهما قيل عن غباء اليهود، وبلادة حسهم وعنائهم في قراءة التوراة دون أن يفهموا منها ما ينبغي فهمه فلن يصل شيء من ذلك إلى قوة المثل الذي ضرب لهم في القرآن الكريم في هذه الآية، فكما أن الحمار لا يجني من حمل الكتب والأسفار إلا الكد والتعب، ولا رجاء أن يفهم شيئًا منهم، فكذلك حال اليهود مع التوراة.

ويوضح الفقهاء الفرق بين كون المعنى يأتيك ممثلاً وبين المعنى الذي لا يأتي ممثلاً، فالأول يحوجك إلى طلبه بالفكرة ويحرك الخاطر والهمة في طلبه، فيكون موقعه في النفس أجل وألطف، والثاني يأتي سهلاً في صورة خبرية لا تعبر عن الشعور، وهذا راجع إلى التشبيه الذي يشير إلى صلة بين أمرين من حيث موقعهما في النفس، حتى يحس السامع بما أحس به المتكلم فينقل إليه شعوره، ويدلل على هذا بإيراد نموذجين:

نموذج خلا من التشبيه، ونموذج تحلى بهذا التشبيه فيقول: تقول: ذاك رجل لا ينتفع بعلمه، وليس فيما تقول سوى خبر مجرد عن شعورك نحو قبح هذا الرجل، فإذا قلت:

إنه كالحمار يحمل أسفارًا، فقد وصفت لنا شعورك نحوه ودللت على احتقارك له، وسخريتك منه، وكان يمكن أن يقتصر على تشبيه اليهود بالحمار، والحمار علم على البلادة والغباء، ولكن المثل القرآني جاء في صورة بالغة من الدقة في الوصف الذي جاء مقيدًا، وهذا يدل على الخصائص التي انفرد بها التشبيه القرآني.

ومن خصائص التشبيه القرآني دقته، فهو يصف ويقيد، حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، فقد يتراءى أنه يكفي في التشبيه أن يقال: «مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقًا، والتحامًا، حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها.

وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئًا، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة، فالقرآن الكريم أورد المثل مقيدًا بأوصاف، فلم يقتصر على ذكر الحمار وحده، وإن كان مثلاً في الذم والتشنيع والشتيمة.

ومن استيحاشهم لذكر اسمه أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون الطويل الأذنين كما يكنون عن الشيء المستقذر، وقد عد من مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم ذوي مروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافًا، وإن بلغت به الرجلة الجهد.

أ. ه. وإذا كان المثل هنا قد جرى على ضرب المثل بالحمار في الجهل، فقد أورد القرآن الكريم مثلاً آخر لصوت الحمار للدلالة على فظاعة صوته وبعده، كما قال الله تعالى:(إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) (لقمان: 19). وقد أشار إلى هذا الجاحظ فقال: هذا والحمار هو الذي ضرب به القرآن المثل في بعد الصوت، وضرب به المثل في الجهل، فقال: (كمثل الحمار يحمل أسفارًا).

فلو كان شيء من الحيوان أجهل بما في بطون الأسفار من الحمار، لضرب الله المثل به دونه.

يوضح المفكر الإسلامي عمر السلامي فيقول معقبًا على هذا المثل: «إن الحمار يحمل أثقالاً من الكتب، ولا يفقه ما فيها، ويقاد إلى حيث قدر له، وهو لا يشعر في ذلك إلا بالكد والتعب، وإن سألته والأثقال فليس هناك من مجيب، صورة تتحرك وتقاد، غايتها في الحياة حمل الأثقال، وإشباع البطون، وهي رهن الانقياد، هذه الصورة تجسد حملة التوراة.

وهم اليهود، يدعون العلم، ولا يفقهون ما بالتوارة، وبالتوراة تبشير بالرسول محمد»، وتجسيد لصفاته، وإذا جوبهوا بحقيقة ذلك تنكروا وركبوا رؤوسهم وادعوا أنهم أعلم من غيرهم، وأنهم لا يؤمنون بالرسول محمد كنبي وخاتم الأنبياء، وهم بهذا العمل يصدق في حقهم هذا التعبير الفني في قوله تعالى:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها)، بصيغة:

«حملوا» المبنية للمجهول، والمشددة في الميم، والتي تحدث جرسًا ونطقًا، يشعران بأنهم حملوا التوراة عن ثقل في أرواحهم ونفوسهم. وإن هذا الثقل ليس مأتاه عدم حبهم في نزول كتاب سماوي عليهم، وإنما مأتاه أنهم يودون ذلك تظاهرًا لتحقيق مآربهم الشخصية، فالتوراة تنص على أن محمدًا» خاتم للأنبياء.

وفي هذا التنصيص ـ من وجهة نظر علماء اليهود ـ اغتصاب وهدر لمكانتهم، مع أن الله هو الذي أنعم عليهم بذلك، وهو القادر على كل شيء، إن الآية دقيقة في تصوير كل أجزائها، وهي تشير إلى غباء وحماقة اليهود، وتوحي بالاحتقار والتوبيخ. كذلك فإن بالآية تفننًا في قوله تعالى:

(... حملوا التوراة ثم لم يحملوها)، وهذا تعبير صادق عن نفوس اليهود المخزية، وإن التصوير الحسي يستمد قوته من مادة الصورة المحسوسة، ونوع هذه الصورة ومدى وقعها على النفس.

وهذا المثل القرآني يوضح لنا أن اليهود خالفوا التوراة، لأنهم لم يؤمنوا بما جاء فيها، فلم يعملوا ولم يمتثلوا، فقط حفظوها عن ظهر قلب، ولكنهم تركوا العمل بها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:(حملوا التوراة ثم لم يحملوها)، وهذا يوحي بالتناقض بين أقوالهم، ومخالفة أعمالهم أقوالهم، فكأنهم لم يعرفوا شيئًا، وانقطعت صلتهم بها، وقد وضح لنا الإمام السيوطي هذا بقوله:

أي كلفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها، فلما لم يطيقوا أمرها ولم يعملوا بها شبههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولا يدري ما فيها، وهم أيضًا حملوا التوراة ولم يحملوها، لأنها تنطق بنبوءة نبينا محمد»، فمن قرأها ولم يؤمن بها فقد خالف التوراة. وقد أشار ابن القيم تعليقًا على هذا المثل قائلاً:

فقاس من حمَّله سبحانه كتابه، ليؤمن به ويتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقرءاته بغير تدبر ولا تفهم، ولا اتباع له وتحكيم له، وعمل بموجبه؛ كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره.

وهنا يرد سؤال: لماذا استحق اليهود هذا الوصف، وما هي الشبهة التي أودت بهم إلى هذا الوصف الذي جردهم من الآدمية والإنسانية؟ وهل هذا الوصف خاص بهم أم يشمل من على شاكلتهم؟

بادئ ذي بدء لابد أن نعرف أن المثل الذي وصف اليهود بهذا الوصف جاء في سورة مدنية هي سورة الجمعة، وقد بدأت آياتها بإثبات التوحيد لله ثم إثبات النبوة لرسول الإسلام محمد عليه السلام بقوله تعالى:(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم...) الآية، فاليهود فهموا منها أن هذا الرسول للعرب خاصة وأنه لم يبعث إليهم، وتناسى هؤلاء ما جاء في التوراة من الإيمان بهذا الرسول عندما يبعث، وكان هذا كافيا.

ولكنهم أعرضوا عن العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بهذا النبي عليه السلام، ورددوا هذه الشبهة أنه نبي العرب وحدهم، لذلك وجدنا رد القرآن عليهم في دحض شبهتهم بتصويرهم بصورة الحمار الذي يحمل أسفارًا ثمينة من العلم، ولا يلقي منها إلا التعب والمشقة، هكذا حال اليهود في مخالفتهم التوراة، بهذا فقد استحقوا هذا الوصف.

وهذه الشبهة مردودة عليهم بنص القرآن. يقول الإمام الرازي: والمقصود منه (أي المثل) أنهم لما لم يعملوا بما في التوراة شبهوا الحمار، لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها، ولم يوردوا تلك الشبهة، وذلك لأن فيها نعت الرسول عليه السلام، والبشارة بمقدمه، والدخول في دينه.

أما هذا الوصف وإن كان قد أطلق عليهم فهو يشملهم ويشمل من أعرض عن آيات الله وكتابه، كما قال الفخر الرازي: وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية، ويقول الزمخشري:

وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله. وأشار إلى هذا ابن القيم بقوله: فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن، فترك العمل به ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته.

كما وضح هذا أحد الباحثين فقال: وفي مجال الحث على العمل بما في الكتب السماوية شبه الذين يتنكرون لها ويقرأونها من غير تدبر ولا عمل بها، ويتخلون عن رسالاتهم بالحمار الذي يحمل أثقالاً من الكتب فوق ظهره، وهو لا يفقه منها حرفًا واحدًا، فكلاهما في عدم المنفعة بالكتب سواء بسواء.

وفي ذلك تحذير للمسلمين من أن يقفوا من كتاب المولى تبارك وتعالي موقف اليهود من التوراة. ثم ذكر الآية. ويوضح الفخر الرازي التشبيه الذي يفهم من قوله: (حملوا)، فيقول: شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة، وهي دالة على الإيمان بمحمد بالحمار الذي يحمل الكتب العلمية ولا يدري ما فيها.

أما قوله تعالى:(ثم لم يحملوها)، أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها، فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتبًا، وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع بما يحمله، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم.

ويقول الترمذي: شبه اليهود بالحمر لأنهم تحملوا دراسة التوراة وتركوا العمل بها، فأتعبوا أبدانهم ولم ينتفعوا بها.

(وكالة الصحافة العربية )

Email