جـذور

اقتصاديات منطقة الخليج بين عامَي 1826 و1863

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعدّ الوثائق البريطانية، وكما أشرنا إلى ذلك في أكثر من مناسبة، مَعيناً للباحثين، ومخزناً للمؤرّخين الذين يتتبّعون حركة سير المجتمع في منطقة الخليج العربي خلال 250 عاماً من التاريخ الحديث والمعاصر للمنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ كتّاب هذه الوثائق هم من مسؤولي السلطة البريطانيّة في الخليج،.

فهي تمثّل وجهة نظرهم لما يدور حولهم من أحداث ووقائع، وهي في الوقت نفسه تعدّ مقياساً للأوضاع السياسيّة، والأحوال الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المنطقة، وهي كذلك تقدّم لنا مقياساً للتطوّرات الحاصلة في بلدان الخليج العربيّة، فهي تشير إلى مدينة معيّنة، وازدهارها، وبعد فترة تخرج مدينة أخرى تسبقها ازدهاراً وتتفوّق عليها اقتصاداً ونشاطاً، وهكذا هي تقلّبات الحياة في المنطقة.

في هذه الحلقة نستعرض مع القارئ الكريم مقتطفات مختارة من تقرير لإدارة الشؤون السياسية رقم 67 لسنة 1863 دوّنه المُقدّم لويس پيلي (Leftenat Colonel Lewis Pelly) القائم بأعمال المقيم السياسي والقنصل العام في الخليج (Acting Political Resident and Consul General in the Gulf) إلى سكرتير عام الحكومة، بومباي، يذكر فيه تفاصيل محدّدة تعتمد على ملاحظاته الشخصيّة ومعلومات غير رسمية تخصّ القبائل والتجارة والموارد بسواحل الخليج العربي، الذي قسّمه پيلي إلى سبع مناطق وفقاً للإدارة السياسية البريطانيّة في القرن التاسع عشر.

وضمّن تقريره هذا بيانات وجداول عديدة وكثيرة للواردات والصادرات للمنطقة، إضافة إلى خريطة أولية جليّة وواضحة، وبيانات تتعلّق بأنشطة موانئ الخليج بين عامَي 1826 و1863، تدلّ على نظرة فاحصة، وكتابة خبيرة ماهرة.

مؤلف الكتاب

أمّا معدّ هذا التقرير، لويس پيلي، فهو أحد أشهر رجالات الساسة والحرب البريطانيين في القرن التاسع عشر، وهو أحد الذين جمعوا بين فنون الحرب، وكواليس السياسة، وأحد كبار المنظّرين السياسيين والعسكريين البريطانيين في ذلك العصر.

وُلد في إنجلترا في 14 نوفمبر 1825، ينتمي إلى أسرة كانت تدور في فلك السياسة والإدارة، التحق هو بالخدمة العسكريّة في صفوف شركة الهند البريطانيّة الشرقيّة في عمر مبكّر من حياته في عام 1840، ثمّ تدرّج في سلك العسكريّة، وتولّى مناصب إداريّة في الجهاز الإداري الإمبراطوري البريطاني في الهند ومنطقة الخليج، وشارك في إحدى الحملات العسكريّة ضدّ فارس عام 1857.

وقام بحملات استكشافيّة في إيران وأفغانستان ومكران وعمان وجزر القمر وموزمبيق، وعُيّن مقيماً سياسيّاً وقنصلاً في زنجبار عام 1861، ثمّ نُقل إلى إيران ومنطقة الخليج العربي ليتولّى المقيميّة والقنصليّة في الخليج بين عامَي 1862 و1872، وقام أثناء ذلك بزيارة لمدينة الرياض عام 1865، وأسهم في الحملة ضدّ الرقيق في شرق أفريقيا، ثمّ انتقل للعمل الإداري في الهند بين عامَي 1873 و1878 حين عاد في ذلك العام إلى بلده.

وفي عام 1885 انتقل للعمل السياسي النيابي المباشر حين انتُخِب نائباً في مجلس العموم البريطاني عن حزب المحافظين إلى حين وفاته في بلدة، فالموت (Falmouth) في أقصى جنوبيّ إنجلترا في 22 أبريل 1892. وتحصّل على وسام نجمة الهند عام 1867، ثمّ نال الوسام الأعلى لنجمة الهند عام 1874.

إذن مَن أعدّ هذا التقرير له باع طويل في ميدان السياسة والعمل الإداري، وله خبرة ذائعة الصيت في خدمة المملكة البريطانيّة في مناطق شاسعة من العالَم، وله تجربة متكاملة في إعداد التقارير وكتابة السّجلّات.

القبائل العربية

يقول إنّ القبائل العربية البحرية في الساحل الغربي للخليج العربي الممتدّ من رأس الخيمة إلى جزر البحرين، اعتمدوا في معيشتهم على الغوص على اللؤلؤ، الذي انتشرت هيراته في مناطق ومحيط جزر الخليج العربي. تضمّ آلاف القوارب التي تحمل آلاف العاملين في مهنة الغوص خلال موسمه المعتاد بين شهرَي أبريل وسبتمبر.كما ازدهرت التجارة الخارجية مع الساحل الشرقيّ وخاصّة مع جزيرة زنجبار الشهيرة، إضافة إلى ساحل المليبار، ومينائه الشهير منجلور.

ويصدّر الأهالي الأسماك المجفّفة، ويستوردون من بلاد المليبار الأرز وأخشاب التيك. ويستوردون من الساحل الشرقيّ لأفريقيا أخشاب القرم، وهي المعروفة باسم: «الجندل»، وهي أخشاب قويّة ومتينة، إضافة إلى حبوب القرنفل الذي تصدّر منه زنجبار كميات هائلة إلى بقيّة دول العالَم، ما يجعل الجزيرة مؤهّلة أكثر لتطوير زراعة القرنفل فيها.

إضافة إلى تطوير زراعته في الأرض الأفريقية نفسها. كما يستوردون من هناك الأرز الذي تأكّدتْ زراعته ليس فقط في جزيرة زنجبار بل يمكن أن تنتشر زراعته في البَرّ الأفريقي الرئيس، ويمكن تصديره بعد ذلك إلى بلدان الخليج العربي، مع أنّ الأرز الهندي أكثر انتشاراً في منطقة الخليج العربي، وأكثر تفضيلاً بالنّسبة للأهالي، على اعتبار أنّه أخفّ في الهضم، وأفضل في الطهي، فهو يتزايد حين الغلي، وهو في الوقت نفسه أكثر قبولاً من حيث الأسعار والقيمة، وبإمكان الفقراء الحصول عليه.

كما تصدّر من جزيرتَي زنجبار وپِمبا كمّيات من جوز الهند الذي يتزايد حضوره في الأسواق، وربما مع مرور الوقت يأخذ مساحة من زراعة القرنفل. ويمكن استخراج الزيوت من جوز الهند. ويزداد التبادل التجاري بين منطقة الخليج العربي وبين زنجبار في الأسماك المجفّفة والمملّحة. وهؤلاء البحّارة العرب لهم خبرة في الأسفار، وهي شاغل إيجابيّ لهم من حيث طلب الرزق وتحمّل مشاق الأسفار.

نقولات واستشهادات

ثمّ يستعرض پيلي تقريرين أعدّهما كلّ من القبطان حون ماك ليود (John McLeod)، عام 1823، والعقيد أرنولد كيمبال (Arnold Burrowes Kemball) عام 1845 من حيث إشاراتهما إلى الأوضاع الاقتصاديّة في منطقة الخليج العربي التي تتضمّن عملهم في الغوص واستخراج اللؤلؤ والمتاجرة به.

إضافة إلى التبادل التجاري مع البحرين وسلطنة مسقط، والساحل الإيراني، وتتضمّن التمور والحبوب، ثمّ يضع جدولاً يتضمّن موانئ ومرافئ ساحل الإمارات، وسفن الأسفار، وأوزانها، والسفن الصغيرة المخصّصة للتبادل الاقتصادي بين سواحل الخليج العربي، وسفن الغوص، والجدول يقيس الحركة الاقتصاديّة في الساحل بين عامَي 1845 و1863، وهي بطبيعة الحال أوضاع تغيّرت بعد ذلك.

كما يعبر الجدول عن تلك الفترة حسب رؤية وإحصاء كاتب التقرير پيلي. ويضيف أنّ أعداد السكان في تلك الفترة مختلفة وغير مستقرّة، فيقول إنّ مدن أبوظبي والشارقة ورأس الخيمة ربّما تضمّ 3000 بيت، بينما تضمّ مدن دبي وعجمان وأمّ القيوين 1200 بيت، ويوجد في الخان والحمريّة نحو 600 بيت. ويذكر طلب معلومات أخرى وإضافيّة حول أعداد الأهالي والبيوت والقوارب وسفن الأسفار.

إنتاج جيد

يضيف پيلي أنّ أغنى بلدان الخليج العربي آنذاك هي مشيخة البحرين، التي تتمتّع بإنتاج زراعي جيّد إضافة إلى الأعمال في الأسفار والغوص والتجارة. وتبلغ سفن الغوص البحرينيّة نحو 1200 سفينة. وتصدّر البحرين كميات كبيرة من اللؤلؤ والفواكه المجفّفة والتمور. وتستورد من الهند سلعاً وبضائع متعدّدة، مثل: الأرز والقطن والبهارات.

ثم ينتقل پيلي للحديث عن إمارة الكويت التي أصبحت محطّة ازدهار تجاري كبير في منطقة الخليج، والكويت بلدة نظيفة، ونشطة، ولها سوق رئيس كبير، وبعض بيوتها مشيّدة بالحجارة الكبيرة، وهي متراصّة ومتقاربة، يقطنها نحو 20 ألف نسمة.

ولنشاطها وحرّيّة التجارة فيها، جذبت البلدة إليها عدداً من التجّار العرب والأعاجم. وتستورد البلدة سلعاً وبضائع من ساحل مليبار ومدينة بومبي الشهيرة، مثل: الأرز، والقهوة، والبهارات، والألواح الخشبيّة. وتصدّر الكويت ما عدده سنوياً 800 من الخيول، وتبلغ قيمة الجواد الواحد نحو 300 روبية، وتصدّر من الكويت نفسها 200 جواد، و600 من البصرة. وكميات كبيرة من الصوف تبلغ قيمتها 40 ألف روبية، إضافة إلى التمور التي تبلغ قيمتها 60 ألف روبية.

ويحوز البحّارة الكويتيون سمعة حسنة في الإبحار والملاحة، منهم نحو 4000 بحّار يعدّون من خيرة بحّارة الخليج العربي. ويتواصل الكويتيون مع العمانيين في بناء سفنهم، إضافة إلى شرائهم سفناً مصنّعة في مدينة كوشين.

ويبحر الكويتيون في سفن مختلفة الأحجام، ويسافرون في نحو 30 مركباً إلى بومباي، يبلغ وزن كل واحد منها 100 طنّ. يحتوي كلّ واحد منها نحو 2000 قَلّة من التمر، تُشحن كلّها من منطقة البصرة وشطّ العرب في جنوبيّ العراق. وكانت الكويت آنذاك مسوّرة، بها ستّة آلاف مسلّح من أهلها.

أحداث تاريخية

ما دوّنه پيلي تطوافة عامّة وشاملة لفترة محدّدة من القرن التاسع عشر، تلقي الضوء على مجريات الأحداث التاريخية والأوضاع الاقتصاديّة في منطقة الخليج العربي، تغيّرتْ بعد ذلك نتيجة للتطوّرات المتلاحقة في المنطقة.

 

Email