جذور

آثار منطقة الخليج العربي بعيون بريطانية (1-2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

في بدايات عملي في ميدان الوثائق البريطانية وإعادة قراءتها وتحليلها، كنت أظنّ أنّ المسؤولين البريطانيّين قد دوّنوا كلّ ما سمعوه أو عرفوا عنه أو شاهدوه أو شاركوا فيه، إلا آثار منطقة الخليج العربي التي لم ينتبهوا لها، وكان تركيزهم على آثار بلاد الرافدين وإيران دون الالتفات إلى ما تزخر به المنطقة من معالم أثريّة وتراثيّة، وكان هذا ظنّي في البداية، ولكن سرعان ما خاب هذا الظنّ بعد مواصلة تقليبي محتويات الوثائق، وزيادة تعمّقي في ما ضمّتْه من معلومات، إذ وجدتُ أنّ البريطانيين قد أَوْلَوا هذا المجال اهتماماً أيضاً.

وسوف نستعرض مع القارئ الكريم كيف رأى البريطانيون آثار الخليج، وكيف وصفوها؟ وكيف نظروا إليها؟ومن أكثر الأمور لفتاً للانتباه أنّ أغلب التقارير مكتوبة على أيدي ضبّاط في الجيش البريطاني وفي البحريّة البريطانيّة، وهذا ما يثير الاستغراب في الوقت نفسه، إذ كيف تأتّى لهؤلاء العسكريين إعداد تقارير حول الآثار وهم بعيدون في تخصّصهم عنها، وهي ليست ضمن اهتماماتهم الأولى.

وبدأ اهتمام السلطات البريطانيّة بالآثار بمجرّد تقارير أخباريّة وإخباريّة حول المعالِم الأثريّة، ثمّ تطوّر الأمر بالسماح بالتنقيب في هذه الآثار، ثم السماح بعمل علماء الآثار المتخصّصين ضمن فِرق تنقيب أجنبيّة، ثمّ تسهيل عمليّة انتقال هؤلاء العلماء بين دول الخليج العربي، ثمّ قيام عدد من المسؤولين والضّبّاط البريطانيّين بزيارة المواقع الأثريّة والالتقاء بعلماء الآثار والتعرّف مباشرة على عملهم في تلك المواقع.

اكتمال الصورة

وهنا تكاد تكتمل الصورة لديّ بأنّ البريطانيّين يكادون يتعرّفون على كلّ شيء في منطقة الخليج العربي، وكلّ ما يتعلّق بها من إنسان وعمارة وآثار وتراث وعادات وتقاليد وحيوانات داجنة، وأخرى برّيّة، وغطاء نباتي، وإبحار وأسفار وطرق ودروب وزيّ تقليدي، وطرق المعيشة، وأنماط الحياة، ولغة ولهجات وأوصاف جغرافيّة ومسح تضاريسيّ وبيئة. وأنا من أولئك الذين يرون في هذه المدوّنات أهمّيّة قصوى لا غنى للباحثين عنها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّها كُتبت من وجهة نظر بريطانيّة محتلّة ذات النّفوذ الأوسع في المنطقة.

لم يهمل البريطانيّون التاريخ القديم لمنطقة الخليج وآثارها، بل ضمّنوها تقاريرهم إمّا إشارة وإمّا لماماً وإمّا تفصيلاً وإمّا تلميحاً وإمّا خبراً وإمّا إيجازاً. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ مَن قام بإعداد هذه التقارير هم مجموعة من العسكريين الذين أتقنوا إعداد التقارير الشاملة العامّة التي تتضمّن إشارات مهمّة للتاريخ والآثار، ومن أوائل هذه التقارير ما أعدّه الرائد شارليس كونستابل (Charles G. Constable) (1825 - 1879) تحت عنوان:

«Memoir Relative to the Hydrography of the Gulf and the knowledge that we Possess of that Sea», 1856 (مذكّرات متعلّقة بالمسح البحري للخليج ومعرفة أنّنا نمتلك هذا البحر)، إذ إنّ لفظة «hydrography» (الهيدروغرافيا) تعني «علم وصف المياه».. وبصورة عامّة، عادة ما يستخدم هذا العِلم لدراسة المسطّحات المائية ومدى قابليّتها لأغراض الملاحة.

وقد أتبع كونستابل تقريره بملحق مركّز حول المواقع التاريخيّة الشّهيرة في منطقة الخليج العربي، وحصرها فيما يلي:

(1) مدينة الجرهاء المفقودة التي قال عنها إنّها مدينة عظيمة ومركز تجاريّ كبير، واقترح موضعها في أكبر جزر البحرين، وهي المنامة. وهو هنا يتحدّث بطبيعة الحال عن زمن مبكّر جدّاً، وقبل اتباع عمليّات الكشف الأثري التي أثبتتْ أنّ موقع ثاج الأثري في شمال شرقيّ شبه الجزيرة العربية كان هو مدينة الجرهاء.

(2) مدينة سيراف الشّهيرة الواقعة على الساحل الإيراني للخليج العربي.

(3) جزيرة قيس على اعتبار أنّها من أعظم جزر الخليج، وكانت يوماً مزدهرة، وكان فيها مملكة معروفة. وأشار إلى موقع أثريّ مشهور في جزيرة قيس على اعتبار أنّه كان عاصمة الجزيرة. ويشير إلى عدد من العمائر الأثريّة في المكان.

(4) مدينة لنجة على الساحل الإيراني للخليج العربي، التي تقبع بقربها مدينة أثريّة كانت هي لنجة القديمة حسب قوله.

(5) ثم ينتقل إلى بحر العرب وخليج عمان، فيثبت مدينة قلهات ثم مدينة صحار، وهما من الموانئ الكبرى في شبه الجزيرة العربيّة، ثمّ يتحدّث عن بعض المواضع في شبه جزيرة مسندم.

وهو هنا في حديثه عن التاريخ القديم والآثار ينقل عن آخرين من الرحّالة والمؤرّخين الغربيّين المعاصرين له دون الخوض في التفاصيل الأثريّة والتاريخيّة، نظراً لعدم تخصّصه في هذا الميدان، ومع ذلك فهو يلفت الأنظار إلى أهميّة الآثار في تاريخ الخليج.

المدافن الكبرى

جذبت مدافن البحرين أنظار الزائرين لكثرتها، إذ تغطّي مساحات واسعة، وقُدّر عددها بحوالي مائة ألف مدفن أو أكثر. وأولى الإشارات وردتْ في رسالة رقم: 164 بعثها الملازم إدوارد شارلس روس المقيم السياسي في الخليج، إلى السير ألفريد كومين ليال، سكرتير الحكومة الهندية بوزارة الخارجية، والسير ليال هو مؤرّخ، وسياسي، وشاعر، وأديب، وإداري، بريطاني شهير (4 يناير 1835 - 11 أبريل 1911). والرسالة بتاريخ 1 مايو 1879، وتتضمّن مذكّرات حول جزر البحرين والآثار، بقلم الكابتن البريطاني إدوارد لو دوراند (5 يونيو 1845 - 1 يوليو 1920) المساعد الأول للمقيم السياسي في الخليج الذي كلّفتْه حكومة الهند البريطانية بالإقامة في جزر البحرين لبضعة شهور بين عامَي 1878 و1879. ويشير روس صراحة إلى أنّ هذه المعالِم الأثريّة لم يسبق لأحد من المسؤولين والضّبّاط أن كتب حولها أو أشار إليها، بل لم تجرِ أيّة تنقيبات في هذه المواضع. ويؤكّد أنّ مجلس أمناء المتحف البريطاني سوف يكون أكثر رغبة في التعرّف على هذه الآثار، والحصول على هذا التقرير، ما يشي بأنّ المتحف البريطاني في لندن لم يهتمّ كثيراً بآثار منطقة الخليج آنذاك، وكان تركيزه على العراق وإيران نظراً لوفرة الآثار فيهما.

تمهيد وتوطئة

مهّد دوراند تقريره بوصف الجغرافيا الطبيعية لجزر البحرين والمياه المحيطة بها، بالإضافة إلى خطوط الطول والعرض، والمناطق القابلة للملاحة عبر البحر. ووصف تجارة اللؤلؤ والتمور..والحياة المجتمعية والخصائص والمظاهر الطبيعيّة.

ومن غرائب الأمور أنّه أشار إلى تاريخ موجز لجزر البحرين في عهود تاريخيّة مختلفة، بدءاً من البابليين والفينيقيين والفرس ثمّ العرب، ثم أشار إلى حكم البرتغاليين لجزر البحرين. ونقل عن المؤرّخ اليوناني الشهير هيرودوت قوله إنّ الفينيقيين قد قدموا إلى الساحل اللبناني من منطقة الخليج العربي، ثمّ ينقل تعليق العالِم البريطاني الكبير هنري كريزيك رولنسون (5 أبريل 1810 - 5 مارس 1895) على مقولة هيرودوت. وفي نهاية نقاشه لهذه الفقرة يقرّ بأنّه هنا غير مؤهّل لإعطاء رأي محدّد في هذه المسألة التاريخيّة المعقّدة. ومن أهمّ إنجازاته توثيقه لأكثر من عشرين مسجداً قديماً في البحرين.

واللفات أن دوراند قد خاض في الحديث عن موقع الجرهاء، المدينة العربية الشهيرة، دون سابق إنذار، في محاولة منه لتحديد موقعها، ونقل عن آخرين من المحدثين الذين التبس عليهم الأمر في تحديد موضع هذه المدينة الضائعة، ثم أخذ في النقل من المصادر الكلاسيكيّة من أقوال لاسترابون وپليني وبطليموس. وكنتُ أتمنّى أنّه ركّز عمله على الجانب الأثري دون الخوض في المسائل التاريخيّة المعقّدة من تحديد لهويّة السّكّان والجرهاء وبقيّة شعوب الشرق الأدنى القديم، إذ إنّ تخصّصه لا يؤهّله للقيام بكلّ ذلك. والحقّ يقال إنّ هذا الضّابط قد أحسن في وصف المدافن، وأجاد رسمها وتصويرها.

نقش

يعدّ عثور دوراند على نصّ بالخطّ المسماري منقوش على حجر بازلتي من أعظم إنجازاته، حيث تمكّن من انتزاع الحجر من جدران أحد المشاهد في قرية بلاد القديم. وأشار إلى أنّ هذا الحجر وأمثاله قد أعيد استعمالها من مبانٍ أقدم تهدّمتْ مع الزمن. واستنفد جزءاً من تقريره في تفسير هذا النّصّ في محاولة منه في قراءته مستعيناً برولنسون وغيره. وبطبيعة الحال فإنّه كان في حقبة زمنيّة غابت عنها تنقيبات الآثار العلميّة المنظّمة.

 

قصور

حفر الباحث البريطاني الكابتن البريطاني إدوارد لو دوراند خندقاً وسط تلّين من تلال المدافن الضخمة في عالي في البحرين، ولكنه لم يعثر على مكتشفات ذات أهمية، فتوقّف عن مواصلة الحفر.

ووضع في تقريره بعض الرسومات المجسّمة التقريبية الجميلة والرائعة لتلول المدافن ومخطّطات لبعض عناصر غرفة الدفن، توضح أن بعض الآثار الموصوفة لم توثّق من قبل وهي ذات أهمية بالنسبة إلى المتحف البريطاني الذي كان يموّل المزيد من عمليات الأبحاث والتنقيب، ولكن بدون تركيز أو تكثيف على اعتبار أنّها منطقة مفضّلة بالنّسبة له، وهو في عمله هذا لم يتمكّن من تحديد هويّة أصحاب هذه المدافن في تلك الفترة المبكّرة من التنقيب عن الآثار في البحرين.

 

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان

تصدر كل خميس

Email