سوء تقدير أدى إلى سقوط مقاتلات بريطانية

طائرات في سماء الخليج (3-3)

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما كانت الطائرات الحربيّة البريطانيّة تحلّق، وتحوم في أجواء منطقة الخليج والإمارات، خلال فترة النصف الاول في القرن الماضي، وتقوم بجولاتها التفقّديّة، وأعمالها الميدانيّة الروتينيّة المعتادة التي تجعل المنطقة تحتها مكشوفة، فإنه، كان لا بد، ومع كل تلك التحرّكات والنشاطات المحمومة، أن تحدث الأخطاء وتبرز من بين الزحام فتؤدي لسقوط بعضها. وطبعاً، فإن الأحداث المؤسفة تنجم أحياناً من غير قصد ولا نيّة مبيّتة بل تدفعها الظروف ويحيط بها سوء التقدير أحياناً.

وفي 14 فبراير 1943 سقطت طائرة من نوع: فيكرز ويلينغتون (Vickers Wellington) بين قريتَي ضدنا والبدية في إمارة الفجيرة، قُتل على إثرها أحد أفراد الطاقم وتضرّر محرّك الطائرة كثيراً. وكانت الطائرة نفسها في طريقها من لندن إلى الهند، وهبطت في مطار الشارقة ثمّ أقلعتْ من المطار بعدما تزوّدت بالوقود، في تمام الساعة التاسعة صباحاً. وبعد إقلاعها بنصف ساعة حدث تسريب زيت على ناقل الحركة أثّر كثيراً على المحرّك، فقرّر قائد الطائرة العودة إلى الشارقة، ولكن الوقت لم يمهله فتهاوت الطائرة إلى الأرض. وكان على متنها كلّ من: رقيب أوّل طيّار ج. شادويك (G. Chadwick)، ورقيب أوّل ملّاح وليام هنري داونلي (W. H. Donnelly)، وهو مشغّل لاسكي، مات أثناء الحادث، وكان عمره حينها 32 عاماً، ورقيب أوّل ج. أ. وارتون (G. A. Wharton)، وهو مشغّل لاسكي أيضاً، ودبليو ج. براون (W. J. Brown)، وهو أيضاً مشغّل لاسكي.

مساعدة الطاقم

وبمجرّد سقوط الطائرة بادر الشيخ محمد بن حمد الشرقي بالتواصل مع المقيم السياسي في الشارقة، وأرسل رجالاً من قِبله للتحرّز على الطائرة المنكوبة ومساعدة طاقمها الذين نجوا من الحادث ونُقلوا إلى خورفكّان. وهذا التعاون والمعاونة من قِبل الشيخ وأتباعه وقيام أتباعه بحراسة الطائرة لعدّة أيّام فإنّ السلطات البريطانيّة كافأت الجميع بمكافأة ماليّة مجزية تقديراً لهم على ما قاموا به. وهذه الطائرة من نوعيّة قاذفة قنابل بعيدة المدى وثنائية المحركات، تمّ إنتاجها في بريطانيا عام 1936. وكانت حينها من قاذفات السلاح الجويّ البريطانيّ المهمّة، واستُخدِمت بكثرة أثناء الحرب العالميّة الثانية، وقد انتهت خدمتها عام 1953.

وتعدّ هذه النّوعيّة من أحدث الطائرات التي دخلت الخدمة في سلاح الجوّ الملكي أثناء الحرب العالميّة الثانية. واستُعمِلتْ بكثرة من قِبل القادة البريطانيّين في الشرق الأوسط. وكانت تلك الطائرة المنكوبة ضمن وحدة تسليم الطائرات، وحدة التحكم بالنّقل، رقم 4، ضمن قيادة الشرق الأوسط، تحمل علامة (1C)، والرقم المتسلسل (HX748). ومن غرائب الأقدار في هذه الحادثة أنّه كان معهم المقدّم دي وتيڤيلي (Lt. Col. De Watteville) من سلاح الهندسة إلا أنّه نزل في الشارقة، على أن يغادر لاحقاً على متن إحدى السفن الحربيّة إلى كراتشي، فنجا من الحادث.

تهاوي الطائرة

وقد أخبرني الوالد محمد بن راشد اشتيري، حفظه الله، أنّه كان في الخامسة عشر من عمره تقريباً حين لاحظ تهاوي الطائرة بالقرب من رول ضدنا، في ضحوة ذلك اليوم الأحد، وتسارع مع غيره من الأهالي لمشاهدة ما جرى على هذه الطائرة التي قُتل أحد ملّاحيها، وكان من شدّة الصدمة مثبّتاً بالكرسي لدرجة كبيرة جدّاً، ولم يتمكّن من إخراجه إلا من قبل جنود بريطانييّن أتوا من الشارقة الذين فكّكوا الكرسي ومساميره المثبّته، وكان في حالة سيّئة، وقد دُفن هذا الجندي في موضع قريب من مكان سقوط الطائرة، ووضع على قبره كمّيّات كبيرة من الحصا والحجارة.

وذكر أنّ الطائرة كانت مليئة بالذّخيرة وصناديق كثيرة للرصاص، وكانت مثبّتة بأسلاك حديديّة يصعب انتزاعها بسهولة. كما أنّ جسم الطائرة تمّ تفكيكه ونقله من قِبل البريطانيّين بعد ذلك، وما تبقّى منه أخذه الأهالي. ومن الجدير بالإشارة أنّ السفارة البريطانيّة أقامت نصباً في مكان مفترض أنّه قريب من قبر داوني في رول ضدنا، وتمّ افتتاحه في يناير 2010.

أحداث غريبة

وفي شهر أبريل 1943 سقطت طائرة من نوع (Bisley aircraft) بالقرب من شناص بالباطنة، وهذه النّوعيّة من القاذفات الصغيرة كانت تُعرف أيضاً بـ Bristol Blenheim. وسارعت السلطات البريطانيّة بمكافأة والي شناص ماليّاً وماديّاً شكراً له على ما وفّره من حماية وحفظ لجسم الطائرة، وإنقاذ طاقمها. ومن الغريب أنّ المراسلات بين المسؤولين البريطانيّين أخذت شهوراً من الأخذ والردّ والاستفسار والحصر والعدّ حتى تمّ تقديم المكافأة بعد حين.

وفي 22 مايو 1943 أصيبت طائرة كانت من ضمن سرب من الطائرات من نوع (Bisley aircraft) بطلق ناريّ إذ عُثر على ثقب رصاصة في موضع عادم الطائرة أثناء عودتها من دورية تفقّديّة اعتياديّة امتدّت من الشارقة إلى شبه جزيرة مسندم، ولا يُعرف على وجه التحديد كيف وأين تمّ إطلاق النّار على الطائرة. وحادثة سقوط أخرى في شهر مايو 1943 وعُرفت هذه الحادثة في المراسلات بحادثة: (Bisley aircraft of Squadron).

توقف المحرك

وفي شهر يوليو 1943 تحطّمتْ طائرة أخرى بالقرب من أمّ القيوين، نتيجة لتوقّف فجائي في المحرّك، وفي شهر ديسمبر 1943 تحطّمت طائرة أخرى على الشارقة ولم يصب طاقمهما بإصابات. وفي 6 سبتمبر 1943 هبطت طائرة حربيّة بريطانيّة بالقرب من الـظهران نتيجة ضعف الرؤية، وأقام طيّاراها ليلة في مخيّم شركة كاليفورنيا العربيّة للنّفط، وفي اليوم التالي عادا بطائرتهما إلى البحرين. وهي من فئة بريستول بيافايتر (Beaufighter)، تحمل رقم: LX - 885.

وفي 22 أبريل 1944 هبطت طائرتان اضطراريّاً في جزيرة ياس بإمارة أبوظبي، وتحرّز عليها رجلان من أهالي الجزيرة، وحافظا عليها، وقدّما لركّابهما كلّ مساعدة، وطعام وماء حتى أقلعتا بسلام بعد ثلاثة أيّام. وكافأتْهم المعتمديّة البريطانيّة بمئة روبية. وهبطتْ اضطراريّاً طائرة صغيرة ذات محرّك واحد على إيران في فبراير 1945، وفي اليوم التاسع منه تحرّكت قوّة بحريّة لإنقاذ الطيّار الذي أصلاً لم يصب بأذى.

حادثة دبي

من الطائرات التي سقطت في الإمارات طائرة أمريكيّة كانت تسافر بين كراتشي وعبادان مروراً بالإمارات، وكان آخر تواصل بينها وبين برج المراقبة في مطار الشارقة. ومن الجدير بالذِّكر أنّ هذه المركبة الجويّة من المصنَّعات حديثاً، وتُعرف بــ(C46 Curtiss Commando)، وهي ذات محرّكيْن، ومُطَوَّرة من مركبة أقدم منها، وهي من طائرات النّقل العسكريّة العاملة في سلاح الجوّ الأمريكي خلال الحرب العالميّة الثانية.

وقد بدأت السلطات البريطانيّة البحث والاستفسار عن فقدان الطائرة منذ 29 يوليو 1945، وكان آخر وجود لها في الجو وهي إلى الشّرق من مدينة الشارقة. ومن المحتمل أنّها غادرت مطار كراتشي صوب الإمارات عبر كلباء. وبعد البحث والتقصّي اتّضح أنّها سقطت إلى الجنوب الشرقيّ من مدينة دبي، وعلى بضعة كيلومترات من المدينة.

وقد عُثر على حطامها في البداية مجموعة من البدو العابرين للمنطقة الذين أبلغوا السلطة المحلّيّة في دبي ثم السلطات البريطانيّة التي سارعت بإرسال فريق إنقاذ للمكان ولكن للأسف لم يتمّ العثور على ناجين، وكان القتلى ثلاثة رجال هم طاقم الطائرة، تمّ نقلهم عن طريق الجوّ إلى عبادان لدفنهم هناك. ثمّ تولّت الجهة البريطانيّة المختصّة التحقيق في سبب الحادث.

طائرات مجهولة

وتوجد بعض الإشارات إلى وجود أجزاء من طيّارتين بريطانيّتين، واحدة بالقرب من بندر شيرينو والثانية بالقرب من بندر بيده خون. ومن ضمن هذه الإشارات طلب أحد أهالي تلك المنطقة نقل هذا الحطام إلى البحرين بموافقة السلطات البريطانيّة، ويرد كذلك أنّ إحدى هاتين الطّيّارتين محترقة والآثار محطّمة، ولكن لا يوجد تسجيل متى وكيف سقطتا في ذلك المكانين، ولا يوجد علم ما هو مصير طاقم الطائرتيْن، وهذه المراسلات تعود إلى شهرَي أبريل ومايو من عام 1946.

تحليق منخفض

في 18 مارس 1946 هبطت طائرة حربيّة بريطانيّة اضطراريّاً في جزيرة أبو موسى، وتلفت أجزاء منها نتيجة الهبوط، ولم يصب الطاقم بأذى الذين نُقلوا إلى الشارقة في اليوم نفسه على متن قارب. وكانت الطائرة تحلّق على علوّ منخفض ممّا جعلها تصطدم بالصارية الكبرى في الجزيرة إذ أخطأ القائد في تحديد علوّ الصارية، ممّا أدّى إلى فقدانها جزءاً من ذيلها. وهذه الطائرة من نوع فيكرز ويلينغتون (Vickers Wellington).

تواصل ومساعدة

من اللافت للنّظر أنّ عدداً من المراسلات بين المسؤولين البريطانيّين في منطقة الخليج العربي، تقدّم نوعاً من الدعاية للحكومة البريطانيّة من حيث مبادرتها لتقديم الدعم والعون والمكافآت المجزية، حسب ذلك الوقت، لكلّ مَن يساعد في البحث أو الكشف أو العثور أو تقديم العون أو الحماية أو الإرشاد أو الإسعاف أو الإنقاذ عن مثل تلك الطائرات المفقودة والمحطّمة. وأنّ الضبّاط البريطانيّين عليهم أن يحوزوا ثقة ومحبّة الأهالي، ويظهروا لهم مودّتهم وكرمهم الفائق. وبلغ بهم الحرص على ذلك أنّهم يدفعون مبالغ كبيرة لأشخاص في المنطقة لقاء أي خدمات في هذا الصدد، يظهر البريطانيون في هذا التوجه، بمظهر الكرم ويحفزون الجميع على المساعدة.

كما حاولوا التواصل مع أهالي المنطقة عن طريق شخص متفهّم للأحوال الاجتماعيّة، ومؤثّر، يبلّغهم حرص المسؤولين البريطانيّين على التواصل مع النّاس، ويحثّهم على بذل المعونة والمساعدة للذين يصابون في مثل حوادث سقوط الطائرات في أيّ وقت .

مكافآت

المكافآت التشجيعيّة المقدمة من البريطانيين للأهالي لقاء المساعدة في حوادث سقوط الطائرات، لم تقتصر على المال، بل شملت الأرز والتمر والدقيق وأنواعاً أخرى من الأطعمة. وكانت المكافآت تقدّم أيضاً لكلّ مَن بذل جهداً في المعونة حتى ولو قدّم جَمَله لنقل المصابين أو حتى بمجرّد أن بلّغ المعتمديّة بالخبر المؤسف. كما كان الطعام يقدّم لقطع المسافات والدروب لهؤلاء المبلِّغين أو المسعفين، وتوجّه رسائل شكر خاصّة لمسؤولي وأمراء وولاة المناطق من قِبل المعتمديّة البريطانيّة.

 

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان

تصدر كل خميس

Email