جذور

النشاطات التجارية الإيطاليّة في الخليج قُبيل الحرب العالميّة الثانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أشرنا في مقال سابق إلى أنّ منطقة الخليج العربي في النّصف الأول من القرن العشرين كانت محطّ أنظار الدول الكبرى، رغبة منها في مدّ النّفوذ بأشكاله، وأنواعه، أو رغبة في بناء علاقات تجاريّة متينة مع دول المنطقة في حقبة تداخلت فيها المصالح، وتنادت فيها كلّ أمّة لتحقيق طموحاتها في ميادين الواقع والسياسة والاقتصاد.

وفي هذه المقالة سنتابع مع القارئ الكريم من خلال الوثائق البريطانيّة النّشاطات الإيطاليّة في منطقة الخليج العربي، فعلى الرغم من بسط بريطانيا نفوذها في المنطقة، فإنّ المحاولات الأجنبيّة للوصول ومدّ النّفوذ إليها لم تقف حائلاً دون ذلك.

«لويد تريستينو»

منذ الشهور الأولى لعام 1934، والحكومة البريطانيّة في قلق من تدفّق سفن الشحن الإيطاليّة على منطقة الخليج العربي، وأهم شركات الشحن هي: «لويد تريستينو» (Lloyd - Triestino) التي بدأت في منافسة شركات الشحن البريطانيّة من حيث انخفاض تكاليف الشحن التجاري، ونوعيّات السلع والبضائع والأدوات والآلات إيطاليّة المنشأ والتصنيع إضافة إلى الاسمنت.

وما يترتّب على ذلك من حضور سياسي إيطالي في المنطقة، وستفتتح هذه الشركة خطّاً مباشراً بين الخليج العربي والبحر المتوسّط، وما حلّ منتصف عام 1934 إلا وتكامل وصول سفن الشحن الإيطاليّة حاملة أكياس السّكّر، وأكياس الأسمنت، وكمّيّات من الغليون والسجائر إلى منطقة الخليج العربي بدءاً بميناء بوشهر، ثم وصلت شحنات من السّكّر الأسترالي على متن سفن الشحن الإيطاليّة إلى البحرين وأطنان من الاسمنت الإيطالي إلى البصرة.

شخصيّة مثيرة

بين 23 مارس 1937 و10 يونيو 1938 حفلت الوثائق البريطانيّة بأخبار وتقارير عن شخصيّة إيطاليّة نشطة، تدعى توليو باستوري (Tulio Pastori)، وفي هذه الوثائق نجد مذكرات ومراسلات وتقارير من الاستخبارات السياسية في الهند والعراق وفلسطين بشأن الأنشطة التي قام بها هذا المواطن الإيطالي في بلدان الخليج العربي.

ومن ضمنها تقرير بتاريخ 5 مارس 1938، يرد فيه أنّ باستوري أظهر اهتماماً باستغلال النّفط في ولاية البصرة، وبعض أجزاء المملكة العربية السعوديّة. كما أظهر اهتماماً كبيراً بتصدير القار العراقي، وأبدى رغبة شديدة في تصدير أنواع من الأسلحة الإيطاليّة إلى العراق ثم إلى دول الخليج العربي الأخرى، وهذه الأسلحة سوف يتمّ نقلها على متن سفن إيطاليّة.

كما حرص على شراء الأراضي والعقارات تحت أسماء شخصيّات عراقيّة. إضافة إلى ذلك، فإنّ باستوري كان يظهر أنّ له علاقة جيّدة خاصّة بالأسطول الإيطالي، وكان فعلاً على معرفة بالملحق الإيطالي العسكري البحري في طهران. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الأمور تثير ضدّه الكثير من الشّكوك.

1938

في رسالة للمقيم السياسي البريطاني في المنطقة موجّهة إلى سكرتير الدولة في الهند، يشير فيها إلى أنّ سفناً إيطاليّة أبحرتْ من ميناء عبادان بتاريخ 7 مارس 1938، بينما كان باستروي في بغداد، برفقة شقيق زوجته المدعو «سوسا» (Soussa).

وفي رسالة بتاريخ 1 مارس 1938 ورد أنّ باستروي سوف يغادر ميناء عبادان أو ميناء البصرة على متن سفينة إيطاليّة في 17 مارس، متّجهاً صوب بلدة دبا، وهذه السفينة تحمل نحو ستّ بنادق آليّة. وكان بحوزته كمّيّات من الأموال النّقديّة.

دبا ورأس الخيمة

في الوقت نفسه، بعث أحد معارفه إلى الشارقة لتمهيد الطريق أمام زيارته المزمعة، وكان مدعوماً ماليّاً من قِبل والد سوسا، وهو رجل ثريّ، وأحد ملّاك مصانع السجائر في إيطاليا. وفي الشارقة أخبر مبعوث باستروي المقيم السياسي في الشارقة بالاتفاقيات المزمع عقدها مع شيخ دبا، حينها، وهو فيما يبدو الشيخ راشد بن أحمد القاسمي، من ضمنها إنشاء مطار، ومبنى للبريد، وميناء إضافة إلى توريد العديد من الأسلحة.

كما كان ينوي تقديم العرض نفسه إلى الشيخ سلطان بن سالم القاسمي، حاكم إمارة رأس الخيمة، آنذاك، وقد توجّه باستروي في البداية إلى مسقط، وهناك ادّعى أنّه يبحث عن أيدٍ عاملة عربيّة للعمل في تعبيد وإنشاء الطرق في أرتيريا أو الحبشة.

أيدٍ عاملة

وكان ينوي الإبحار من هناك إلى دبا في 21 أبريل، ولكنّه وصل إلى ميناء بندر عبّاس، وهناك أيضاً طلب الحصول على أيدٍ عاملة، وفعلاً وعده والي بندر عبّاس بتوفير 10 آلاف عامل، وذكر أنّ هؤلاء العمّال سوف يمارسون أعمالهم في ميناء عصب، ولكن مثل هذا الإجراء لم يتم.

30 سنة

ممّا يدلّ على تضايق السلطة البريطانيّة من تحرّكات باستوري أن الوكيل السياسي البريطاني في البحرين قد التقى به على متن الباخرة «بارودا» أثناء رسوّها في مسقط بتاريخ 21 أبريل 1938، وخلص إلى عدّة أمور تثير الكثير من التساؤلات، فهو يصفه بالكاذب، وأنّه متخصّص في علم الجيولوجيا، وأنّه عمل في الحبشة لمدّة 30 سنة ثم عمل في تجارة الأخشاب في الخرطوم.

وفي الآونة الأخيرة اهتمّ بتصدير النّفط، ويذكر أنّه عمل مع البعثة الأمريكية في عدن للبحث عن الآثار بحضرموت. وأخبر الوكيل السياسي بأنّه يودّ الحصول على الأيدي العاملة للعمل في ميناء عصب، وتعبيد الطريق الواصل بالمناطق الداخلية من الحبشة، وأنّه لا يتحدّث الإنجليزية، ويؤكّد أنّ هذا الرجل كثيراً ما يبالغ في حكاياته وقصصه راغباً في تصديق محدّثيه له، وأنّ كل مشاريعه لا تعدو كونها طموحات وآمالاً، وليس لها من الواقع نصيب، خاصّة ما يتعلّق بالعمل في طريق عصب.

سمات وملامح

يحدّد تقرير بتاريخ 29 ديسمبر 1937 أنّ عُمر باستوري يتراوح بين الخمسين والخامسة والخمسين. وهو سمين، أسمر، أصلع الرأس تقريباً، يستعمل نظّارة للقراءة، حليق الذّقن، وطوله نحو 1.74 متر. وفي تقرير بتاريخ 8 أبريل 1938 يصفه بأنّ له عينين صغيرتين سوداوين، أسود شعر الرأس، قوي البنية تقريباً، وأنّ صلعه في مقدّمة رأسه.

متابعة

من غرائب الأمور أنّ هذا الرجل ظلّ تحت المراقبة البريطانيّة المستمرّة، مسجّلة كلّ تحرّكاته في فلسطين، والعراق، ومصر. وفي تقرير بتاريخ 29 ديسمبر 1937، يلحظ البريطانيون توسّعاً في أعمال باستوري، إذ أقام في بغداد من 28 أكتوبر حتى 12 نوفمبر 1937، والتقى مسؤولين عراقيّين وإيطاليين وألمان وناقش معهم توطين جماعات من الآشوريين في الحبشة، إلا أنّ هذه المخطّطات لم تتعدّ الأحلام والنّقاشات.

إشارات

يتبين لنا من التبحر في دراسة الوثائق:

* أهمّيّة منطقة الخليج العربي للقوى الكبرى.

* دقّة البريطانيين في المتابعة والوصف والرصد.

* اهتمام الإيطاليين بالمنطقة يدلّ على رغبة في منافسة البريطانيين في الإقليم.

* رغبة الإيطاليين في تطوير علاقاتهم بالمنطقة اقتصادياً، وتجارياً بشكل خاص.

* يمثّل باستوري شخصية مثيرة للجدل في تكوينه الشخصي وعلاقاته المتشعّبة.

* لم ينجح باستوري في كثير من مشاريعه.

* لم يكن باستوري يعمل وحده، دون التواصل مع الحكومة الإيطاليّة على أيّ وجه من الوجوه.

* متابعة البريطانيين الدقيقة لهذا الرجل تدلّ على تشكّكهم في نياته في فترة شهدت صراعات إقليميّة كبيرة، وصعود نجم موسوليني، وتمدّد إيطاليا في إفريقيا ومحيطها الإقليمي.

* عدم مواصلة إيطاليا جهودها في التبادل التجاري مع منطقة الخليج العربي نتيجة لاندلاع الحرب العالميّة الثانية.

* التجارة وسيلة لمدّ النّفوذ.

قرار وتراجع

في محاولة لكبح الحضور التجاري الإيطالي، ارتأت الحكومة البريطانية أن تقوم دول الخليج العربي بفرض عقوبات اقتصاديّة على استيراد السلع والبضائع الإيطاليّة، تنفيذاً لقرار عصبة الأمم بفرض عقوبات على إيطاليا في حربها على الحبشة عام 1935. ولكن السلطة البريطانيّة تراجعت عن هذا القرار حتى لا تنظر إيطاليا إلى قرارات الحظر على أنّها محاولة من البريطانيين لإثارة العداء ضدّها في بلدان خارج الإمبراطورية البريطانية.

 

 

Email