أمس واليوم

ما دورها اليوم؟.. الفلسفة بين الماضي والمستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الفلسفة عبر القرون وتاريخ الأمم مرادفة للعلم والحكمة، ولكن الأمور تغيّرت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، لتتحول السلطة المعرفية لدى العلوم الطبيعية، التي نستطيع أن نطلق عليها «الفلسفة الجديدة»، لكن ماذا عن الفلسفة التي كانت شكلاً من أشكال المعرفة القديمة، هل أصبحت تطرح الآن في سلة مهملات التاريخ؟ إلى جانب الخيمياء وعلم التنجيم وغيرهما من العلوم التي يطلق عليها مصطلح «العلوم الزائفة»، وما الهدف من الفلسفة اليوم؟

عصر العلم والفوضى

ما الذي حدث للفلسفة في عصر الفوضى والعلوم؟ لا بد أن العلم المزاحم لجميع أنواع الذكاء قد قلص مساحات التفكير لدى الإنسان الذكي، بعد أن كانت الفلسفة مرادفة للحكمة في معظم العلوم، ومنذ نظريات إسحاق نيوتن وعمله المشهور «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية»، إضافة إلى أحداث الحرب العالمية الثانية، شهدت الشعوب بعد الحرب أن الوظيفة أهم بكثير من الفلسفة، لكونها احتكرت العلوم الطبيعية بنواحيها الفيزيائية المادية غير البشرية على الأرض وحتى الكون وبكل ظواهرها، وبالتالي لم يعد للفلسفة اليوم فضاء فلسفي كما كان سابقاً، حين كانت الفيزياء أو الأحياء أو حتى علم النفس والاجتماع تُولَد كضلع للتأمل الفلسفي.

واقع جديد

وفي ظل واقعنا الجديد، فإن الصلاحيات التي اكتسبتها العلوم الطبيعية انتهى بها الأمر إلى ممارسة الضغط على الفلسفة بشكل ملموس؛ لأنها حدت من مساحات الفلسفة أكاديمياً وبحثياً، فهل برز في الفلسفة ما هو متعلق بالهوية، فما هوية الفلسفة أمام العلوم التي بدأت تتخصص، فهل يمكننا اليوم أن نطلق على الفلسفة في توجهها أو نظريتها أو ثقافتها أنها ثقافة حرجة، في أنها باتت تفسر الحداثة مثلاً، أو تمارس التفكيك بشكل منهجي للحفاظ على ما تبقى من تقاليدها وتاريخها ونشاطها، لتصبح سهلة التحقيق ومقنعة في وجودها من جديد.

دعونا نوضح من جديد كيف أصبحت تتخصص العلوم حتى أصبح لدينا ما يسمى بتخصص التخصص، لتدخل الفلسفة اليوم بتقاليدها القديمة في علاقة حاسمة مع هذه العلوم بوصفها معرفة أو علوم معرفية، فما الشكل الذي تفرضه الفلسفة هنا على نفسها؟ فلا شيء أمامها سوى التحليلات التفصيلية، فتقوم كمثال بتجزئة هذه المعرفة وتقسيم العمل ومدى فعاليتها السببية.

تجزئة العلوم

وعلى الرغم من أن العلوم اليوم صارت مجزأة عدة أجزاء، ومفسرة تفسيراً وافياً، لتبدو العلوم كما هي اليوم، وبمسميات عدة، من أحياء وجيولوجيا وفيزياء وكيمياء وبيولوجيا، كذلك علم الاقتصاد الذي لم يعد يعرف بهذا التعريف بقدر ما يتخصص يوماً بعد اخر، تماماً كما يحصل مع الطب، فأمسى تقسيم العلم فضيلة من الفضائل، بسبب مثابرة التخصص من خلال المتخصصين بها، واستخدامه النموذج المنهجي الصارم، مع زيادة المهارات التشغيلية، حتى أكد البعض وبشجاعة بأن العلم تفوّق على الفلسفة.

أهمية البحث العلمي

البحث رؤية حقيقية اتجهت إليه أنظار العالم كافة، بل تفخر بعض الدول المتقدمة بأن أكبر ميزانية من ميزانيتها السنوية تضعها على البحث العلمي، لضرورته العالية بوصفه عملاً جوهرياً ومختلفاً، فبعد ممارسة البحث العلمي يوماً بعد آخر نتجت بينها علاقات راديكالية (متشددة)، بمعنى أنها وضحت جذور وأصول العلوم، حتى إن لم يكن هناك مفهوم مشترك، فالمسألة هي أن الأمور المعرفية أخذت تتجزأ وفي إطار خاص لها، مع العلم أنها علوم تكاملية مع بعضها، وحتى إن لم تتوافر القدرة على التوفيق بينها، وبالتالي نبادر بالسؤال: ما دور الفلسفة في هذا الوضع الشائك؟

ما جرى لنا في عالمنا الحديث والمعاصر ليس مصادفة، بل هو نتيجة ممارستنا للتضحية من أجل التقدم العلمي، فما نشهده اليوم من العقلانية الشديدة في تفسير الأمور أضعفت دور الفلسفة، إذ يسيطر على العالم اليوم النموذج العلمي التخصصي المعلوماتي الإدراكي واسع الانتشار، وليس المعتقد الطائفي أو الأساطير أو حتى تلك المساحة من التحيز الضيق.

القرن 20

نحن لا ننكر النظريات الفلسفية التي طرحت في القرن 20، فبعضها كان ثميناً ومثمراً، ولكنها كانت قائمة على الدور التقليدي لها من نقد ثقافي وتحقيق وتحليل وتاريخ فلسفي، أما محاولات الفلسفة إنتاج وجهات نظر عالمية جديدة، فكانت بعد الحرب العالمية الثانية طموحة، لكنها كانت مع الأسف بلا مبرر، بدت وكأنها قد عفا عليها الزمن، وطنانة في تشكيكها ومضمونها، لتبدو بعض النظريات الفلسفية الحديثة لا عقلانية ومتناقضة، وكأن المعلومات تقطر قطراً في نهاية المطاف، بعد أن كانت الفلسفة في القرون الوسطى، تناقش العلاقات المعقدة والجدل المعروف آنذاك بين الإيمان والعقل، والعلاقة بين الإنسان والحقيقة، وبين العقل والواقع، فلا يستطيع الإنسان المعاصر اليوم أن ينكر أن الفلسفة القديمة أدّت يوماً دوراً عظيماً من أجل الفكر وازدهاره، بينما اليوم يستصعب أن يناقش عدم جدوى الفلسفة، ومن العسير أيضاً أن يستمر في هذه الجدلية وفي القضايا نفسها التي أثارها قدماء الفلاسفة.

استثناء

بعد تراجع معظم الفلاسفة ونظرياتهم الضعيفة، نستطيع أن نستثني بعض الفلاسفة في القرن 20، حيث يبقى الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر» بشهادة العالم هو الأهم بعد أن وضع نظرياته عن معنى الوجود ومعنى القلق لدى الإنسان خاصة من الموت، وسبب خشيته من ارتكاب الخطيئة، ليربط القلق بالخوف نفسه، ويحلل تحليلاً عميقاً بأنهما سيّان، لنتبين فيما بعد الفرق بين الخوف الأصيل والخوف الزائف أو المبتذل الذي يسقطنا في الثرثرة اليومية، وكذلك الالتباس الذي يجعلنا لا نميز بين الحياة الحقيقية والمبتذلة.. إلى آخر هذه النظرية من تجربة فلسفية متميزة، عن معنى وجودنا وبشكل عقلاني واقعي بحت، لتتميز نظرية الوجودية ودراستها، رغم أنها بدأت بالرد على نظرية الفيلسوف الفرنسي الوجودي سارتر، ولكنه تفوق عليه.

أما بقية الفلاسفة وباعتقادنا ومنذ ما يقارب 100 عام سواء من الشرق أو الغرب، لم تكن نظرياتهم الفكرية مؤثرة كثيراً، فتجاربهم تكاد تكون مكررة، بينما كل ما تم إنتاجه للفكر، فدوافعها الإنتاجية قد نشأت بعد اكتشافات علمية وفكرية كبرى ومؤثرة مثل داروين، وماركس، وفرويد، وآينشتاين، هيمنت على طلابنا في المرحلة الإعدادية والثانوية والجامعة أكثر من أي أستاذ فلسفة.

 

عزلة أكاديمية

بعد سنوات من إلغاء مادة الفلسفة من المناهج الثانوية ببعض الدول، رغم وجودها التخصصي في الجامعة، يبقى أن نعي أن هذه المادة الغائبة تبقى النموذج الدراسي الأمثل لإعادتها، كمادة لمواضيع مهمة وعظيمة مثل العمل، والحق، والوقت، وتفكيك فكرة هذه العناوين وتجريدها بتقلباتها في النفس ونقصها، فهي ذات فائدة ضرورية لفكر طلابنا، فالنظريات والمواضيع غير المفسرة لا بد أن تنتمي إلى الفلسفة التي تقوم في فضاءها على الانضباط الكامل بأساسياتها، وبعقلانية مقنعة بعيدة عن العواطف، حيث الشكل المنهجي، والتقنيات التحليلية والتفسيرية والملاحظات، لتصبح الأطروحة سجالاً ومحاورة ومناظرة، وهنا تصبح المناقشة نموذجاً دراسياً منضبطاً سواء في الثانوية أو الجامعة.

العزلة الأكاديمية للفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم الإنسانية ليست لمصلحة المجتمعات العلمية والتكنولوجية، والأفضل أن تكون على علاقة وثيقة مع الأدب والأمور الاجتماعية والاقتصادية، وإن تعلم الجيل المعاصر العلوم العلمية، ومع ذلك تبقى مادة الفلسفة النموذج الأهم دراسياً، والمطلوب تقسيم الفلسفة في تخصصات علمية ومنطقية وأخلاقية واجتماعية وجمالية، ليتم تدريسها، هذا إن شئنا أن نعترف بالفلسفة وريثةً للتاريخ الإنساني، فلا يتم إلغاؤه رغم ما ذكرناه، لكي يفهم الطالب كيف ينبغي له أن يتحرك أثناء النقاش وفي كل المجالات، بعد أن يتعلم معنى تحديد العلوم بعناية وتعريف أفكارها وتعيين مدارسها، من أجل نقاشها بشكل علمي دون أن تتداخل أو تتفرع معه المواضيع الأخرى، بل بحركة منطقية وفي حقل محدد وبشكل منهجي ليقارع بالدلالات العقلية ويخاطب بالأفعال اللغوية اللازمة أثناء النقاش، دون النزاع كما يحدث كثيراً في الوقت الراهن في الاجتماعات الحوارية المهنية والأسرية وحتى عبر وسائل الإعلام.

 

الفلسفة وتغيير المجتمع

هل نعتقد اليوم أن مهمة الفلسفة تهدف إلى تغيير المجتمع؟ الحقيقة أنها وجدت لذلك، وإلا ما فائدة الحكمة في حياة الإنسان، وكما نرى أنها أثرت حتماً بعد قراءتنا للتاريخ الإنساني الطويل، أنها غيرت، وإن كان التغيير بطيئاً، والسبب أن إمكانياتها الملموسة والفعالة تتطلب التركيز، بالإضافة إلى مواجهتها الأفكار الأخرى التي لم تنسجم معها، لذا ومنذ أن خرجت الحكمة أو الفلسفة إلى الوجود وهي تظهر بأنها تخص أفراداً قلائل، وبطبيعة الحال فإن الحكمة إنتاجها قليل وتأخذ زمناً ممتداً كي تأتي بنتيجة مؤثرة.

 

علم إيجابي ومثابرة فكرية

ما يحصل اليوم في بعض المؤسسات وفي أغلب الجامعات من هدر للموارد المالية على مؤتمرات وبرامج لا تعني الكادر الدراسي كثيراً، يعتبر من أسوأ البرامج التي تقدمها المؤسسات، ولا يتم السماح بقيام مؤتمرات فلسفية ومنطقية سنوية خاصة؛ لكونها تساعد على الاجتهاد الفكري والنقاش العلمي الرصين، حتى على المستوى الشخصي للطلبة والتفكير المنظم، فالفلسفة المنطقية تعد من العلوم الإيجابية وتساعد على المثابرة الفكرية.

 

وريثة الحكمة وقائدتها

هل ستختفي مادة الفلسفة من الجامعات في المستقبل البعيد وعلى مستوى العالم؟ وإن كانت هذه المادة تحظى بتقدير كبير في المجتمعات الأوروبية بشكل عام، والألمانية بشكل خاص، بوصفها الوريثة الحديثة للحكمة والقائدة لها، لكن الواقع العلمي والتكنولوجي الآني يحتم علينا السؤال بعيداً عن الحساسيات: هل يستطيع الفلاسفة في يومنا هذا الإدلاء بتصريحاتهم الفلسفية حول الكون مثلاً وما يحدث في الفيزياء وفي علم الفلك وبحوث الفضاء، أم أنهم سيظلون يبحثون في المواضيع المكررة عبر التاريخ مع تطويرها قليلاً؟

 

12

في القرن 12 الميلادي، كان الفيلسوف ابن رشد الأندلسي، سبّاقاً لزمنه في كتابه «تلخيص وشرح ما بعد الطبيعة» (الميتافيزيقا)، الذي يشرح كل ما فوق الطبيعة وتحديد زواياها من مثلث أو سائل.

 

1861

شهد هذا العام ميلاد الفيلسوف الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد، الرائد في بحثه الفلسفي عن معنى علوم الكون إجمالاً ليضع نظريته الدقيقة في الرياضيات والفيزياء والعلوم المتخصصة.

 

 

1976

شهد هذا العام رحيل الألماني مارتن هايدغر الذي يعد أهم فلاسفة القرن 20، ونقول الأهم بعد أن أظهر نظرياته عن تجارب الإنسان الوجودية القائمة والمنسية في آن.

 

reem.alkamali@albyan.ae

صفحة متخصصة بعلوم التاريخ والتراث والفنون في الإمارات والعالم

Email