جذور

أحمد بن ماجد رمز وطنيّ وإرث حضاريّ

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مر العصور التي تعاقبت على أرض الإمارات خاصّة، والخليج العربي عامّة، ظهرت رموز علميّة وثقافيّة وفكريّة وملاحيّة، أسهمتْ في رفد تاريخ المنطقة بالأعمال الرّياديّة في مجالات شتّى، ما يشي بأنّ المنطقة كانت تُسهم فعليّاً بالبناء الحضاري العربي الإسلامي على مرّ التّاريخ، وقدّمت خدمات جليلة تدلّ على حراك فعّال بالعالَم الإسلامي. هذه الرموز هي «أرباب السيف والقلم»، عبارةٌ توحي بتنوّع الريادة، وتعدّدها في ميادين الحياة، وتشهد بمدى إسهام المنطقة في الحضارة العربية الإسلامية.

فن وعلم

يُعدّ ابن ماجد، منظّرُ الملاحة العربية في المحيط الهندي بالقرن الـ9 الهجريّ - الـ15 الميلاديّ، أحدَ أعظم الروّاد في هذا العلم، حوّل الملاحة العربية في المحيط الهندي من فنّ صرف إلى علم منظّم، رائده العقل لا النّقل، وركناه المعرفة والتجريب، لا الجهل والتقليد الأعمى.

ونعني بالملاحة فنّ إجراء السفينة بالبحر من نقطة انطلاقٍ معروفة، إلى نقطة وصول معروفة، وإيصالها إلى قصدها بسلام في أقصر مدّة زمنيّة، رغم ما يحتمل أن يعترض سيرها من صعاب. والمغامرة والأسفار هي طبيعة أهل المنطقة الذين تعاملوا مع البحار سفراً وارتحالاً، وتجارةً وغوصاً، وعملاً وبذلاً منذ آلاف السنين.

المُنظِّر

الملاحة نوعان: (تجديف) و(شراعيّة). يكون الاهتداء في النّوعين بعلامات فارقة مسمّاة إشارات في الملاحة الشاطئية. وبالنجوم إذا كانت ملاحة في عرض البحر. وقد دمج ابن ماجد الملاحة الشراعية بعلم الفلك. ومن هنا تميّزت ريادته العمليّة والعلميّة.

ونظراً لعلمه بنواخذة البحر فقد قسّمهم إلى 3 أقسام: (ربّان قليل الخبرة: يذهب ويأتي مرّة سالماً، ومرّة غير سالم)، و(ربّان حاذق ماهر في كل مكان يسافر إليه)، و(ربّان خبير لا يخفى عليه شيء من مشكلات البحر، يدوّن خبرته في مصنّفات فينتفع بها النّاس).

وبهذا التقسيم يبيّن لنا المراحل التي مرّ بها أصلاً، منذ شبابه إلى شيخوخته. وبلا شك وهو في طريقه نحو الارتقاء استصحب معه تاريخ جدّه، وعمل والده، وكلاهما كان له دور كبير في الأسفار والإبحار، وكان كثيراً ما يُثني عليهما في استشهاداته.

فوصف خبرة والده وجدّه بالملاحة في البحر الأحمر «أخطر بحار العالَم»، ومعرفة جزره وشِعابه، والأماكن الخطرة فيه. وكان جدّه محقّقاً فيه، وزاد عليه والده بالتجريب والتكرار ففاق علمه علم أبيه، كما فاق بعلمه علمهما، فهو إذن سليل أسرة ذات ماضٍ بحريٍّ عريق، وُلد في مجتمع بحريّ نشط، كما يستصحب معه سمعة مدينته «جلفار» ذات التاريخ العريق في العلائق مع البحر، والتجارة مع العالَم الخارجي منذ ما قبل الإسلام حتى عهده.

ووصف «جلفار» بأنّها موطن أسود البحر وفرسانه، كما يسترشد بقصص وحكايات المسنّين من أبناء «جلفار» الذين أعياهم السّنّ من مواصلة العمل في البحر، فكان يسمع منهم قصصهم وتجاربهم مع البحر وأهله، فنشأ على حبّ البحر، وسمع المسنّين من أهالي «جلفار» وهم يتحدّثون عن الأسفار والمغامرات، وتعلّم منذ صباه علم الملاحة. وأضاف إلى كلّ ذلك ما تلقّاه من علوم الدين والفقه والحساب والفلك، وأكّد ذلك بما اكتسبه من خبرات متراكمة عبر الزمن، وما تحصّل عليه من مشاهدات ومشاركات وهي أكبر معلِّمٍ للإنسان.

أصناف الرحالة

منذ العصر السابق لعصر ابن ماجد كانت الرحلات من أهم وسائل المعرفة الجغرافية، وهي الأداة الرئيسة للجغرافي حتى نهاية القرن الـ20، وظلّ الكشف الجغرافي المعتمد على التجربة الشخصية من أبرز متطلّبات الجغرافي. والرحّالة صنفان: صنف يطوف البلدان لهدف علميّ؛ ليسجّل المعلومات الجغرافية وغيرها تسجيلاً أميناً، وصنف يسيح في الأمصار لأغراض عدّة ثم يدوّن ملاحظاته ومشاهداته في كتاب، وكلا الصنفين يقدّم زيادة في حصيلة المعلومات الجغرافية، وتفوّق ابن ماجد على كلا الصنفين.

أسد البحار

يرجح ميلاد ابن ماجد بين عامَي (835 و840هـ - 1431 و1436م)، أو (825هـ - 1421م). وأنا أرجّح التأريخ الثاني، ويحتمل أنّه مات عام (906 هـ - 1499-1500م). وطموح أسد البحار إلى بلوغ ما لم يبلغه أحد من مشاهير عصره من الملّاحين دفعه لتحقيق ذلك بجدّ وجهد.

ولأنّه عمل أكثر من نصف قرن بالملاحة في المحيط الهندي وبحاره، كان أوّل مَن دوّن فنّ الملاحة وعلمها بلغةٍ عربيّةٍ فصحى شِعراً ونثراً، وأغنى الفصحى بمصطلحات جديدة، وأثبت قدرة العربيّة على التكيّف مع المقتضيات الحضاريّة المستجدّة، وأكثر من نظم الشِّعر العلمي الملاحي. وكانت معارف رئيس علم البحر الفلكيّة واسعة جدّاً، ومعلوماته الجغرافيّة تفوق كثيراً معلومات الجغرافيين العرب في البحر والسواحل والموسميات وتفسير هبوب الرياح والمدّ والجزر.

وكان الرئيس المقدَّم عالِماً باللغات: العربية، والتاميلية، والسواحلية، والفارسية. وتنقسم مؤلَّفاته إلى قسمين: أوّلاً: الأراجيز والقصائد: وهي 41، وثانياً: أعماله النّثريّة: وهو مختصر كتاب «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد». وانتشرت تآليف ابن ماجد في أوساط العرب وهو على قيد الحياة ثم عند الأتراك، حيث تُرجمت عدد من أعماله إلى التركية، ثمّ باللغات الأوروبية: الروسية، والفرنسية، والإنجليزية، والبرتغالية.

ووصل إلى درجة معلّم «أعلى درجة في سلّم العمل البحري»، وجمع ابن ماجد بين العلم النّظري، والاختراع التقني، فكان أول مَن طوّر البوصلة الملاحية بالمفهوم الحديث، وأول مَن ابتكر تعليق الإبرة الممغنطة على محور لتتحرّك حركة حرّة، وأوّل من ابتكر آلة «الكمال»، وهي قطعة خشبيّة مربّعة على شكل متوازي المستطيلات، في وسطها ثقب يمثّل مركزها، يمرّ من خلاله حبل، وقسّم الحبل إلى أجزاء تفصل بين كل جزء وآخر عقدة، حيث يتفق تدريجياً مع ظلّ تمام منتصف الزاوية وبين الأُفق وعين الراصد والنجم المرصود.

و«الكمال» جهاز ملاحي يحدّد خطوط العرض. وكان اختراع «الكمال» قد سمح لابتكار خطوط العرض المبكرة، فكان أول خطوة نحو استخدام الأساليب الكمية بالملاحة، وتبنّاه الملّاحون الهنود بعد ذلك، ثم تبنّاه الملّاحون الصينيون قبل القرن الـ16.

دستور

حدّد فيه عدداً من التعليمات الخاصّة بالربّان «النّوخذة» والسفينة، وركّابها، وشحنتها، فالنوخذة يجب أن يكون ذا صفات أخلاقية رفيعة، ويشبّه الخارج إلى البحر كالخارج لأداء فريضة الحجّ، وعليه أن يحصل على كفايته من الفنون الملاحية وعلم الفلك، وأن يواصل الدراسة والتحصيل والتدريب على فنون البحر، مع التأمّل والحزم في الأقوال والأفعال، ولين الطبيعة، والشجاعة، وعلوّ الهمّة، والصبر، واليقظة وقلّة النوم، والانتباه لماسك «السّكّان»، وإعداد كل الآلات والأجهزة الملاحيّة، وأن يهتمّ بالسفينة، والالتزام بحمولة الشحن، ومعاينة السفينة أثناء صنعها.

مقترحات

نقترح تخصيص احتفالية ثقافية للرمز الكبير، تتبنّاها وزارة الثقافة وتنمية المعرفة، وتتضمّن إقامة ندوة تخصّصيّة حول ابن ماجد، تتضمّن تقديم أوراق علمية حوله، ومناقشة ما تمّت كتابته عنه، والتطرّق إلى شخصيته عبر كتاباته ومؤلَّفاته، ووضع خارطة للملاحة البحرية من كتاباته، وابن ماجد في الوثائق البرتغالية، والحديث عنه باعتباره رمزاً ثقافياً وتراثياً وتاريخياً للإمارات.

كما نقترح تنظيم مؤتمر عن ابن ماجد، وتكثيف البحث والنشر عن الآثار والكشوفات التي تمت في «جلفار» وترجمة كل ما صدر من بحوث ودراسات وكتب ومقالات حولها للغة العربية، وإيداعها في كتاب واحد، مع مراجعتها والتعليق عليها.

1957

حين نشر المستشرق الروسي تيودور شوموفوسكي كتاب «ثلاث أزهار في معرفة البحار» ونسبه لابن ماجد عام 1957، والكتاب منشور باللغة العربية بترجمة وتعليق محمّد منير مرسي، (عالَم الكتب)، القاهرة، 1970، أشار في تحقيقه لهذا الكتاب إلى حدوث اللقاء بين الملّاح الشهير والقائد البرتغالي فاسكو دي جاما، وأشار إلى احتواء هذه الأراجيز على معلومات عن المصاعب التي لاقاها البرتغاليون في ساحل شرق أفريقيا لعدم معرفتهم بنظام هبوب الرياح الموسمية، كما لفت إلى كون ابن ماجد «شاهد عيان» على ممارسات البرتغاليين لأعمال القرصنة في المحيط الهندي. وقد فنّد الراحل إبراهيم خوري ما توصّل إليه ناشر كتاب «ثلاث أزهار»، وبيّن أخطاءه، والنّتائج التي توصّل لها، وبيّن أوهامه فيما توصّل إليه.

لقاء فاسكو دي جاما

بغضّ النّظر عن كون لقاء ابن ماجد بالقائد البرتغالي أسطورة أم لا، أو أنّها لا تصحّ، أو أنّها فِرية لا أصل لها، فإنّه من المؤكّد أنّ ابن ماجد لم يلتقِ بفاسكو دي جاما ولا بغيره من البرتغاليين. وللأسف فإنّ هذا الملّاح العظيم تُهمَل كلّ مآثره ومناقبه، وتُتَذكّر حادثته مع فاسكو دي جاما.

وتوجد العديد من المصنَّفات التي فنّدتْ هذه الفرية، ونفتْها بالكُلّيّة خاصّة مع عدم الإشارة إلى البرتغاليين في أعمال ابن ماجد. ولم يذكر المؤرّخون البرتغاليون هذا الأمر، مع كثرة المعلّمين وتوزّعهم في كلّ المرافئ، ويمكن لأيّ أحد الاستعانة بهم وليس بالضرورة أن يكون هذا الشخص مشهوراً في علم الملاحة، كما أنّ الرحلة من شرقيّ أفريقيا إلى الهند يمكن أن يقوم بها أي ربّان، ولا تستحقّ كلّ هذا الاهتمام.

صفحة مُتخصّصة بالتراث والبحث في مفردات المكان.. تصدر كل خميس

Email