عبدالله السالم الصباح في عيون أهل الإمارات وعُمان ..

نموذج رائد للخير والمحبة والعمل الإنساني

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

زخرت منطقة الخليج العربي بالشخصيات الرائدة والقائدة عبر تاريخها الطويل، تلك الشخصيات التي لعبتْ أدواراً مهمّة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والأدب والفنون والحِرف.. وغيرها من ميادين الحياة التي أبرزتْ مدى الحاجة للقيادات الرائدة، المتميّزة في المجتمع الخليجي التي تصبح نبراساً للنّاس، وقدوة صالحة يقتدى بها عبر الأجيال.

ومن هؤلاء الروّاد، المرحوم، الشيخ عبدالله السالم الصباح، الأمير الحادي عشر في دولة الكويت الشقيقة، والمولود بها نحو عام 1895، والذي تولّى حكمها بعد وفاة ابن عمّه الشيخ أحمد الجابر في 25 فبراير 1950، وظلّ في الحكم إلى يوم وفاته في 24 نوفمبر 1965.

ونال هذا الأمير العظيم مكانة عالية في تاريخ منطقة الخليج العربي، بما قدّم لبلاده وبلدان الخليج العربي الأخرى، فكان بالتالي أحد كبار القادة في المنطقة. وتحقّقتْ على يديه إنجازات هائلة من تطويرٍ ونهضةٍ وتمدّنٍ وقانونٍ ودستورٍ وتشريعاتٍ وتربيةٍ وتعليمٍ وصحّةٍ وانتخاباتٍ وتنميةٍ ومساعداتٍ، حتى أصبح عهده عهد بركة وخير وعطاء.

1961

وفي كلمته يوم الاستقلال 19 يونيو 1961، خلال التوقيع على وثيقة استقلال الكويت عن المملكة المتحدة، مع السير جورج هَامفوري ميدلتون (George Humphrey Middleton)، المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي، حيذاك، قال الشيخ عبدالله السّالم الصّباح:

«شعبي العزيز.. إخواني وأولادي، في هذا اليوم الأغرّ من أيام وطننا المحبوب.. في هذا اليوم الذي ننتقل فيه من مرحلة إلى مرحلة أخرى من مراحل التاريخ ونطوي مع انبلاج صبحه صفحة من الماضي، بكلّ ما تحمله وما انطوت عليه لنفتح صفحة جديدة تتمثّل في هذه الاتفاقية التي نالت بموجبها الكويت استقلالها التامّ وسيادتها الكاملة.» .

وأضاف: «ونحن على أبواب عهدٍ جديدٍ نرجو أن تبدأ الكويت انطلاقها بتقوية أواصر الصداقة والأخوّة مع شقيقاتها الدول العربية للعمل بتكاتف وتآزر على ما فيه خير العرب وتحقيق أماني الأمّة العربية كما إن الوضع الجديد يتطلّب منّا العمل على الانتماء للجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة وغيرها من المنظّمات التي تعمل لخير العالم وأمنه وسلامه كلما كان ذلك في الإمكان».

وهو بهذه العبارات أراد أن يضع الكويت في مصافّ الدول المتحضّرة العاملة على رقيّ وخير البشريّة، كما أراد، رحمه الله، بهذه العبارات أن يؤكّد دور الكويت التنموي في محطيها الخليجي. وهو دور سبق للكويت القيام به حتى وهي في عهد الإمارة قبل الاستقلال، وهو بالتالي يمزج بين القول والعمل، وبين الألفاظ والواقع، وهو هنا يرسّخ قدمه في صعيد الزعامة والقيادة والريادة.

انطباعات

وفي هذه الحلقة سنركّز على الانطباعات الشّخصيّة التي استخلصناها من مجموعة من الأفراد، من أبناء الإمارات وعمان عملوا في دولة الكويت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حول المرحوم الشّيخ عبدالله السّالم الصباح. إذ تواصل معه بعضهم بشكلٍ مباشرٍ فخبروا طيبته، وأحسّوا بحنانه ورحمته، ولمسوا خيره، وشاهدوا وخبروا بركته، وأدركوا قيمته.

وعلموا جدّه واجتهاده في سبيل الأخذ بأيدي دول الخليج العربي نحو الرقيّ والتقدّم حسب الإمكانات المتاحة آنذاك. ولهذا، عبّروا عن محبّتهم لهذا الرجل الكريم، وأبدوا بشأنه مشاعر فيّاضة، وعكسوا مدى حبّهم لهذا الحاكم الفذّ في زمانه.

كما تركّز هذه المقالة، على دور الانطباعات الشّخصيّة في تشكيل الحسّ المجتمعيّ من خلال المشاعر الشّخصيّة التي تمثّلتْ في مجموعة من الأفراد الذين اتّبعوا مشاعرهم وعواطفهم في التّعامل مع أفراد المجتمع الكويتي في تلك الحقبة، وتداخلوا معه، وأخلصوا لأهله، وأظهروا له من جدّهم ونشاطهم ما يفوق الوصف.

عطاء

ولا شك أن تسجيل وتدوين مثل هذه الشّهادات يمثّل جانباً إيجابيّاً في مناحي الحياة المختلفة، لأنّها تكون دافعاً قويّاً في البذل والعطاء والمساهمة الفعّالة في بناء المجتمع. كما تبرز بعض الجوانب الإنسانيّة في شخصية الشّيخ عبدالله السّالم الصباح، رحمه الله، من خلال تواصله مع أفرادٍ لا ينتمون من حيث الجنسيّة للمجتمع الكويتي آنذاك، إلا أنّهم اندمجوا في المجتمع الكويتي حتّى صاروا جزءاً منه.

وفي الوقت نفسه، تبرز دور الشّيخ عبدالله السالم الصباح، بأسلوبه وطيبته ومحبّته في استنهاض همم الآخرين من أبناء الإمارات وعمان في العمل الإيجابي في المجتمع الكويتي في تلك الحقبة، مع تبيان أنّ هؤلاء المهاجرين العاملين في الكويت كانوا يعلمون عِلْم اليقين أنّهم راجعون يوماً ما إلى بلدانهم.

وستنقطع صلتهم العمليّة بالكويت إلا أنّ ذكرياتهم الجميلة ستظلّ تحتفظ بالجانب الإيجابيّ للكويت من خلال المشاعر الموجّهة لأميرها حينذاك.

اندفاع

وأهمّ حدث عاصره أبناء الإمارات وعمان أثناء وجودهم في الكويت، هو تهديد الزعيم العراقيّ عبدالكريم قاسم بغزو الكويت، واحتلالها بُعيد إعلان استقلالها، عام 1961، واعتبر ذلك إيذاناً له بضمّ الكويت.

وصار نوع من التّهويش والتّحرّش وحشد الجنود على الحدود مع الكويت. فحينها أحسّ أبناء الإمارات وعمان بضرورة الدّفاع عن الكويت وأهلها، فهي موطنهم وبلد إقامتهم، وفيها مصدر رزقهم، وفيها أهلهم وأحبابهم. حينها اختلطت مشاعرهم وأحاسيسهم مع مشاعر أهالي الكويت، ومن الجدير بالإشارة إلى أنّهم فعلوا ذلك محبّة للكويت، ووفاء لها.

وبناء على ذلك فقد تّطوّع كثيرٌ منهم في الجيش الكويتيّ الناشئ، وحملوا السّلاح، واشتركوا في التدريب، وانخرطوا في الأعمال الميدانيّة واللوجستيّة. كما شاركوا في مظاهرات عارمة ضدّ عبدالكريم قاسم، وتنديداً بتهديداته، ودعماً للكويت وأهلها. بل قاد أبناء الإمارات تلك المظاهرات، وحملوا لافتات كُتب عليها عبارات الفداء والتّضحية، وأخذوا ينادون:

«يا بو سالم عطنا سلاح نحن جايين للكفاح»، ووصلوا بمظاهراتهم إلى قصر السِّيف العامر، حيث أطلّ عليهم الأمير الراحل، وحيّاهم، فأنعش ذلك نفوسهم، وأحيا آمالهم. وفي أثناء تلك المظاهرات قابل الشّيخ عبدالله السالم الصباح النّاس وخاطبهم:

«أشكركم وبارك الله فيكم، إنّنا سنتولّى المسائل بالحكمة والعقل، فإذا تأزّمتْ الأمور لا سمح الله، فأنتم الذّخيرة والعمود الفقري للوطن فإمّا حياة شريفة وإلا فالموت أفضل في ظلال وطن حرّ منيع كريم». بلا شكّ، إنها كلمات موجزة، مركّزة، دقيقة، ومباشرة، لها دلالات عظيمة تذكي في هؤلاء المتظاهرين روح التضحية، وتبرز لهم شخصيّة حكيمة، متفاعلة.

أمير القلوب

ومن أعظم الصّور النّفسيّة، والملامح العاطفيّة، والمشاعر القلبيّة، والأحاسيس المرهفة، ما ملأ نفوس وقلوب أهالي الإمارات وعمان من محبّةٍ وتقديرٍ للشّيخ الجليل، والأب الحنون، والأمير الكبير عبدالله السالم الصّباح (رحمة الله عليه)، الذي أرسى بسياسته المباركة، وروحة الطّيّبة، وحنانه، ونفسه المعطاء قواعد التّسامح، وحُسن الجوار مع الأشقّاء في المنطقة.

وكان لعطفه ورحمته وسموّ أخلاقه أعظم الأثر في إجلاء الجهل والمرض، أو على الأقلّ كان سبّاقاً لذلك حين تقاعس البريطانيون، وتردّدوا، وأهملوا، وتأخّروا، وضيّعوا، وفوّتوا. فبمجرّد أن عمّ خير النّفط الكويت، جعله الشّيخ عبدالله السالم الصباح، يفيض على الجيران. وكثير من أبناء الإمارات وعمان الذين عملوا في الكويت آنذاك.

وجدوا في الأمير العظيم كرم الضّيافة، وحُسن التّعامل المنعكس على بقيّة المسؤولين في الكويت الذين في أغلبهم فتحوا قلوبهم ومكاتبهم وبيوتهم ونفوسهم لإخوانهم أهل المنطقة. ولهذا أحبّوه من قلوب طيّبة بادلتْ طيبته بطيبة معهودة عند أبناء الإمارات وعمان.

نهضة

وقد عبّر بعضهم تفسيراً لعمق تعلّق النّاس به: أنّهم «يحبّونه لأنّه هو يحبّ النّاس». وكيف لا يكون كذلك، وعهده رحمه الله كان أساس النّهضة الحديثة والإصلاح الإداري والسّياسي والاجتماعي في كافّة مناحي الحياة. ولا يتأتّى حبّ النّاس للحاكم إلا بحبّ الحاكم لهم، وعطفه عليهم، وعمله على تحقيق مصالحهم. والجدير بالإشارة أنّه مَن تواصلَ معه مباشرة أحبّه.

ورأى من تواضعه وجلال قدره ما رسّخ محبّته في قلوب المتواصلين معه. ومَن كان يعمل في قصره منهم فإنّه يدعوهم ويسأل عن أحوالهم، وعن بلدانهم، وقراهم، وحكّامهم، ويستفسر عن شؤونهم، ويعاملهم معاملة الأب لأبنائه.

ويجدون عنده علماً عن كلّ بلدان المنطقة، آنذاك، مّا يدلّ على خبرة بها، وهذا ما هيّأ له تقديم كلّ إمكانات الدعم لها. بل إن بعضهم سافر معه في طائرته الأميريّة أثناء رحلته من البحرين إلى الكويت، حيث استقلّ هؤلاء الطائرة الأميريّة حين ضاقت بهم سبل السفر إلى الكويت.

فما وجد أحد المعارف لهم في مطار البحرين إلا طائرة الأمير فاقترح عليهم أن يسافروا معه بدون علم الأمير، ولمّا أقلعتْ الطائرة وارتفعت أُخبر الأمير بهم، فناداهم واستخبرهم عن أحوالهم، وأثنى على ركوبهم معه، وتلطّف معهم في القول وأَلَان لهم الجانب حتى وصلوا إلى الكويت. ومن العجائب أنّ أحدهم وهو على درّاجته الهوائيّة يصطدم بسيّارة الأمير فجأة ويقع على الأرض.

ويخرج له الأمير فينصحه بضرورة الانتباه وعدم تعريض نفسه للخطر في الشوارع. بدون أن يعنّفه أو يزجره أو ينهره، بل نصحه بكلّ هدوء ثمّ انصرف عنه.

بهذه الشخصيّات الرائدة تتربّى الأجيال، وعلى سِيَرهم تنهض الأمم، وبالاقتداء بهم تعلو الهمم. ولهذا نال الشيخ عبدالله السالم الصباح، رحمه الله، كلّ إعجاب ومحبّة.

حب وتقدير

مثلت وفاة الشيخ عبدالله السالم الصباح، في 24 نوفمبر 1965 فاجعة لمحبّيه، فخرجتْ الكويت كلّها لتشييعه إلى مثواه الأخير، حتّى قيل حينها: إنّ الكويت خلتْ من أهلها، ولولا الأمان لَسُرقتْ كلّ البيوت.

مشاركة صادقة

من أهمّ الأمور الملفتة للأنظار، أنّ أبناء الإمارات الذين استقروا في تلك الفترة في الكويت «خلال فترة حكم الشيخ عبدالله السالم الصباح»، كانوا يشاركون إخوانهم الكويتيين في أفراحهم وأتراحهم، وفي مسرّاتهم وأحزانهم، وفي أعمالهم وأقوالهم، وكانوا يرون في البلد الخليجي المقيمين فيه، بلدهم الثاني الذي آواهم وأكرمهم وأصلح الله به أمورهم، وأحيا الله به أُسرهم، وأقام الله به حيواتهم.

كثير الفضائل

في كلّ لقاءاتنا مع الإماراتيين الذين عاشوا في الكويت في تلك الفترة، ولمّا نسألهم عن الشّيخ عبدالله السالم الصباح، نجد ذِكراً طيّباً، ونَفَسا طاهراً، وإشادة عجيبة بهذا الشّيخ، وكأنّه بالنّسبة إليهم كان ملاذهم الآمن، كما كانت بلاده بالنّسبة لهم موطنهم الآمن، وكانوا يرون هذا الأمير الجليل بركةً عليهم، وخيراً هيّأه الله لهم، فهو قائد فذٌّ، عاقل، وإنسان مبارك، حكيم، بعيد النّظر، عميق الفكر، آتاه الله البصيرة، كثير الفضائل، متعدّد المناقب، كوّن الكويت الحديثة، ووضع أُسس انطلاقتها، وأقام لها مركزاً في ميادين الحياة المختلفة.

 

Email