مهنة اندثرت لكنها حاضرة في الذاكرة الشعبية

«المنادي» مذيع «الفريج» وصوت الحي الجهوري

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرة هي المهن التي اندثرت عبر الزمن، بفعل التقدم التكنولوجي السريع وتوفر وسائل الإعلام، ومن ضمن تلك المهن تأتي وظيفة «المنادي» أو«المبلغ»، التي كانت منتشرة في مجتمع الإمارات في فترة الخمسينيات، ومع إعلان قيام دولة الإمارات بدأت ملامح هذه الوظيفة بالاندثار.

و«المنادي» هو شخص يمتاز بصوت جهوري يسير بين السكك وفي الأحياء السكنية ليبلغ عن ضالة ضائعة أو ينقل رسالة من الجهات الرسمية إلى السكان، وهو يردد عبارات مغناة تدل عن وجود حدث أو أمر طارئ في المنطقة، ورغم زوال هذه المهنة إلا أنها مازالت حية في ذاكرة الإمارات الشعبية بعدما لعبت دوراً أساسياً في حياتهم البسيطة في الماضي، حيث كانت بمثابة إذاعة لـ«الفريج».

مناسبات وأخبار

الباحثة في التراث، غزالة مبارك قالت: «عاصرت شخصية «المنادي» في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وكان يطلق عليه عدة مسميات، منها؛ «المبلغ» أو «النادي»، وبدأت هذه المهنة بالاندثار في نهاية الستينيات، فكان هناك شخص يطلق عليه «المنادي» يتجول في الأحياء السكنية، وينادي على أهالي الحي ويشتهر بصوته الجهوري، ليبلغهم عن شيء ضائع كالنقود أو الدجاج والمواشي الضالة، كما كان يوصل رسالة من الجهات الرسمية إلى عامة الشعب، فيها أمر أو خبر من المناطق المجاورة، وكان يبلغ أهل الحي بأمر إقامة صلاة الاستسقاء في المكان والوقت الذي تحدده الحكومة، وكذلك كان يبلغ عن المناسبات الاجتماعية».

رسائل الأهالي

وتضيف غزالة: «كان المنادي يمر على الأحياء من فترة الضحى وحتى غروب الشمس، ومن العبارات التي كان يرددها «يامرحومين الوالدين، يا فاعلين الخير، يا من حصل هذه الضالة...»، وكان صاحب الشأن الضائع ينادي «المنادي» إلى منزله ويشرح له عن الشيء الضايع عنه ويقدم له المال مقابل الإبلاغ عن المفقود».

وتشير غزالة مبارك إلى أن مهنة «المنادي» كانت تنوب عن دور وسائل الإعلام وخاصة في ظل شح وسائل المواصلات وصعوبة التنقل وعدم توفر مراكز الشرطة، فكان صوت المنادي الشجي القوي، هو بمثابة مايكروفون أهالي الحي.

وتصف غزالة تلك الأيام وتقول: «مع ظهور التكنولوجيا وإعلان قيام الدولة الاتحادية تلاشت العديد من المهن بلمح البصر، فلم يعد هناك شيء اسمه «المنادي»، فأخذ المذياع والتلفزيون والمكالمات الهاتفية وظيفة هذا الشخصية الراسخة في ذهن كل من عاصره فترة الخمسينيات فما قبل».

وتعود المستشارة الثقافية في هيئة المعرفة والتنمية البشرية في دبي، حبيبة محمد بن ثالث «أم محمد»، بذاكرتها إلى فترة ما قبل قيام الاتحاد لتحدثنا عن «المنادي»، وتقول معبرة: «ما أجمل تلك الأيام التي كنا فيها نترقب سماع صوت «المنادي»، ذلك الرجل الأمين البسيط الاجتماعي الأقرب والمحبب إلى أهالي الحي، حيث كان يؤدي عمله دون كلل أو ملل، مقابل مبلغ مادي زهيد لا يتجاوز الروبية أو النصف منها، وبعضهم كان يؤدي هذه الخدمة على سبيل التطوع، وأذكر تلك الأيام وتحديداً في منطقة «الجميرا»، حيث كانت المنازل بسيطة مصنوعة من سعف النخيل، وكان «المنادي» بصوته الجهوري يبلغنا عن ضالة ويقول: «يامن شاف المهيب..يا أهل الله يا من شاف..»، ويذكر مواصفات الضالة، وكان يمشى بالفرجان وصولاً إلى منطقة بر دبي، ويعود مجدداً حتى يجد الضالة».

وتشير أم محمد أن «المنادي» كانت لديه فراسة ولديه معرفة بعلوم الآثار وتتبع آثار الاقدام والاخفاف والحوافر في الطرقات، التي تساعده في الوصول إلى المواشي الشاردة عن أصحابها، إذا كان المنادي يؤدي دور الباحث والشرطي معاً، وكان على علم ودرايه بجميع طرقات وسكك المنطقة.

وكانت لمهنة «المنادي» الأثر الإيجابي الكبير الذي انعكس على مجتمع دولة الإمارات فيما بعد، توضح أم محمد: «عرف عن مجتمع دولة الإمارات حب الخير والقناعة وتقديم الخدمة دون مقابل، وربما مهنة المنادي هي خير مثال عن هذه الصفات الحميدة التي تشربناها من قيادتنا الحكيمة بدءاً من عهد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والتي سار على نهجها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وأخوه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وإخوانهما أصحاب السمو الشيوخ حكام الإمارات.

فأصبحت قيم العطاء راسخة في ضمير الشعب، وباتت ثقافة يقدمها الصغير قبل الكبير بكل عفوية وتلقائية».

وتوضح شيخة جاسم السويدي، أول مصورة فوتوغرافية إماراتية، أن مهنة «المنادي» لم تكن مقتصره على الإبلاغ عن المفقودات ولكن ظهرت شخصية «المنادي» في البحر حيث كان هناك «منادي» ينادي بصوت عالٍ للإبلاغ عن وصول المراكب الشراعية للميناء، أو تلك التي يعلن فيها نداء الرحلة للانطلاق للغوض. وتشير السويدي أن اسم «المنادي» ذكر في قصائد الشعر النبطي، منها قصيدة جميلة غناها المخضرم علي بن روغه، للشاعر المرحوم سعيد الهاملي:

صاح بزقر المنادي.. بخطوفه.. يوم السفـن بتشـل

غمس على لفوادي.. بالكوفه.. ولا وادعـه بالحـل

وين قمري.. لمجادي.. لا شوفه.. ينمـاز وينعـذل

أزم نوره فسادي.. بشفوفه.. وعِـرفْ الـذي معتـل

Email