من أهمّ المعالم الحضاريّة عند الأمم والشعوب ما خلّفتْه من عمائر ومبانٍ تظلّ شاخصة عبر الزمن تدلّ على بناتها ودورهم في الحياة، وعادةً ما يمثّل العمران أحد الجوانب الرئيسة في حضارات وثقافات الشعوب، فهي تعرفنا بطريقتهم في الحياة وأسلوبهم في الاستقرار، وتبين لنا كيفية تعاملهم مع البيئة، وكيفية استعمالهم للمواد الخام المتوافرة فيها إضافة إلى ما تقدمه لنا من فهم لحياتهم المادية، وأسلوب عيشهم، وتكيفهم مع إقليمهم وخصائصه المناخية وتضاريسه، وجغرافيته وموقعه.
ومن أهم الأمور كذلك أن هذه العمائر مهما كان حجمها تدل على شخوص ونفسيات بناتها وفنهم وأذواقهم وإحساسهم. كما تتضح لنا من خلال البنيان الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها الأهالي، وكيف كان عمرانهم دليلاً على تواصلهم، وشاهداً على أوضاعهم.
صمود
إن من أهم مميزات العمارة التقليدية، الصمود فهي تقاوم الزمن، ومهما أصابها من إهمال إلا أنّها تظلّ تقاوم إلى آخر لحظة في بقائها، وإن أُحسِنت حمايتها وصيانتها فإنّها تعدّ أحد رموز الخلود. كما تعد العمائر أحد إنجازات السابقين ومفاخرهم، ومنجزاتهم عبر السنين لأن مَن يأتي بعدهم يلاحظها أمامه فيحفظ ذلك في ذاكرته، ويعيها بفكره.
وهذه المعالم المعمارية عادةً ما تكون مقاوِمة للكوارث والأضرار التي تلحق بها عبر الأزمان، وإن وجدتْ مَن يحفظها ويحافظ عليها فإنها تدوم وتزدهر. وعلى الخلف النظر للعمائر كرموزٍ للتعبير عن شكل الحياة الاجتماعية، وكجزءٍ من بيئة حياة لا كبناء قديم ذي طابع متخلّف. وهي بالتالي تُعامل ضمن إطار التّجمّع الحضري والمدني القائم.
وفي العصر الحديث، وجدتْ بعض التوجهات المعاصرة للعمارة التّراثيّة، فهناك مَن يرفضها رفضاً باتّاً ولا يرى فيها إلا عبئاً على التطوير والنمو، وهذا الرفض مرتبط برد الماضي بما فيه وعدم الاعتراف به، والتوجه نحو الغرب، وقبوله، والرضا به، واعتباره رمزاً للعمارة الحديثة.
وهناك مَن يرى ضرورة التعايش مع الحاضر والارتباط بالماضي، والحفاظ على الطابع المحلّي مع الحداثة بما يحقق التوازن بين الإنسان والبيئة، واستحداث الأشكال المعمارية الحديثة مع الارتباط بالماضي. والاستفادة من تصاميم العمارة القديمة في بناء المعمار الحديث بحيث يتم التبادل الصحي بين الإطارين، ويتضح للناس وبالذات الأجانب منهم قيمة المعمار القديم في التأقلم مع البيئة، وإحداث نوع من التوازن معها.
فمثلاً استعمال الزجاج بكثرة مع جماليته إلا أنه لا يتوافق مع البيئة الحارة المشبعة بالرطوبة في وقت الصيف حيث تكثر الرياح المحملة بالأتربة ما يتطلب تنظيفاً مستمراً ومتواصلاً.
ومهما كان عزل هذا الزجاج عن الحرارة عن الداخل إلا أن أشعة الشمس تنعكس على الشوارع والأنحاء فتلتهب حرارة. وهنا كان منطلق الآباء والأجداد في التعامل مع البيئة، والتوافق معها، وعدم إهمالها وفي الوقت نفسه، عدم تضخيم أمرها. كما أن المسطحات الزجاجية الواسعة في النوافذ والصالات تدخل كمية من الحرارة، وتدفع إلى استهلاك كمية أكبر من الكهرباء للتبريد.
شروط
ومن أهم الأمور الملاحظة في عمارة البيوت، قديماً، في الإمارات، أن استخدام الزخارف الهندسية أو النباتية على الحجارة أو الأخشاب، هو الشائع والمنتشر في كل العمارة المحلية فلا تصوير لذي روح، ولا تجسيد لذي هيئة، وبالتالي فهي نقيّة خالصة مرتبطة بعادات ودين أهل البلد. وأما مواد التسقيف في المدن بالذات فهي الجندل أو ما يعرف بالمنجروف المجلوب من شرقي إفريقيا على الأغلب، وهي نوعية جيدة من الأخشاب، ولها أطوال تتراوح ما بين المترين والنصف والثلاثة أمتار، ومن هنا كان عرض الغرف محدداً بما يسمح به طول الجندل، ومن هنا تكاد الغرف تكون متقاربة في عرضها، وهي صفة عامة في المدن. وكانت تجارة استيراد الجندل من شرقي إفريقيا رائجة ومزدهرة، وكانت السفن الكبيرة تأتي بها، وكانت أسر تحيا على هذه التجارة التي لها شروطها حين قطع الأشجار، وأعداد كل الأخشاب المصدّرة. وبقيت هذه التجارة مزدهرة حتى أواخر عقد الستينيات من القرن الفائت.
دهن الأخشاب
ومن الجدير بالإشارة أن أخشاب الجندل تصبغ بمادة القطران لحفظها من الأرضة ومن الحشرات، ولهذا تكون سوداء اللون في كثيرٍ من الأحيان، وكان الأهالي غالباً ما يتابعون دهن الأخشاب والانتباه إليها حتى لا تتغير وتضعف. وهي بلا شك قوية ومتينة، وتظل تقاوم الزمن حتى يهجر أهلها بيوتهم ولم يبقَ لها سوى الوحدة، فتتساقط هي الأخرى.
ثم يأتي جريد النّخل، وهو موجود بكثرة في البيئة المحلية، ويصف بطريقة عملية، ويربط، ويُعرف ذلك بالدعون، وكان لها متخصصون في صناعتها وترتيبها، وكانت تمر بعملية طويلة منذ انتزاع الجريدة أو السعفة من النخلة، وهي مهمة خاصة تتولاها مجموعة من الخبراء في هذا الميدان، ومن هنا نلاحظ أن العمارة التقليدية مترابطة مع بعضها البعض بشكلٍ وثيق، يقوم على عمارتها أفراد من المجتمع يعولون أسراً، ويعملون بشكلٍ جماعي. ثم القصب أو الباسجيل، وهو عبارة عن شرائح من الخشب تؤخذ من شجر البامبو وتكون مرنة وسهلة الثني، وتصف على شكلٍ طولي، ومتعامد أو متعاكس أو متداخل ثم يأتي فوقه الجندل على شكل متقاطر ما يعطي للأسقف أشكالاً غاية في الجمال، وخاصة إذا كانت مصبوغة.
جذوع النخل
وبالإضافة إلى الباسجيل والجندل فهناك مواد أخرى توضع فوقهما لمنع تسرب مياه الأمطار إذ يوضع نوع من الحصير السميك يعرف بالمناقير أو باصطلاح آخر البواري. ثم توضع نوعية من الطين وتعرف باسم الطين الصلبي وفوقه طبقة من الرماد ثم طبقة أخرى من الطين الصلبي. فيكون السقف قوياً، ومتماسكاً، وحين تهطل الأمطار بغزارة كانت تترك الأسقف معشبة ذات منظر بهي عاينتُه بنفسي، ولكن هذا يتطلب متابعة مستمرة لحماية الأسقف من الانزلاق مع مياه الأمطار.
ثم تأتي جذوع النخل، في التسقيف، ولكن ليس كل نخلة يقطع جذعها بل النخلة الهرمة أو غير المجدية لأن الأهالي يقدرون هذه الشجرة ولا يسارعون لقطعها، وكان المجدع يقوم بقطــع الجذع إلى فلقتين أو أربع، حسب الحاجة، ثم توضع هذه بشكل عمودي على الأغلب ثم توضع فوقها الدعون وأحياناً يكون السقف كلاً مربوطاً بفلق الجذوع، وهذا ليس بشكل دائم، لأن استعمال الجذوع في التسقيف بشكلٍ دائم يتطلب استهلاك كميات من جذوع النخيل، كما أن الجذوع تتطلب جداراً سميكاً متيناً ليتحمل ثقل الجذوع، وكثيراً ما يحدث التصدع وتسقط الجذوع بعضها إثر بعض، حين الإهمال وهجران البيوت. ومنها كان الحرص على قلة استهلاك جذوع النخل أو على الأقل محدودية استعمالها.
العادات ناظماً
لم تكن هندسة البيوت في الإمارات قديماً، بصورة عامة، تخضع لِما يعرف برسوم الهندسة أو الخرائط والتصاميم المبكرة التي تتعرض للتبديل والتغيير، كلما طرأ طارئ على صاحب البناء، بل تحكمت فيها العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة في البناء نفسه، وهي تعتمد عادةً على ظروف الأسرة الممتدة ذات الفروع المتشابكة.
المهندس «الكبير»
كان رب البيت الكبير، وهو الجد في هذه الحالة، هو مَن يقوم بدور المهندس والموزع والمحدد للوحدات الداخلية في البيت، وكلما زاد عدد أفراد الأسرة فرداً جديداً، زيدت وحدة سكنية. لذا ظهر الاهتمام بالخصوصية في تنظيم الوحدات السكنية، فلكل رجل وزوجته غرفة ضمن البيت الكبير، وينمو عدد الغرف بنمو أعداد المتزوجين في البيت الواحد ولا يمكن لأحد ما الخروج وتأسيس بيت آخر إلا في حالات عدم اتساع البيت الكبير لأفراده من الرجال المتزوجين أو في حالات الخصومة والمشاحنة.
بيئات وأنواع
تناغمت العمارة التقليدية مع طبيعة المكان في الإمارات؛ فمن الملاحظ أن أماكن الاستيطان شملت كل البيئات الجغرافية. وهكذا كانت هناك سمات محدد سكنية وعمرانية في السواحل.. وكذا الأرياف والسهول لها خصوصيتها في سكناها وقرارها، والصحارى والواحات لها ظروفها وأنماط بنائها، والمناطق الجبلية لها عمرانها ومعالمها. ولا شك في أنه كان هناك اختلاف في المواد الإنشائية الخام، وأسلوب العمارة، وطريقة التصميم، وكيفية البناء، ونوعيّة الأسلوب.
صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس






