جـــذور

آثار مليحة والدور..قصة حضارة متميزة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ الاستكشافات الآثارية الأولى في دولة الإمارات العربية المتحدة، نالَ موقعا مليحة في الشارقة والدُّور في أم القيوين، حظّاً وافراً من التنقيب والشهرة، نظراً لكونهما متقاربين زمنيّاً، ومتّصلَيْن حضاريّاً ومتميّزَيْن تأريخيّاً وغنيّيْن آثاريّاً.

وكانت الصلة التّأريخية بين مليحة والدُّور متفاوتة ومتكاملة ومتباعدة ومتقاربة ومتأصّلة وطارئة، وعميقة وسطحيّة. وعلى الرّغم من آراء بعض علماء الآثار التي تفيد بأن فترة موقع الدُّور تبدأ متأخّرة عن فترة مليحة، إلا أنّ هذا الرّأي يمكن أن يجري التّغاضي عنه إذا توصل العمل الآثاري في موقع الدُّور إلى معثورات تغير هذه المعلومات، فربما تكتشف آثار أبكر من القرن الأول/‏ الثاني قبل الميلاد، وربما تتوافق مع موقع مليحة زمانيّاً.

فَالدُّور ميناء حضارة عُمانا.. ومليحة هي مركز هذه الحضارة، فإذن كلّ واحد منهما يكمّل الآخر. فَعَن طريق الدُّور (الميناء) يجري التواصل مع عموم منطقة الخليج العربي وإيران وبلاد الرافدين وسوريا.

وعن طريقه يقوم مركز الحضارة في مليحة باستيراد وتصدير المنتجات التي ثبت وجود نماذج كثيرة منها في مليحة. وهذه الصلة تجمع الموقعيْن، وتوفّق بينهما، وتوجد بين أيدينا دلائل آثارية متنوّعة في الدُّور ومليحة.

قاعدة بيانات

إن تأريخ التنقيب في هذين الموضعيْن والمعثورات التي اكتُشِفت فيهما، متقاربة جميعها، على صعيد اللقى والتواريخ. ولهذا يتطلّب وضع قاعدة بيانيّة حول مراجع الاستكشافات الآثارية في الموضعيْن ومعثوراتهما. إضافة إلى رسم صورة متكاملة للموقعيْن أو بالأحرى إعادة رسم عمارتهما.

مع إجراء لقاءات لعلماء الآثار الذين عملوا في الموضعيْن حيث يروون تفاصيل حياتهم العلمية في الدُّور ومليحة. ويركّزون على جهودهم ومشاعرهم ودورهم في العمل الآثاري فيهما.

كما أن تتبّع الطّريق البرّي بين مليحة والدُّور يؤدّي لاستكشاف آثار التواصل بينهما عبر الطريق البرّي الواصل بينهما. وعلينا كذلك إظهار وإبراز كلّ اللقى الآثاريّة المكتشفة في الموضعيْن لإثبات التّشابه بينها.

وعرض هذه اللقى الآثارية في معرض أو متحف خاص بها في أم القيوين أو الشارقة. كما يتطلب ذلك إصدار كتاب خاص بنتائج التنقيبات في الموقعيْن باللغتيْن العربية والإنجليزية. وهذا الكتاب يجمع البحوث والدراسات الخاصة بالعمل الآثاري في الدُّور ومليحة، والتي تجمع بين الموقعيْن بالإشارة أو الذِّكر أو التشابه. ويتضمّن هذا الإصدار وصفاً جغرافيّاً وطبوغرافيّاً وبيئيّاً للموقعيْن والطريق بينهما.

إضافة إلى تتبّع الحياة الحيوانية والنّباتية في مليحة والدُّور، وهذا يشمل بطبيعة الحال بيئة مليحة البرّيّة، وبيئة الدُّور السّاحليّة والبحريّة على أن يشمل المسح خور البيضاء، إذ ربما يحتوي على دلائل تشير إلى فترة ازدهار الموضع. مع التأكيد في كلّ الأحيان، على وجود حضارة ضافية، كانت تشمل الدُّور ومليحة، وإن وُجد اختلاف في الوضع السّياسي آنذاك، وظهور ما يمكن أن يُسمّى حكومة الملأ.

والتأكيد دائماً على المسكوكات التي تحمل دلائل دينيّة واقتصاديّة وسياسيّة مهمّة.

20 كم

تقع قرية مليحة على بُعد حوالي 20 كم جنوبي بلدة الذيد، وحوالي 50 كم جنوب شرقيّ مدينة الشارقة. وكانت البعثة العراقية أول من بدأ التنقيب في هذا الموقع عام 1973. وفي عام 1985 بدأ الفرنسيون بالبحث والتنقيب في الموقع وقد عثر هؤلاء المنقّبون على عدد من المقابر والفخاريات والأواني الزجاجية والحجرية والمسكوكات ونقوش مكتوبة بخطّ المسند.

ومن الآثار المهمة المكتشفة في مليحة: قالب سكّ العملة. وكان المجمع السكني فيها محاطاً مِن الجهتين الشرقيّة والجنوبيّة بمدافن متعاقبة، كلّ واحدة مِنها تضمّ عدداً مِن اللّحود العاديّة التي تكون محاطة بأضرحة كبيرة متنوّعة تشبه النّصب التذكاريّة.. وذات مبانٍ برجيّة تزيّن أعلاها شرفات مدرّجة. وكانت المدافن المبكّرة عبارة عن حفر مسوّرة أو مجرّد غرف جنائزيّة فرديّة، حيث كانت الجثث تسجّى في المدافن وتحاط بتقدمات جنائزيّة غنيّة.

وفي مقابل ذلك، كانت توجد فوق بعض المدافن الكبيرة عمارة ضخمة تشبه النصب التذكاريّة، مشيّدة من اللبن والطين، مكسوّة بالجص الأبيض، ذات هندسة مربّعة يعلوها مبنى برجي الشكل، تعلوها شرفات مسنّنة.

وهذه العمائر الجنائزيّة قريبة الشبه بالأبراج الجنائزيّة الموجودة في قرية الفاو في جنوب غربي المملكة العربية السعودية، وبتلك الصروح الجنائزية في البتراء بالأردن والمؤرّخة بفترة زمنيّة مبكّرة مما يشير إلى الأصل العربي للسكان الذين استقرّوا في شبه الجزيرة في ذلك الوقت وأنشؤوا مستوطنة مليحة.

حبوب متفحمة

وخلال عمليّات البحث والتنقيب في مليحة التقط عدد قليل جدّاً مِن البقايا النّباتيّة المتفحّمة: مِن الحبوب، وهي على الأغلب ستة صفوف مِن حبّات الشعير مِن نوع «هورديوم فولغار»: (Hordeum vulgare)، وكميّة أقلّ مِن حبّات القمح مِن نوع: «تريتيكيوم إيستفيوم ديوريوم»: «Triticum aestivum/‏durum» القاسي. وأيضاً: مِن العنّاب، وهو مِن الثمار الشوكيّة التي تشبه السدر الجبلي.. ومِن نوع: «زيزيفوس سبينا كريستي»: (Ziziphus spina-cristi). كما ثبتت زراعة أشجار النّخيل وزراعة الخضراوات، ويدلّ على ذلك اكتشاف بذور لاثنين مِن النّباتات البقولية في منطقة مليحة.

كما تأكد فيها التزوّد باللحوم مِن الأنعام الدّاجنة، وتمثّل عظام الماعز الحدّ الأكبر مِن عظام الحيوانات المكتشفة في منطقة مليحة، بينما تمثّل عظام الأغنام أكبر نسبة مِن عظام الحيوانات في موقع الدُّور، وتتمثّل عظام الماشية بكميّات صغيرة، بينما كانت عظام الخنازير نادرة.. ولم يُعثر عليها إلا في الدُّور. ونسبة عظام الحيوانات البرّيّة لا تتجاوز 10٪ من نسبة عظام الحيوانات، وتعتبر الغزلان والمها العربي والأرانب، أكثر الحيوانات البرّيّة وجوداً.

بين رأس الخيمة والشارقة

أمّا موقع الدّور فهو يقع في إمارة أمّ القيوين، ويتموضع تقريباً في منتصف الطّريق العام القديم بين رأس الخيمة والشارقة. ويبعد حوالي كيلومتر واحد عن خور ضحل يعرف بخور البيضاء. مما يشير إلى أنّ المكان كان يتموضع مباشرة على الخليج العربي قبل زحف الرمال عليه. وقد بدأ علماء الآثار العراقيون المسح والتنقيب في هذا الموقع بين عامَي 1973 و1974. ثمّ تتابعت فرق التنقيب الأوروبية بعد العراقية: البريطانية والبلجيكية والأسترالية والفرنسية، بدءاً من عام 1980. وكانت البعثة البلجيكية أكثر الفرق الأوروبية نشاطاً في الدُّور: 9 مواسم: 1987 -1995. ومن المكتشفات فيه: العديد من العمائر مثل المعبد والمذابح والحصن، عدد متنوّع من المقابر والفخاريات والأواني الزجاجية والحجرية والمسكوكات وأدوات الصيد البحري وتماثيل لصقور.

عمود فقري

وفي الموضعين وفي المنطقة عموماً، فإنّ الاقتصاد كان هو الضامن لبقاء المجتمعات المحلّيّة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية، وكان الجو المطير والمياه المتدفقة وتوافر لحوم الأنعام الداجنة والبرية والأسماك والنباتات أحد عوامل ازدهار هذا الاقتصاد.

وكانت التجارة هي العمود الفقري لهذا الاقتصاد، كما أن قوافل البر وشبكة المواصلات وطرق الملاحة والموقع المتميز والتواصل الدائم عوامل زادت من ازدهار التجارة، إضافة إلى الهمة العالية التي تميز بها السكان، وصبغت حياتهم، ورفعت من مجهوداتهم. وأدّت الصلات إلى تأكيد العلاقات المتجذّرة مع الهند.. والعلاقات المتأصّلة مع بلاد الرّافدين، والعلاقات المتوطّنة مع جنوبي شبه الجزيرة العربية، والعلاقات القويّة المحدَثة مع العالَمين اليوناني والروماني، وكانت اللآلئ من أهم السّلع المُصدَّرة إلى الهند، وبالذّات إلى ميناء برياجازا، ومنه استورد التّجّار الرومان والمصريون اللؤلؤ إلى إيطاليا وأوروبا ومصر وغيرها من مناطق حوض البحر المتوسّط.

مسكوكات

وكانت الصّناعة أحد مقوّمات الاقتصاد مع وفرة بعض المواد الخام، وقدرة الأهالي على التّصنيع، وإتقان العمل إضافة إلى التواصل مع الخارج، والاحتكاك مع سكّان المناطق المجاورة. وتجلّى إتقانهم وفنّهم في العديد من الأواني الرائعة والجميلة من الفخاريات العادية والفخاريات المزجّجة والحجريّة، والأدوات المعدنيّة المتنوّعة، إضافة إلى ما تحصّلتْ عليه من منتوجات العالَمين اليوناني والروماني من أنواع من الأدوات الزجاجيّة الجميلة الرائعة.

وتمثّل النظام الدفاعي في حصنَي مليحة والدُّور، وفي الأسلحة الكثيرة، وتجلّت مظاهر الرفاهية في أدوات الزينة الجميلة والحلي المصنّعة من الذهب والفضّة والأحجار الكريمة والأصداف والزجاج وغيرها، وبرزت فيها طقوس الدفن والتقدمات الجنائزيّة وطرق الدفن والتعبّد والتضحيات، ودفن الإبل والخيول، وتأكّدت ثقافة هذه الحضارة الرائعة في اللغة والكتابات.

وأعلنت هذه الحضارة عظمة اقتصادها في مسكوكاتها، وما تحمله من رموز وصور وألفاظ وحروف. وتبيّن دوام النّشاط والحركة في ما تأثّرت به عظام الموتى من تآكل نتيجة لكثرة العمل وعبء النّقل وثقل الأحمال.

سمات

حملت آثار ومعالم حضارة عمانا، المتميزة والفريدة، في الدور ومليحة، سمات تفرد وتميز عديدة، تحكي رفعة هذه الحضارة، التي نشأتْ في عموم شبه الجزيرة، ووُجدتْ آثارها ومعالمها في مواقع آثارية عدة في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان، إذ تتشابه في لقاها وتتماثل في معثوراتها، ما يؤكد وجود حضارة واحدة في شبه الجزيرة العربية. إذ امتدت تلك الحضارة الرائعة خلال الفترة: بين القرنين الثالث قبل الميلاد والثاني الميلادي.

%10

كانت تمثّل الأسماك جزءاً هامّاً مِن النظام الغذائي في مليحة، الحاضرة التاريخية المهمة، حيث تبلغ نسبتها بين البقايا الحيوانية 10 ٪ مما يشير إلى أنّ الأهالي كانوا على صلة بالسواحل إذ كانوا يصطادون الأسماك ثمّ يجفّفونها. وأصناف الأسماك هي نفسها الموجودة في الخليج العربي مثل: التونة.. التي أضحت الأسماك المهيمنة في منطقة مليحة. كما نجد عظام الجمال ذات السنام الواحد كثيرة، مما يشير إلى أنّها كانت تربّى لكونها إحدى وسائل النقل المهمّة، ولكونها مصدراً للحوم.

4

حكايات تاريخية مهمة يختزنها موقع الدور في أم القيوين، ومن بين ما عثر عليه فيه: نقش آرامي. وفي العموم، فإن هذا الموضع يقدّم لنا جميع الخصائص المميّزة للمدينة الساحليّة في صحراء شبه الجزيرة العربيّة. ومر المكان بأحوال وتغيرات أضعفت من بنيته، وأهلكت بعض معالمه الآثارية، وأزالت عدداً من ملامحه القديمة المُكتَشَفة. ولهذا يتطلّب الأمر حمايته، والعناية به، وإعادة التنقيب في الأربعة كيلومترات المربّعة لتتّضح كل معالمه الآثاريّة، وتتكشّف مكنوناته الثمينة.

Email