القصيدة زاخرة بالدلالات الوجدانية لدى سموه

حمدان بن محمد في «مدّةٍ وافيه» ينثر جواهر الحكمة والتأمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يكتب سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، يُطاوعه الشعر كما يريده هو، وليس سموّه يطاوع الشعر.

يذكرنا سموه بتعبيراته الحرّة السلسة، وبوفرة كلماته وخصوبة أفكاره، بإمكانات المتنبي والبحتري وأبي تمام وغيرهم من فطاحلة الشعر والحكم والأمثال. لقد أثبت سمو الشيخ حمدان بن محمد شاعريّته، وتربُّعه على عرش مَلَكات الشعر في وقت مبكّر جداً، وتحدّى كل شعراء النبط في عصره بأسلوبه وبطريقة إلقائه، فأبى إلا أن يكون كما أراد له والده فارس العرب، فيمشون وراءه كما يمشون وراء والده المعلّم الأول في السياسة والشعر والحكمة وفهم المستقبل. هذه المكانة السامية وهذا المقام الرفيع للشاعر ابن الشاعر «فزاع»، لم تكن لتتحقّق لولا هذه الخفايا الصافية التي نتلمَّسها نحن من خلال رائعته التي بين أيدينا، فالمرء يرزق على نياته، والإنسان يُجزى على عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنجازات

قصيدة شاعرنا الشاب المعنونة «مدّةٍ وافيه»، تقدم لنا انطباعاته عن نفسه، وتقييمه لإنجازاته عبر ما مضى من العمر، واستفادته من الوقت الذي هو أمضى من السيف وأغلى من الذهب. وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنما يدل على صحوة الشاعر ويقظة ضميره، وتقديره للعمر والوقت، واحترامه لمن حوله من أصحاب الإحساسات والشعور الإنساني والوجداني والفكري والاجتماعي. ذلك أن سموه لا يريد أن تكون وظيفة الشاعر أو الإنسان عموماً أن يَعرض على الناس هزل الحياة، وأن يغرقهم بالهذيان من القول والفعل، وكأن الشعر إضاعة للوقت فقط.

إن الشعر عند سموه موهبة ونعمة من الله، وهو رسالة سامية تحمل معاني الجمال والكمال وحسن الخصال، وهو كشاعر يهدف إلى غاية نبيلة، فلا يريد فساد هذه البيئة الجميلة، بل يحب أن يرسم على واحاتها لوحات تعبّر عن الصدق والوفاء والمحبة لكل الناس.

في هذه القصيدة تتجلّى حمدانية فزّاع وفزّاعية حمدان في أجمل صورة وأبهى طلعة، فهو يحنّ إلى ماضيه مرّة، ويفخر بحاضره أخرى، في ظل مقارنات جميلة وموازنات موفقة.

وهو كشاعر حسّاس يعرض أحياناً حاضره على ماضيه، فيرى أن الماضي كان أرحم والحاضر أظلم، أو أن الماضي كان أوفى وأخلص، والحاضر أكثر تمرُّداً على القيم، وأقسى على الطبيعة والبشر، لذلك فإنه يُبدي بعض تملمُلِه من الحاضر ويتمنى العودة إلى الماضي فيقول:

إشتقت يا وقتي الفاني لفترة صباي

سأمت منّك ومن أيامك الجافيه

ذكرت صبحي بطيشه وانبساطة مساي

واخٍ جروحي من فراقه ماهي شافيه

جفاني الضحك بفراقه وطوّل جفاي

عن وصل ناسٍ مشاعرها معي دافيه

القلب يغرق جروحي ما يبيّن خفاي

لكنّها في ملامح نظــــــــــرتي طافيه

هذه الأبيات تحمل إشارات ورموزاً وإيحاءات كثيرة، تدلّ على عمق الجانب الوجداني لشاعر كثير الشفافية، وعلى مدى معاناته من حاضره الذي يبدو بأنه سعادة في سعادة، إلا أن الشاعر يرى ما لا يراه غيره.

حكمة

وسموّه من غير شك عبّر بمنظار «الكهولة» والحكمة عن مرحلة الصبا بأدقّ تعبير، وإن كان لا يزال محسوباً على الشباب، ووصف براءة الطفولة بأجمل وصف، واستطاع أن يوصل رسالته إلى كل الأذكياء بأنه لا آخر لمن لا أوّل له، فالماضي يجب أن يُحترم لأنه الأوفى، والحاضر يجب أن يُستثمر في الخير وإلا فلن نجني إلا التعب والشقاء.

ثم قال سموّه:

اقول لا.. لا حدٍ منكم يدوّر رجاي

أجبرني الوقت اردّد لائي النافيه

يوم البحر كنت أحسبه يوم اطالعه ماي

قبل اسبحه واكتشف أسراره الخافيه

ويوم ان أصابع كفوفي أكثر من اصدقاي

قليل.. لكن عيوني بالرضا غافيه

لله معطي ولا تحسب يميني عطاي

وافي ولا اقدّم إلاّ مدّةٍ وافيه

أنظر لقــــــدّام ما اطالع بعيني وراي

أودّع المقفيه واستقبل اللافيه

نعم.. يزداد شاعرنا قناعة يوماً بعد يوم بأن الآتي لن يكون أوفى ممّا مضى، ويرى أن هذا السأم ليس من طبعه المتفائل، لكن الزمن أجبره على أن يتأفّف من الوقت الحاضر، نظراً لتقلُّباته وللمزعجات من الليالي التي لا يريد فجرها أن يبزغ والشاعر يقول:

شكوت وما الشكوى لمثلي عادة

ولكن تفيض الكأس عند امتلائها

هذا.. ويشبّه الأيام التي قضاها من عمره بالبحر الذي يبدو للرائي ماء فقط، لكن من يركب البحر ويغُص في أعماقه، يتفاجأ بأن في بطنه الخير والشر، وبالمناسبة فسموّه غواص ماهر حقيقة، وإن شئت فانظر إلى الفيديوهات التي تريك كيف يغوص في الأعماق مع الأسماك، ويتعرف إلى عالم البحر في القيعان.

أقول: ولا غرابة إذا كان الشاعر يعاني من بعض من هم حواليه، فهم اليوم كثيرون مقارنة بمن كانوا حوله أيام الطفولة والصبا، لكن قليل الأمس كان أكثر صدقاً ووفاء وإخلاصاً من كثير اليوم الذين لا ينظرون إلا إلى مصلحتهم، وصدق الشاعر الذي قال:

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على الكثير ولكن لا أرى أحدا

فخر

على أي حال، فإن شاعرنا الشاب المتألِّق في سماء المحبة والصدق والوفاء لوطنه وشعبه، يفخر بأنه خُلِق هكذا وفيّاً ومحباً وصادقاً، يحبّ البذل ويكره البخل، ويعطي من غير منٍّ، وتغمره السعادة عندما يُسعد الآخرين من حوله، من أجل ذلك فإنه عندما يصنع المعروف يقول:

أنظر لقدّام ما اطالع بعيني وراي

أودّع المقفيه واستقبل اللافيه

وابني بيوت الشعر واسّس قواعد بناي

ماني بمن يبتلش بالوزن والقافيه

واشب ناري وغيري يقتبس من سناي

وامد بالنور ناسٍ نارهم طافيه

واخدم بنفسي قبل لا يخدمون اخوياي

وانا لو اشّر تكون إشارتي كافيه

هذه الأبيات تذكرني بأبيات المتنبي الذي يقول:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

فدعْ كل صوت غير صوتي فإنني

أنا الصائح المحكيّ والآخر الصدى

وقوله في قصيدة أخرى:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

ويذكّرني شعر سموّه أيضاً بقول المقنّع الكندي في مكارم الأخلاق:

ولا أحمل الحقد القديم عليهم

فليس رئيس القوم مَن يحمل الحقدا

لهم جُلّ مالي إن تتابع لي غنى

وإن قلّ مالي لم أكلّفهم رفدا

وإني لعبدُ الضيف ما دام ثاوياً

وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

أمنية

إذاً، فإن شاعرنا سمو الشيخ حمدان بن محمد، وإن كان بجسمه يجد نفسه في الحاضر، إلا أنه يعدّ نفسه من عمالقة الماضي الذين يعايشهم بصفاتهم وطبائعهم الصافية. ثم يحدّد سموه في الأبيات الثلاثة التالية والأخيرة من قصيدته ما يتمنّاه من أبناء الجيل الحاضر الذين يحيطون به صباح مساء فيقول:

ثنتين يقدر بها الانسان يكسب رضاي

البسمه الصادقه والنيّه الصافيه

وثنتين دايم تسبّب في حياتي شقاي

دمع الفقارى وشكل اقدامه الحافيه

يالله عساني ما اجرّب عند ربعي غلاي

واسالك الستر والتوفيق والعافيه

أجل.. يريد سموّه من الناس من حوله أن يبادلوه صدق الشعور والإحساس، فهو يُقدّر ويُثمّن ويرحم ويراعي، وهو يعطي ويُحسّ ويشعر ويشكر، لكنه يريد في المقابل البسمة الصادقة، والكلمة الصادقة، والصحبة الصادقة، والنية الصادقة، وأيّ ودٍّ أو حبٍّ من طرف واحد فهو فاشل.

سمو الشيخ حمدان بن محمد، حفظك الله وأبقاك قرّة عينٍ لوالديك، وذخراً للوطن والمواطن، وبقيت أذناً صاغية للشعب، وقلباً رحيماً كقلب والدك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ورزقك الله بطانة صالحة تُعينك على أداء رسالتك التي بنيتها على ابتسامتك الصادقة، ونيّتك الطيبة الصافية، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

 

Email