ذاكرة المبتور.. قيمة التراث المادي في زمن التحولات

تراكيب فنية تبرز الهويات القومية | تصوير: زافير ويلسون

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهد مركز جميل للفنون، مؤسسة الفن المعاصر في دبي، أول من أمس، افتتاح معرض ذاكرة المبتور، الذي سيستمر حتى 20 فبراير 2020، بمشاركة 13 فنانة وفناناً وجماعة فنية، تطرح أعمالهم الملحمية المعروضة في الطابق الثاني من المركز العديد من التساؤلات حول علاقتنا التي نعايشها مع التراث المادي للشعوب، وقيمته بين عراقة الماضي ومكوناته الأصيلة في ظل تأويلات المعاصرة متغيرة الإيقاع، حيث كانت وما زالت من أهم البحوث التي يحرص مركز جميل للفنون على توثيق ذاكرتها البصرية والفنية عبر فعالياته لإطلاق الإمكانات الإبداعية في المستقبل، بهدف مساعدة المجتمعات المحلية في الحفاظ على ثقافتها والتعبير عنها بطرق مستدامة.

توثيق التراث

وفي السياق طرحت الأعمال التي لجأت إلى مختلف الوسائط الفنية للتعبير عن فكرتها الملحة والعميقة التأثير، تساؤلات في ذاكرة الشعوب المنسية ومن صميم تراثها، والتي تدور في فيلم وترسخ معاني وهمية للثقافة المادية. ويتطرق المعرض إلى عملية توزيع الآثار وصولاً إلى تخريب المساحات المعمارية. وكانت قضية التراث المادي قد اكتسبت اهتماماً عالمياً، لكنها أشد إلحاحاً في منطقة الشرق الأوسط، حيث تلقي خلفيات الاستعمار والحروب وصراعات الهيمنة الثقافية بظلالها الثقيلة على الموضوع.

ويشتمل المعرض على عمل تركيبي كبير بعنوان «خرائط المواجهة»، وهو تركيب فني يجمع بين المواد البصرية، وخرائط مفصّلة، ونماذج ثلاثية الأبعاد، وتحليل للبيانات، وهي من تنفيذ وكالة الأبحاث فورينسك أركيتكتشر وبمشاركة إنتاجية من مؤسسة فن جميل، ومتحف فيكتوريا وألبرت. ويوضح هذا العمل التركيبي كيف يمكن للطرق المبتكرة للتصميم الرقمي والتقاط الصور أن تساعد في الحفاظ على التراث الثقافي، وتبقى شاهدة في نفس الوقت على ما جرى من تدمير قبل أن يتم محو آثار الجرائم من خلال عمليات إعادة الإعمار.

ومن جانب آخر تتنوع المعالجات الفنية للموضوعات والأشياء والمواقع في هذا المعرض، ما بين مجسّمات وتركيبات فنية ومقاطع فيديو وصور فوتوغرافية ورسوم ثلاثية الأبعاد، على أنها تبقى معالجات منقوصة، وهدفها الأول هو تشجيع المتلقي على الاسترسال بخيالاته لتحيله إلى تشعبات أخرى على الدرب ذاته.

وكان في اختيار عنوان المعرض «ذاكرة المبتور» إحالة إلى تلك الحالة الطبية المؤلمة التي يرفض فيها الجسد الإقرار بخسارته لطرف من أطرافه على إثر إصابة عنيفة أو عملية بتر حتمية، فنجد في أعمال هؤلاء الفنانين أصداء حقيقة ثقافية تتمثل فيما يلازم حاضرنا من أمور جرى محوها عنوةً في الماضي. ولطالما كان التراث المادي ساحةً لادعاءات متناقضة وروايات تاريخية متنازعة، يتم على أساسها إبراز الهويات القومية والإثنية.

وشهدت السنوات الأخيرة وقائع متوالية لهدم مقصود لمبانٍ وآثار وأساليب حياة ذات أهمية تاريخية عالمية. وفي ذات الوقت، ثار جدل متصاعد حول ضرورة استعادة البلدان لآثارها ومقتنياتها الثقافية، وهو جدل مُلّح تجاوز حدود المتاحف إلى أروقة السياسة. ويهدف المعرض إلى تقديم محاولات لاستعادة التاريخ المفقود، ليس فقط من خلال الوثائق والأرشفة، لكن أيضاً من خلال التأمل والخيال.

مئذنة عانة

وفى السياق تؤكد الفنانة رند عبد الجبار أنها تسعى من خلال أبحاثها الحالية إلى فحص التراث الثقافي للعراق وبلاد ما بين النهرين القديمة، مع استلهام فنون العمارة وعلم الآثار والأساطير.

وطوال عملها، تعكف على بناء ذاكرة المكان والتاريخ، باستخدام فنون التصميم وفن المجسّمات والتركيب الفني كوسائط أولية، وحول عملها «مئذنة عانة» تضيف أنه نتاج تعاون مع يوسف الدهام، وهو عالم آثار وأخصائي في الحفاظ على المباني الأثرية، حيث يتناول العمل التاريخ المأساوي لمئذنة عانة، التي تقع في بلدة غرب العراق، ويجعل منها منطلقاً بحثياً. والاعتقاد هو أن تاريخ بناء المئذنة يعود إلى عهد الدولة العقيلية، قبل أن يتم تفكيكها ونقلها إلى موقع جديد في عام 1980 بسبب بناء سد على النهر.

وفي عام 2006، دمرت المئذنة في انفجار إرهابي ضمن سلسلة أعمال وحشية استهدفت عدداً من مواقع التراث الثقافي العراقي. وفي 2012، أعاد فريق من علماء الآثار المحليين، بقيادة يوسف الدهام، بناء المئذنة، قبل أن تجهز عليها مجدداً جحافل داعش في العام 2016.

Email