«النوتة» نبضة شعور لا ترتبط برقم أو إحصاء

الموسيقى الكلاسيكية عزف على وتر الأحلام

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يعرف البعض قصة تاجري الأحذية اللذين قصدا القارة الأفريقية القرن الماضي، تسبقهما نياتهما ببيع أحذيتهما لسكان تلك البلاد البعيدة، بيد أنه بعد اكتشافهما أنهم لا يرتدونها من الأساس، قال أحدهما للآخر الذي أغرقه اليأس: «حسناً، إنها فرصة عظيمة، لأنهم لم يحظوا بها بعد.. سنكون الأوائل».

يمكننا مقاربة القصة بما يحدث في عالم الموسيقى الكلاسيكية، فالبعض يعتقد أن الأخيرة تذبل وتموت، بينما يرى آخرون أننا مُقبلون على أيام أكثر جمالاً بموسيقى كلاسيكية لم يسبق لها مثيل، وهو ما يؤكده الموسيقي وقائد الأوركسترا بنجامين زاندير في حديث عفوي على منصة «مؤتمرات تيد» العالمية، فبدلاً من الخوض في الإحصاءات، وحصر الفرق الموسيقية وشركات التسجيل التي اختفت من المشهد، يقترح الموسيقي الإنجليزي تقديم تجربة فعلية تدلل على اعتقاده.

هاجس مؤقت
يخبرنا زاندر أن عازف البيانو، الطفل، يعايش أحاسيس متفرقة كلما تقدم في العمر وزاد عمق ارتباطه بتلك الآلة، علاقة ومعرفة، فالعازف ذو السبع سنوات يكون تركيزه وضغطه على أصابع البيانو، بمنأى عن هاجس اللحاق بكل نوتة ونغمة منبثقة، ولكن بعد مرور أعوام عدة، وصولاً للحادية عشرة ربما، وإذا ما استمر في عزف مقطوعاته الموسيقية وتوطيد علاقة الحب تلك، يصبح أكثر انسيابية في العزف، ولا يكون دافعه دراسة ما يعزفه بقدر انغماسه في معزوفته، فبالكاد تلمس أصابعه مفتاحاً لتنتقل لما بعده، ويقل تركيزه وهاجسه المتمثل باللحاق بالنغمات، في صورة أكبر أكثر انسجاماً وذوباناً في الأعمال والنوتات التي يعزفها حينها بروحه وكُليّته، أكثر من يديه.

لذلك فإن انحناء «البيانست» وتحريكه لكتفه ورأسه وغيرها من الانفعالات الآنية يكون دافعها، إن صح القول، الموسيقى التي تعزفُه وتحركه طواعية دون أدنى تعمد.

آذان رائعة
هل تساءلت يوماً عن مدى حبك وانجذابك للموسيقى الكلاسيكية. هنالك نسب مختلفة، فالبعض شغوف للغاية بتلك الموسيقى، ويعشقها لتجد أن إذاعته المفضلة تستقر عند ذلك الأثير، فضلاً عن الأقراص المدمجة الكلاسيكية، ناهيك عن حرصهم على حضور الحفلات السمفونية، ومن البديهي أن أطفالهم يتعلمون العزف على آلات موسيقية، هُم باختصار «لا يمكنهم تخيل كون بلا موسيقى كلاسيكية».

تلك المجموعة الأولى، وهي صغيرة للغاية، لتأتي مجموعة أخرى أكبر، متمثلة بمن لا يمانعون الموسيقى الكلاسيكية، والثالثة أولئك الذين لا يستمعون للكلاسيكيات ومرورهم بها مرتبط بالمصادفة.

وفي نهاية تلك التصنيفات أشار زاندير لمجموعة من الناس الذين يصفهم كُثُر بـ«أصحاب الذائقة الموسيقية السيئة»، الملوثون سمعياً، ولكنه في الحقيقة يرفض ذلك الوصف مؤكداً أن الجميع بآذان رائعة، وبأذواق تخولهم التفريق بين نبرة الحزن والفرح في تحية «مرحبا» يسمعونها من أحبائهم هاتفياً، ولو كانوا في أقاصي الأرض، ليدركوا حجم ما هم فيه ونوع أمزجتهم في تلك اللحظة.

«نوستالجيا» القلب
بوجود فجوة كبيرة بين من يقدّرون الموسيقى الكلاسيكية ويهتمون بها وغيرهم ممن لا علاقة لهم بها مطلقاً، بث المايسترو بنجامين زاندير نفحة من الأمل والحب في القاعة، بتقديمه مفتاحاً قد يسهم في التقريب بين فئات المتذوقين جميعاً، وهي أنه عند مرورنا مثلاً بمقطوعة موسيقية للبولندي الشهير فريدريك شوبان، لنستحضر في مخيلتنا صورة شخص عزيز كان هنا منذ برهة، لكن تحول مساره لسبب ما، ليرحل ويبقى الشعور به نوستالجيا تحفر في القلب حُلماً وواقعاً ما.

هنا ربما تنسل الموسيقى خلالك باعثة صوراً وذكريات وحكايات خطها الزمن على جبينك، وسافر بها بقلبك، لحظتها لا يكون هنالك أبلغ من الحُلم، الذي تعزفه الكلاسيكيات.

Email