مليسا هاريسون: الأديبة البريطانية

الرواية الناجحة مرآة تعكس تجارب الكاتب وشغفه

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تزل الطبيعة بجمالها والتحديات التي تكتنفها حاضرة بوضوح في الرواية الجديدة للكاتبة البريطانية مليسا هاريسون «كل ذلك وسط العشب».

فعلى الرغم من أنها رواية سهلة لا تقدّم للقارئ الكثير من الأفكار المعقدّة، إلا أن جمالياتها ومخيلتها ترتقي بالمؤلّفة إلى مستوى من التميّز في وصفها للطبيعة، التي بقيت الهاجس الذي يثقلك الحنين إليه أينما كنت، فقديماً كان يتراءى لنواظرنا وجهها، بهاؤها، ألوانها، وتناسقها.

ويتناهى إلى أسماعنا صوتها، ضحكتها، وأحضانها، تلك هي «أمنا» الطبيعة (مثلما كان يسميها البعض)، غير أنها تحولت اليوم إلى ضمير مستتر يطارده شبح الحروب والدمار والتلوث والقلق والنسيان الإنساني. ولا تخفي هاريسون أن ولع الكاتب بما يكتب ينعكس على عمله جودةً وإتقاناً، ويكون جواز سفر لعبوره إلى تفضيلات القراء وإرضاء شغفهم، من هنا فإنها تُخرج لنا من خلال روايتها «كل ذلك وسط العشب» عملاً إبداعياً جديراً بالقراءة.

في كتاباتها، ربما لاحظ قارئ مليسا هاريسون هذا الشغف الشديد بالطبيعة وأهميتها، بغض النظر عن كونها كتابات روائية أم قصصية أم نثرية. أعمال تتحدث عن تبدل فصول السنة، كيف تؤثّر البيئة المحيطة في حياة الناس الذين يعيشون في محيطها. ففي باكورة أعمالها الروائية «الطين» عام 2013، تلقي الضوء على 3 شخصيات تنشد البهجة والسلوى بالحياة في الريف.

وفي روايتها الثانية «في زمن هوثورن» التي ظهرت على القائمة القصيرة ضمن الأعمال المرشحة لجائزة «كوستا» للرواية، تتوزّع التفاصيل على مجموعة من الشخوص التي تعيش في محيط بيئة ريفية معاصرة تمثل شيئاً مختلفاً لكل واحدة من هذه الشخصيات المتأزمة التي تعيش في نطاقها.

أما روايتها الأخيرة «كل ذلك وسط العشب الأخضر» فهي تجسّد إلى حد بعيد ذلك الارتباط القوي بالطبيعة، على الرغم من أن بطولتها في هذه المرة تسند إلى شخصية واحدة هي «إيدي ماذر»، الشابّة المراهقة التي تنشأ وتترعرع في مزرعة ببلدة «سوفولك» (شرقي إنجلترا) في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.

وتضيف في الحوار الذي أدلت به برستون لصحيفة «ذي غارديان» البريطانية أن الرواية تتحدث عن المكان، الروح الوطنية، والحنين، وهي كلها تعبر عنها الكاتبة بأسلوب مكثف. والمعروف أن هاريسون قد نشأت في «سوري» (جنوب شرقي إنجلترا)، وهي تعيش الآن متنقلة بين سوفولك ولندن، حيث تعمل بدوام جزئي في إحدى المجلات الإلكترونية.

تحول

ما الذي حملك على الكتابة عن موضوع ذي علاقة بثلاثينيات القرن الفائت؟

الواقع أنني عندما شرعت في الكتابة لم يكن قد ورد في ذهني مطلقاً أن تكون هذه المرحلة موضوعاً ساخناً إلى هذا الحد، لأن الاستفتاء (في بريطانيا) حول البريكست كان في طريقه إلى الوقوع، وأنا أقولها بكل صراحة، إنه عندما تحقّق بقينا كما نحن وأصبحت فكرة ولاية «ترامب» ومخاوفه مثيرة للضحك. وفي هذا العمل جعلت الأحداث تدور في ثلاثينيات القرن الماضي.

لأنني كنت حينها أريد أن أكتب عن مراحل التحول المهمة في حياتنا، ومثالٌ على ذلك التحوّل من استخدامنا للخيول إلى استعمال الجرارات الزراعية في الثلاثينيات، كما أردت أن أكتب عن التغيّرات التي طرأت على علاقتنا بالطبيعة والحياة الزراعية في الأرياف.

حنين

هل توافقينني على أنها رواية تبدو على علاقة قوية بإنجلترا المعاصرة، كما تبدو على العكس من ذلك في الوقت ذاته؟

بالفعل، لقد كنت أشعر بأن هناك عالماً آخر يقع ما بين فترات الحروب، عالماً شديد الهشاشة، وكان إحساسي الغريزي أنه كان قد استمر فترة طويلة ثم تلاشى بسرعة فائقة. وكما يبدو لي أن ثمة علاقة وطيدة بالماضي الجميل الذي يبدو لنا قوياً جباراً وشديد الجاذبية، غير أنه شديد الخطورة أيضاً، لأنه هو الذي أتى بكل هذا الكم من الحنين إلى الماضي، إلى جذورنا الإنجليزية.

لقد تحدث الكثيرون عن هذه الفكرة، فكرة «إنجلترا العميقة»، فبدأت أسأل نفسي ليتبين لي كم هي خطيرة وإقصائية، إنني في الواقع أريد أن أعرف لماذا نحمل في داخلنا هذا الحنين الشديد لمرحلة ما بعيدة جداً عنا اليوم.

وهل اخترعت لذلك الحركةَ الفاشيةَ التي يتحدث عنها هذا العمل الروائي؟

نعم، لقد اخترعتها، على الرغم من وجود بعض الجماعات الفاشية التي كانت في طور التكوين في ذلك الحين، الجماعات التي كانت تعمل في كل أنحاء إنجلترا قبل الحرب العالمية الثانية، لقد كانت بعض هذه الجماعات قوية التأثير، وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء كان متزمتاً يريد فقط العودة بإنجلترا إلى الوراء إلى الجذور، فإن بعضهم الآخر كان وحشياً.

كما أن الرواية بهذه الإضافة تبدو لي ممتعة؛ فهي تتحدث عن الأسلوب الذي كانت تعمل من خلاله الفاشية، ذلك الذي لم يكن يعتمد على نظام عقائدي مترابط، ولكنه يقوم على شيء طفيلي يعتمد على أنظمة أخرى للتفكير، أساسها المخاوف. والحقيقة أنه شيء كالفطر الذي ينمو ويظهر بشكل عشوائي يميناً وشمالاً هنا وهناك، وعليك أن تكون واعياً بذلك، لأنك إن لم تكن حذراً تجاه ما يحدث فستتضرر حتماً.

صدق

الواقع أن هذا العمل، كغيره من أعمالك، مليء بالأفكار ومليء بالمشاهدات والمعلومات المتعلقة بوصفك للطبيعة، كيف كنت تقدرين ما يحتاج إليه من تفاصيل في كل هذه المقاطع؟

الحقيقة أنني كنت قلقة باستمرار من استخدامي الجزء الأكبر من التفاصيل التي تدور حول الطبيعة، وأنا أعرف جيداً أن هناك قراء يتجاوزون هذه الصفحات ولا يقرؤونها، إلا أن هذا هو محط اهتمامي وليس لدي شيء غيره. إنني في الواقع عندما أخرج للتنزه مشياً، أقف وأنظر إلى الأشياء وألتقط لها صوراً، كما أنني في العادة لا أهتم بالتفكير في شيء كانتهائي من المشي.

وإنما فيما أشاهده على امتداد الطريق. وأتصور أن الكتابة تبدو كذلك بالنسبة إلي، ينبغي لنا أن نكتب عن ولعنا بالأشياء التي نحبها، عن تجاربنا في هذا العالم. بصراحة، لا يمكنني أن أكتب لسوق لا يميل أصحابها إلى الصدق في الكلام.

هل كان لهذه الرواية أثر في استقرارك في سوفولك؟

أجل، كان لها أثر، لقد انتقلت إلى هناك عندما كانت روايتي قد وصلت إلى نهايتها، والحقيقة أنني لا أعرف أحداً في هذه المنطقة، ليس لي عائلة، وليس لي علاقة بهذا المكان، كل ما هناك أنني كنت أمضي الوقت هناك في البحث أثناء العمل على روايتي، ولولاه لم أكن قد ذهبت إلى سوفولك.

كيف تنظرين إلى وسائل التواصل الاجتماعي؟

إنني مغرمة بـ«تويتر»، وعلى الرغم من أنني قد أكون مفرّطة في استخدامه أحياناً، فإنني أتدارك نفسي، إنه لعبة ممتعة بالنسبة إلي على الرغم من أنني لا أُقحم نفسي في المرارة والجدل الذي يدور أحياناً، فأنا لا أحب أن أكون طرفاً فيه، ولكنني أستمتع بالمرح والمزاح مع الآخرين من خلاله.

تفضيلات

ما الكتاب الذي تقرأينه الآن؟

إنها نسخ ما قبل الطباعة من كتابين، أحدهما «المنزل الذي يقع في فيسبر ساندس» للكاتب والشاعر البريطاني باريك أودونيل، وآخر من كتاب الشاعر الأميركي أوشن فونغ وعنوانه «سماء بالليل بجروح الاختراق».

ومن كتابك المفضّلون إضافةً إلى هؤلاء؟

إنها الشاعرة أليس أوسوالد الأفضل بين الكتّاب الإنجليز الأحياء.

ما الكتاب الذي من الممكن أن تقدميه لطفل؟

إنه كتاب «ثعلب أسود يركض» للكاتب الأميركي براين كارتر.

ما أفضل كتاب أهدي إليك؟

كتاب كان عنوانه «ما الذي تبحث عنه في الربيع»، وكان واحداً من كتب سلسلة «ليدي بيرد»، كانت لدي الأجزاء الأربعة منه، وقد نسيت كل شيء عنها لمدة طويلة، وذات يوم كنت مدعوّة إلى حفل في منزل أحدهم في مانشستر فوجدته هناك، لكي يقلب علي الذكريات، وقد أخذته معي إلى البيت واشتريت الأجزاء الأخرى.

وهو الأمر الذي أشعل في داخلي شرارة الولع بالبحث، البحث في ظاهرة الفصول الأربعة ودورة السنة، التي كنت قد نسيتها أثناء إقامتي في لندن، كان ذلك قبل 15 سنة من الآن، وكان سبباً في عودتي إلى الاهتمام بالطبيعة.

وماذا تقرأينه للمتعة ليس إلّا؟

أقرأ لكتّاب أميركيين أمثال إليزابيث ستراوت ومارلين روبنسون.

إضاءة

مليسا هاريسون روائية بريطانية من مواليد 1975، حاصلة على شهادة في الأدب الإنجليزي من جامعة «أكسفورد». تعمل محرّر في إحدى المجلات الإلكترونية، تنشر مقالاتها في صحيفة «التايمز»، وصحيفة «الغارديان».

صدر لها: رواية «طين» 2013 الحائزة جائزة «بورتس ماوث الأولى» للرواية، رشّحتها الكاتبة والروائية البريطانية آلي سميث كأفضل كتاب، ورواية «في زمن هوثورن» 2015، ورشحت للعديد من الجوائز الأدبية، ورواية «مطر» 2016، ورواية «كل ذلك وسط العشب» 2018، وأهم أعمالها القصصية «الكلب الأسود».

«كل ذلك وسط العشب».. روعة الطبيعة تدحر جحافل الحروب

تسرد رواية «كل ذلك وسط العشب»، للكاتبة مليسا هاريسون، تفاصيل أحداث تقع في ثلاثينيات القرن العشرين في بلدة «سوفولك» بالريف الإنجليزي، في مزرعة تقع هناك، خلال الفترة التي تسبق الحرب العالمية الثانية، أما بطلتها (الراوي) فهي فتاة تدعى إيدي تعيش في هذا المكان منذ ولادتها.

وبالبعد قليلاً عن هذه التفاصيل، فإن من الأهم أن يشعر القارئ بجمال الطبيعة المتأتي من روعة الوصف الذي تسبغه المؤلفة على كل تفاصيل روايتها تقريباً، بدأ بالمزرعة ومحيطها ثم إيدي وانتهاء بمشاعرها الداخلية، مشاعر الخوف التي تنتاب طفلة في عمرها ما إن يبدأ شبح الحرب والدمار بالزحف إلى مخيلتها، مثيراً في داخلها الرهبة من كل شيء، حتى الطريقة التي يفكر بها أفراد عائلتها.

وسط هذه الأجواء يصل فتز ألن قادماً من لندن في مهمة بحثية حول الحياة التقليدية في الريف وتراجع الاهتمام بها، وما إن تلتقيه الفتاة حتى ترى فيه شيئاً من الخلاص. الرواية كذلك في بعض تفاصيلها تحتوي على موضوعات مثيرة للجدل، من بينها ما يتعلق بالحياة الثقافية وممارساتها في الأرياف، وبينما ينصح ألن عائلة إيدي بالعودة إلى موروثها الثقافي الريفي الحقيقي.

والتخلي عن الحداثة الطارئة القادمة من لندن، تجد هي نفسها في صراع ما بين أفكاره وأفكار عائلتها، وسط أجواء من الخوف والقلق والترقب تمر بها وتزيد من حدتها مخاوف اندلاع حرب عالمية ثانية ووقوع كارثة لا تبقي على شيء.

وفي الواقع، فإن جزءاً مما يحرّض المؤلّفة على كتابة مثل هذا العمل الذي يضج بالحنين إلى الطبيعة والإنسانية، هو تلاشي ذلك الإيقاع القوي لها. كما أنه عمل يأتي في وقته تماماً، متزامناً مع ما نشهده من ويلات ووحشية الحروب والدمار الذي لم يستثنِ حتى النبات والحيوان، فطال كل شيء بما فيه الوقت الذي يمكن أن يمنحنا إياه للتفكير في أنفسنا.

* روعة الماضي وبهاء الطبيعة جماليات غيّبها شبح التطور

* الحنين للجذور يجعلني أستغرب أي مرحلة هذه التي لا تغادر ذاكرتنا

* تشعبات أفكارنا بحاجة إلى تهذيب يحميها من أن تصبح فطريات ضارّة تفسد حياتنا

* اهتماماتي تنصبّ على الوقفات الصادقة للرواية ولا أُتعب نفسي بالتفكير في النهايات

* مُغرمة بالتواصل الاجتماعي ضمن حدود المتعة ولا أُقحم نفسي في الجدل العقيم

* «ما الذي تبحث عنه في الربيع» أشعل في داخلي شرارة الولع بالطبيعة

Email