تومي أورانج:أصبحت كاتباً بالمصادفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن تصنيف الكاتب ذي الأصول الأميركية الأصلية أنه من الكُتاب القلة الذين تستهويهم العودة إلى الأصالة والجذور، والانتصار للتقاليد التي انطمس بريقها في ظل الطوفان الحضري والحداثة التي غزت بغثِّها أكثر من سمينها حياة الناس، حتى أضحوا في عزلة تامة عن موروثاتهم التي أخذوها عن الآباء والأجداد..

الكاتب الذي يرى أن المصادفة ساقته إلى عالم الأدب وحدائقه الغناء، حين عمل في محل لبيع الكتب المستعملة، اكتشف في إحدى جولاته البحثية عن حياة السكان الأميركيين المعاصرة في المدن الكبرى، أن العبارة الشهيرة المقتبسة عن الروائية والشاعرة والكاتبة المسرحية غيرترود ستين حول ولاية «أوكلاند» قد أسيء فهمها، والتي تقول فيها إنه «لا يوجد ما يسمى هناك هناك».

وبسؤال تومي أورانج: لماذا تبدو هذه العبارة مهمة بالنسبة له؟

أجاب أثناء الاتصال به من منزله بولاية كاليفورنيا: الحقيقة أن غيرترود كانت تشير إلى حجم التغير الذي طرأ على المكان الذي نشأت وترعرعت فيه، وهو أوكلاند، وأنه لم يعد باستطاعتها حتى تبيّنه بوضوح.

مقارنة

وللمزيد من التعريف به فإن تومي أورانج ينتمي إلى قبيلتي «تشين» و«أرباهو» الأميركيتين الأصليتين، وكان قد نشأ وترعرع في أوكلاند.

وهو يقول عن ذلك: «على الرغم من أنني لم أكن في واقع الأمر واعياً بأن هذه العبارة ستكون عنوان روايتي، «هناك هناك»، فإنه كان لها بالغ الأثر في نفسي، خاصة بالنسبة لما يتعلق بحياة المواطنين الأميركيين الأصليين، إن لك أن تتصور الآن كيف هو هذا المكان بالمقارنة بما كان عليه بالأمس، حين كان يعيش فيه أسلافنا. لقد حرَّضتني تلك المقارنة على البحث في هذه العبارة».

12 شخصية

إن أحداث رواية أورانج التي تدور تفاصيلها في أوكلاند تقتفي حياة 12 شخصية معاصرة، وكلهم من الأميركيين الأصليين أثناء الاستعداد لاجتماع حاشد في أوكلاند..

بعضهم، كما يتمنى الشاب أورفل رد فذر، الذي تعلّم الرقص التقليدي للسكان الأصليين بواسطة اليوتيوب، يريد العودة إلى الموروث التقليدي القديم لهؤلاء، خاصة أنه اكتشف أن بعض الرموز القديمة مخبأة في خزانة خالته أوبل فيولا شيلد، التي كانت تعمل في شبابها ساعية بريد، وكانت تعيش طفولتها في جزيرة «الكاتراس»، لكنها تبدو حالياً عازفة عن كل ما يتعلق بالسكان الأصليين.

أما أوكتافيو غوميز، وهو شاب يشعر بالنفور، فإن ما يراه في الاجتماع هو فقط فرصة عمل يجني من ورائها ما لا يكفي لسداد دينه، وهو لا صديق له سوى عمّه سكستو، الذي لا يفتأ يردد على مسامعه هذه العبارة: «إننا قد ورثنا هذا الدم السيئ الذي يجري في عروقنا».

تفويض

وهناك أيضاً دين أوكسندين، الذي كما تبدو تجربته قريبة من تجربة أورانج نفسه؛ وهو رسام غرافيك أصوله مختلطة.

كما أنه يحوز على إذن يصرح له بالقيام بمهمة مثل جمع المعلومات والروايات الشفاهية من السكان الأميركيين الأصليين. يقول عن نفسه: «إنني في الواقع حاصل على تفويض رسمي من مدينة أوكلاند للقيام بمشروع حول الروايات الشفهية التي لم تحدث على الإطلاق»، أو ما يقول عنه أورانج نفسه بشيء من الفكاهة: «قصص لا تحدث إلا في الروايات».

حظ

والحقيقة أن أورانج الشاب البالغ من العمر 36 سنة، الذي تخرج في كلية الفنون الأميركية الهندية، يعتبر أنه صار كاتباً بالمصادفة إذ لم يكن مهتماً بالقراءة، ولم يكن ليفكر يوماً في أن يصبح كاتباً. كان عاكفاً على ممارسة لعبة «رولر هوكي» داخل المنزل إلى أن انقرضت تلك الرياضة. كما أنه يحمل شهادة في هندسة الصوت.

يعلق على ذلك بقوله: «لم تكن هنالك فرص عمل متوقعة بالنسبة لنا، حتى أولئك المتفوقين، الذين كانوا يحلمون بالعمل في وظائف مرموقة، كان عليهم أن يتوقعوا العمل في وظائف أقل منها بكثير، هكذا كان يقال لنا».

وهكذا فقد ساقه الحظ بعد تخرجه مباشرة لأن يعمل في محل لبيع الكتب المستعملة. يستأنف: «في تلك الفترة عكفتُ على القراءة كي أجد معنى لحياتي، فقد وُلدت في بيئة معروفة بالالتزام، فقد كان والداي كلاهما شديدي الالتزام، لكنني لم أكن مثلهما، وعندما بدأت أقرأ كنت أقرأ لأعرف ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة لي».

استحضار

وكما يذكر أورانج فقد تخيل تفاصيل روايته في تلك الفترة التي التقى فيها زوجته للمرة الأولى، حيث كانا يعملان معاً في أحد المراكز الصحية التابعة للسكان الأصليين.

ويكمل حديثه قائلاً: «كنت أعلم أنني أرغب في كتابة رواية متعددة الأصوات، تعج بالشخصيات التي يدور بينها نقاش حامٍ أثناء اجتماع حاشد. إنني من خلال نشأتي في أوكلاند تبين لي أنه لا يوجد هناك، في المدن، من الأميركيين الأصليين من يعيش بنفس الطريقة التي يعيش فيها الناس في الروايات. والحقيقة أنني لو أردت أن أقرأ قصصاً تقتفي حياة هؤلاء تاريخياً، فهي لا تبدو على صلة بحياتي شخصياً.

وبالتالي فقد تحتم عليَّ أن أكتب بطريقة تجمع ما بين حياة هؤلاء الناس المعاصرة وحياتهم التقليدية السابقة، أعني حياة المدن التي تختلط فيها أصداء العنف في المجتمعات التي يعيش فيها الأميركيون الأصليون. لقد أردت أن أصور الحياة التي عاشها هؤلاء عبر تاريخهم الطويل».

مسمى

يكمل حديثه: إن أحد الأسئلة التي تلحُّ عليَّ وتتصل بكل شخصيات العمل الروائي هي: ما الذي يعنيه أن تكون أميركياً أصلياً اليوم؟ ومثلما يعبر عن ذلك أورفيل في الرواية، فإن السؤال أيضاً هو: ما الذي يعنيه كونك هندياً أصلياً؟

وفي الحقيقة فإن ما يعنيه ذلك بالنسبة لأورانج هو أن «مسمى الهندي الأصلي» يشير إلى الشخص الذي لا وجود له هناك، وأنهم كشعب يمرون اليوم بحالة من التوهان.

«هناك هناك».. ملحمة أميركية تنتصر للأصالة في وجه الطوفان الحداثي

رواية تومي أورانج الصادرة مطلع العام الجاري 2018، عن «دار ألفريد آند نوف» وعنوانها «هناك هناك» وصفت لدى صدورها بأنها ملحمة أميركية جديدة من نوع آخر. وفي هذا العمل الروائي يريد أورانج أن يؤكد أنه غدا مفرغاً من جذوره الأصيلة التي ينتمي إليها.

وذلك بعدما خلت ولايات أميركية كبرى، منها أوكلاهوما من سكانها الأصليين، الذين يذوبون في البنى الاجتماعية والثقافية للحياة المدنية المعاصرة، ما يسميه الكاتب «غياب الوطن الأم» الذي لا وجود له «هناك» سواء كان في أوكلاند أم غيرها من المناطق الجغرافية التي شكَّلت أميركا على مرِّ التاريخ. إن ذاكرة المكان المختفية وهويته هي كذلك مما يشير إليه مردداً: «هناك، لا شيء هناك».

موروث

وكما أراد أورانج للرواية أن تعبّر عن هذه المأساة فقد حشد لها عدداً كبيراً من الأصوات، ومن وجهات النظر المعبرة عن وجهة نظرها فيما يجري. هنالك خالته التي تتنكر لماضي أهلها وتخبئ الموروث التقليدي الهندي في خزانة.

وهناك أورفيل، الشاب الذي يفكر في العودة إلى موروثه الثقافي الأميركي الأصلي باستدعاء رموزه وإتقان رقصات وطقوس تقليدية معبرة عنه، وهنالك غوميز، الذي يشعر بالنفور من أصوله والدماء التي تسري في عروقه. وفي النهاية يتساءل أورانج: ما الذي يمكن فعله تجاه ما يحدث من اجتثاث للموروث الأميركي الأصلي؟

يقول أورانج: «نحن نتكون من 575 قبيلة، لكل واحدة منها لغتها الخاصة، وأسلوبها في التفكير، ألا تتصورون أننا نسيء إلى هويتنا عندما نقول إننا شعب واحد، وماذا لو أننا مازلنا نبدو كما لو أننا نتشابه أكثر مما نختلف؟».

دليل

وعن مدى ما تأثر به من إبداعات أدبية، يوضح أن كلاً من بورخيس وكافكا كان دليلاً له في القراءة. مضيفاً: «أذكر أنني مرة كنت أقرأ رواية «كمفدرالية البلهاء» للكاتب الأميركي جون كندي الصادرة سنة 1980، وعندها أدركت ما الذي تفعله الرواية، وفي تلك اللحظة تملكتني الرواية حتى أصبحت مهووساً بها، وعزمت على كتابتها».

إضاءة

تومي أورانج (36 سنة) روائي أميركي يصنف ضمن كُتاب أميركا من ذوي الجذور الأميركية الأصلية، ينتمي إلى قبيلتي «تشين» و«أرباهو» الأميركيتين الأصليتين.

ويعمل أستاذاً في «معهد الفنون الأميركية الهندية» الذي تخرج فيه. وُلد ونشأ في أوكلاند بولاية كاليفورنيا الأميركية. ونشرت باكورة أعماله الروائية «هناك هناك» 2018 وأدرجت ضمن الأعمال الحائزة على جائزة نيويورك تايمز لأفضل الكتابات الروائية.

 

Email