ريتشارد باورز: شخصيات رواياتي ابنة الواقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

أمضى الروائي الأميركي ريتشارد باورز خمسة أعوام، متوغلاً في أعماق غابات جبال «غريت سموكي» في ولاية تنيسي الأميركية، من أجل تأليف أساطيره ورموزه التي استوحى تفاصيلها من طبيعة أشجارها الباسقة، فجاءت روايته الأخيرة «أوفرستوري» صرخة احتجاج ضد الدمار الذي يلحقه البشر بالبيئة، وكان تأثير تلك النزهات الطويلة في غاباتها البكر عميقاً في نفسه إلى درجة أنه ترك وظيفته في التعليم الجامعي، وانتقل إلى منزل منعزل حيث انزوى بنفسه وسط تلك الجبال.

ويعرف باورز برواياته عن الذكاء الاصطناعي وعلم الوراثة والموسيقى، روايته التاسعة «صانع الصدى» الصادرة عام 2006 فازت بجائزة الكتاب الوطني، وأثنت عليها الروائية الكندية مارغريت أتوود بأنها كبيرة في متناولها ومواضيعها وزخارفها.

دور

يضيف في روايته الأخيرة، إلى رصيده العلمي والفني شغفاً جديداً بعلم النباتات، بعد أن ساءه غربة البشر عن كل شيء حي، حسب تعبيره.

وفي الغابة حيث التقت به صحيفة «غارديان» البريطانية، بدا المؤلف مستمتعاً بدور الدليل السياحي، فاركاً أوراق الشجر بيديه وخادشاً لحاء جذوعها، ومبيناً تأثير شجرة «البتولا» الصفراء في ارتخاء العضلات، وكيف تمكنت شجرة «سوروود» النادرة من تفادي فأس المستوطنين بعسلها الفاخر.

الغابات البكر

وتحوي جبال تنيسي موقع «أولبرايت غروف» أقدم الغابات البكر المتبقية في المتنزه الجبلي، يقول إنه لم يلتفت إلى الأشجار إلا بعد مشاهدته أشجار الخشب الأحمر العملاقة لأول مرة أثناء تدريسه الكتابة الإبداعية في جامعة ستانفورد، فالشجرة الواحدة «باتساع منزل وطول ملعب كرة قدم»، لكن انبهاره بها لم يكن لحجمها واتساعها، بل لأنه كان غافلاً تماماً عن تلك المخلوقات الرائعة طيلة حياته.

وكان التحول في نفسه أشبه بتحول عقائدي «روحي»، بمعنى أنه أحدث لديه «ارتباطاً مرة أخرى بنظام من المعاني لا يبدأ أو ينتهي مع البشر».

«هذه ليست مواردنا» يؤكد باورز «ولن نكون بخير طالما لم ندرك ذلك»، ولهذا توخى في روايته الدقة العلمية في تصوير أشكال الحياة المترابطة التي تعيشها الأشجار، ومساعدتها لبعضها في التزود بالحياة، كما لمخلوقات أخرى لا تحصى ولا تعد.

درس النباتات

وقد أمضى باورز، ابن ناظر مدرسة، سنة كاملة يدرس عن النباتات والطحالب والفطريات، ويعتقد أنه كان «اختصاصيا» منذ الطفولة، يقول مستذكراً: «كنت فضوليا أريد معرفة كل شيء، ومع كل يوم كان لدي شغف جديد، وعندما بلغت 16 عاماً وحان وقت الاختصاص شعرت بحالة من الذعر المستمر». درس الفيزياء باعتقاد أن ذلك سيسمح له باستكشاف الصورة الأكبر للحياة. لكن ذلك لم يسعفه، كما لم تسعفه الماجستير التي حصل عليها في الأدب، فقرر في تلك اللحظة الانسحاب من الدراسة الأكاديمية.

وتلا ذلك أزمة هوية عمل خلالها كمبرمج كمبيوتر. ثم خطرت على باله فكرة روايته الأولى المنشورة عام 1985، «مزارعون ثلاثة في طريقهم إلى حفل راقص» فأصبح من الممكن اللحاق بركب اهتماماته العديدة.

شخصيات الأعمال

وعلى الرغم من شهرته الواسعة، غالباً ما تعرضت روايات باورز للانتقاد بسبب افتقار شخصياته لدفء المشاعر، لكنهم ليسوا كذلك، يقول باورز: «شخصياتي ليسوا عباقرة كما يقول البعض، بل يصدف أنهم يحملون شغفاً كبيراً وطريقة لتنظيم العالم، قد لا تكون مألوفة لدى القراء». لكن رؤية شخص في غابة يتجه إلى شجرة الساسفراس ويقول: «أريد أن أستنشقها»، لا بد أن يخبر شيئاً عن طبيعة تلك الشخصية. وهو يقر باستخدامه المهن التي زاولها في حياته في توصيف الشخصيات، موضحاً يقول: «ليست كتاباتي حامية الوطيس عن الغيرة والغضب والحسد والحب، لكنها بالنسبة لي أكثر واقعية، صورة واضحة المعالم عمن نكون، فالمهنة تشكل ذواتنا بعمق بالنسبة لمعظمنا».

لكنه يؤكد أنه «يحاول القيام بهذا الشيء المختلف قليلاً في إضفاء الدراما على قضايا فلسفية، مع اقتناعه بأن الروايات التي تصور الجوانب النفسية والروحية للشخصيات كان لها وقتها، لكن ليس في أيامنا. ولهذا يقول بأن الكتابة بالنسبة له عبارة عن توفيق مستمر بين:»كيف يخبر قصة شغف فكري مع إبقائها دافئة المشاعر لتصل إلى الناس؟«

دراما وثائقية

في روايته»ذا أوفرستوري«، كان مصدر إلهام الدراما فيلماً وثائقياً عن ناشطين بيئيين احتشدوا عام 1990 لمنع قطع أشجار السيكويا العملاقة في كاليفورنيا، لكنه يؤكد أن العالقين في السرد الإنساني يواجهون خطر فقدان عنصر ابتكار الحكايات الأوسع، واصفاً أعماله بالأساطير حتى الرمزية.

ومع ذلك، صب الكاتب الكثير من نفسه في الشخصيات الرئيسية التسع في الرواية.»نيك هاول«الذي يقول باورز إنه يشبهه، هو ذلك»المبتكر الدخيل المتعمق في تأملاته وأفكاره عن ذاته، والذي يحاول حل التوتر الدائم بين هذا الانطواء في مزاجه والطموح الخارجي لمهنته«.

ثم هناك»ميميما«المهندس الذي يمثل المسار البراغماتي الذي كان بإمكان باورز أن يسلكه، و»نيلاي«المبرمج الذي ينسى نفسه في عوالم بديلة، و»دوغلاس«المحارب القديم الذي منحه المؤلف»نكاته«، مؤكداً بأن تأليف الرواية كان بمثابة جلسة علاج طويلة امتدت خمس سنوات ترك العنان فيها لكل شخصياته المتعددة، مما أضفى عليه شعوراً بالرضا التام حسب تعبيره.

الخيال العلمي

مشروعه المقبل يتمثل في نقل مواضيع روايته الأخيرة إلى مجال الخيال العلمي. يقول ليس على المرء أن يترك الكرة الأرضية ليكتشف أن البشرية ليست وحدها في هذا الكون. في الغابة البكر يمكن مشاهدة أشجار»القيثاري«الباسقة القديمة تخترق السماء بجذوعها غير المستدقة، فيما تنتشر من حولها النباتات الحية والذابلة والفاسدة، في لوحة غرائبية، يقول متحسراً:»لم يسبق أن شوهدت غابة عذراء قديمة تعود إلى الغنى والحيوية التي كانت عليه بعد قطعها تماماً«.

أما الافتراضات الحديثة بأن الأشجار والنباتات وكل الحياة البرية هي مجرد»أملاك«فتلك برأيه جذر لمشكلة أكبر، إذ في اعتقاده:»كل أشكال اليأس والرعب والعجز في الحياة المعاصرة متصلٌ بطريقة ما بهذا الاغتراب الكامل عن أي شيء آخر حي«مضيفاً:»نحن وحيدون وجودياً في العمق وإلى أن يصبح أمراً مثيرًا وممتعا التفكير أن كل شيء آخر بتوكيل ومتصل ببعضه على نحو متبادل، فإننا سنظل خائفين من الموت.

الأشجار تطلق صرختها المدوية لهول ما يرتكبه البشر

قدم الروائي الأميركي ريتشارد باورز في روايته الثانية عشرة، «أوفرستوري»، قصة مفعمة حماساً ودفاعاً عن البيئة، مستحضراً في سياق ذلك عالم الطبيعة، لا سيما الأشجار المهددة بالزوال.

وعلى نقيض الروائيين الذين تناولوا تلك القضايا انطلاقاً من فانتازيا قاتمة، بدت روايته أكثر واقعية على الرغم من تصنيفه لها بالرمزية. تتألف الرواية من أربعة فصول: الجذور والجذع والرأس والبذور. وتتابع حياة تسعة أشخاص مختلفين، لكل منهم قصصه الشخصية مع الأشجار، وتتناول في سياق ذلك تاريخ الهجرة إلى أميركا.

في البداية نتعرف على أسرة هاول النرويجية التي هاجرت في القرن 19، واستوطنت في ولاية أيوا، حيث أنشأت مزرعة وزرعت على محيطها بذور أشجار كستناء، وقد نجت شجرة كستناء واحدة من الآفات الزراعية التي ضربت الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، فقرر رب العائلة العجوز أن يأخذ صورة لها كل عام، في تقليد سيتوارثه الأبناء والأحفاد وصولاً إلى الحفيد نيكل هاول، خريج مدرسة الفنون، الذي سيبيع الأرض والمنزل، محتفظاً بمجموعة الصور الـ 100، التي تشكل شواهد على تقلب الأزمان.

فرار

ومن الشخصيات في الرواية نتعرف على، ميميما، الذي فر والده من الصين حاملاً معه حلقات من اليشم ومخطوطة قديمة تصور المراحل الأربع للتنوير. ونيلاي، ابن مهندس في سيليكون فالي، الذي أدرك أن التسلسل الجيني في الأشجار يحمل علاقة وطيدة ببرامج الكمبيوتر الخاصة به، الأمر الذي ألهمه لابتداع لعبة تستنسخ تعقيدات العالم الحقيقي. ودوغلاس المحارب من فيتنام الذي سقط من طائرته وحط على شجرة توت قديمة.

كما هناك عالمة النبات باتريسيا وستفورد وأبحاثها الجريئة عن عالم الأشجار. وتكتشف باتريسيا أن الأشجار تتواصل فيما بينها، ويظهر عملها كثيراً في الرواية، في مقاطع كتلك: «أنت والشجرة في فنائك الخلفي من سلف مشترك.

منذ مليار ونصف سنة، افترقتما، لكن إلى الآن، بعد تلك الرحلة الطويلة في اتجاهين منفصلين، لا تزالان تتشاركان ربع الجينات». ثم هناك أوليفيا فاندرغريف الخريجة الجامعية التي كادت أن تلقى حتفها قبل أن تسمع أصواتاً تؤججها للانضمام للناشطين المدافعين عن البيئة، حيث تدخل في علاقة غرامية مع أحد أبناء أسرة هاول حيث يخيمان فوق شجرة ترتفع 300 قدم فوق الأرض.

العلاقة بالشجر

شخصيات كثيرة في الرواية تربطها علاقة بشجرة ما. المحارب دوغلاس مع شجرة التين. ونيك هاول مع شجرة الكستناء، ووالد ميميما مع شجرة التوت، والفتاة الجامعية مع شجرة الخشب الحمراء، والمبرمج نيلاي مع شجرة البلوط الإسباني، ثم هناك عالمة النباتات.

جميع هؤلاء الغرباء يقفون معاً وقفة أخيرة لإنقاذ المساحات المتبقية من الغابات البكر في قصة تتخللها قصص عن الحرب والحب والإخلاص والخيانة.

في البداية، بدت قصص هؤلاء المتنوعة تتطور بشكل مستقل، لكن كل خطوط الحبكات الفوضوية تلك سرعان ما تتشابك بعد القصة السابعة. وقد رسم باورز تاريخ الشجرة، وليس البشر، محولاً العلوم إلى أشعار، كما في المقطع التالي: «في الصيف ترتفع المياه عبر نسيج الخشب وتخرج من ملايين الأفواه الصغيرة على الجانب السفلي للأوراق».

أفكار

وكالعادة ملأ روايته بالأفكار عن نظام الجذور، وألعاب الكمبيوتر، والعلوم الإحصائية، والبسيكولوجيا الجماعية، فيما مر سريعاً على الحبكة الإنسانية. فمضمون الرواية أوسع من حياة البشر أنفسهم، لكنها تبقى مؤثرة في ارتباطها بنسيج من التبادلات اللطيفة بين أصدقاء وأحباء وأهل وأطفال، كما تمنح الرواية مشاهد من قمم الأشجار، وتبلغ ذروتها في لحظة الاحتجاج ضد تقطيع الغابات البكر، حيث يصل ناشطون بيئيون إلى قمم الأشجار فيما تتقدم الجرافات، وينبعث لحن رعوي في مظلة الشجرة.

بعض الشخصيات سوف تتأثر بالأبحاث طارحة التساؤلات التالية: «من هم الأكثر جنوناً المحتجون في أعلى الشجرة الحمراء المنكوبة، أم جموع المستهلكين الذين يتجاهلون حريق كوكبهم الوحيد؟ إنه سؤال تدور حوله الرواية بتوقعات قاتمة. ويكتب باورز:»كل القصص الجيدة تقتلك قليلاً، قبل أن تحولك إلى شيء لست عليه.

من جذور الأشجار إلى قممها وبالعودة إلى البذور، تتكشف الرواية عن حلقات متحدة من الحكايات المتشابكة، بدءا من نيويورك قبل الحرب وصولاً إلى حرب الأخشاب أواخر القرن العشرين، والصراع في هذا الكوكب بين البشر وغير البشر، كاشفة عن عالم نباتي شاسع بطيء مترابط حيوي غير مرئي، يعيش بجانب عالمنا.

Email