في وادي كوب.. الخير يبلغ السائبــــة ووحوش الجبل

Ⅶ الجبال منحوتات ساحرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخروج بالإبداع إلى الهواء الطلق، إلى ربوع الإمارات، حيث الناس على سجيتهم، في عام الخير، هكذا جاءنا التكليف، الجو يومها كان رائقاً، الرذاذ يداعب الوجوه المتحمسة في يوم من شتاءات الإمارات، كان علينا أن نستنطق مكاناً جميلاً، ما داموا قد تركوا لنا الخيار، ولذلك حاولنا أن نكون رومانسيين بعض الشيء، فكرنا بعيداً عن ضجيج المدن،.

حيث قرية نائية وسعيدة، ما يزال أهلها يحافظون على بصمات الماضي التي تظهر في أنفسهم وفي أطلال بيوتهم المنتمية إلى السنوات الخوالي، هل ترانا تمادينا في الخيال ؟، كنا نريد أن نرى الحابوط الذي نسمع عنه، والأفلاج على أرض الواقع، نشرب من عين حلوة، لذلك طلبنا بقعة أهلها يزرعون بماء «الطوي» ويربون بهائمهم الطليقة في أحضان الطبيعة البكر، فوق الجبال مثلاً.

ولكن نريد جبالاً أنيقة، على قممها يحصد الناس العسل الجيد، من قفير النحل المعلق داخل مغارات غامضة، وبمعنى آخر نريد كل شيء ساحر من مكنونات الحياة العتيقة لأهل الإمارات... فإلى أين نتجه في يوم الثلاثاء 21 فبراير 2017م؟

اختيار حاسم

زميلنا عبدالله ربيع، واحد من أعضاء الفريق الستة وبوصفه ابن الديرة ومرشد الرحلة، فقد اقترح علينا قرية «وادي كوب» التابعة لإمارة رأس الخيمة، والتي تبعد عنها مسافة 40 كيلومتراً، قال: هي لا تستوعب فقط شروطنا المتمادية في الترف، وإنما تزيد عليها بكونها هادئة، محاطة بالجبال من كل صوب، هواؤها طيب وسكانها لا يتعدون المئات، قال أحدنا وهل سنرى فيها أشجار السمر وأعشاب الحرمل والسيح.

فقال أما السمر والسدر والحرمل فنعم، وأما السيح فهو الفضاء من الأرض وليس نباتاً تراه!، فضحكنا وقلنا له: الشور شورك، وتوكلنا على الله..

خرجنا فريقاً

لم نكن ندري ما ينتظرنا من مفاجآت، الرحلة شائقة وليست شاقة، بدأناها باستقبال رجل مدهش، اسمه عبيد سعيد المزروعي «بوخلفان»، في مجلسه العامر على سفح الجبل جلسنا و«ضربنا بالخمس وتقهوينا»، قال إن هذا التمر الطازج من نخيل مزرعته «يا هلا و ارحب»، ولكننا لم نكن ندر أنه يعتني بحياة السباع والبهائم السائبة يوفر لها الحياة في أعلى الجبال.

الرجل واحد من المزاريع الذين يعيشون في هذا المكان، منذ قرون، يجسد صورة مشرفة من ملاحم التشبث بالأرض والقيم العربية الرفيعة، حتى في أصعب ظروف القحط وملمات الزمان.

قرى الوادي

علمنا أن القرية التي نزورها تسمى الآن «الدوحة» وتقع على طريق الطويين دبا خورفكان، تتبع لإمارة رأس الخيمة وهي تبعد عن قرية الطويين التابعة للفجيرة مسافة ثمانية كيلومترات، كانت القرية سابقاً فوق الجبل وحينها تسمى: وعالة، إنها واحدة من بين عقد نضيد يضم سلسلة قرى تتخللها الجبال وهي مرتبطة كلها بوادي كوب هذا،.

ووادي كوب مجرى موسمي يبلغ طوله 35 كيلومتراً، كان في الزمان الماضي يمتلئ بمياه الأمطار المتساقطة على الجبال والمنحدرة من كل مكان إلى الوادي، والنهر الذي تحول باطن حوضه الجاف الآن إلى بساتين، ينطلق أساساً من نجد ضبعة في الفجيرة متعرجاً بين الجبال ليصب في منطقة الخرّان بإمارة رأس الخيمة وعلى ضفافه تنشأ القرى في الجبال المطلة عليه.

ومن قرى وادي كوب: الصفت ومنطقة ليل، ووادي البدي والشويغة، والحمرية والمغنية التي يوجد فيها فلج، ووعالة هذه وحريز، ونقيرة ويوجد فيها عين تسمى عين نقيرة ما تزال تنبع وحالياً تشرب منها الحيوانات، وسيح الرفض وضاية ومسانين.

جمال وخدمات

صلينا في مسجد القرية «الدوحة» وبعد الصلاة ها هم الأهالي يقابلوننا بالترحاب والسلام دون أن يضايقوننا بالسؤال من أنتم ولماذا أنت هنا، رغم أن بعض أبناء المنطقة على درجة عالية من وظائف الدولة في دبي وأبوظبي ورأس الخيمة وغيرها من الإمارات، كلهم يلقوننا هاشين باشين.

ونتجول في الطرقات القليلة التي تتخلل مائة بيت ونيف، فنلمس النظافة والأناقة والطرق الممهدة وخدمات الكهرباء والشرب وتصريف المياه والفلل الفارهة التي أنشئت من جانب مؤسسات الدولة، ونرى ملامح السعادة في وجوه الأطفال الذين يعيشون في بيئة نظيفة خالية من كل أنواع الملوثات، نشعر معهم بالرضا.

مكرمات الشيوخ

قرية وعالة التي تحول اسمها إلى الدوحة بعد الهبوط من الجبل، تعد آية في الجمال والحداثة بعد تخطيطها ورفدها بخدمات الطرق والكهرباء ومياه الشرب وتصريف المياه منذ السبعينات.

حيث بنيت شعبيتها الأولى «حوالى 30 بيتاً» بمكرمة من الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وكانت الدفعة الثانية حوالى 20 بيتاً بمكرمة من الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، والدفعة الجديدة الأخيرة حوالي 30 بيتاً بمكرمة من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وأما بقية البيوت فبتمويل ذاتي من أبناء القرية العاملين في الدولة.

ونسأل بوخلفان عما يتمنى من مزيد كمال لقريته التي بات يزورها السياح الخليجيون بكثرة ويقومون بالتخييم يومين وثلاثة أيام، خاصة في فصل الشتاء، ونزول المطر وظهور الغيم في رؤوس الجبال، والتي يتشبث أبناؤها بها رغم أن أبواب المدن مفتوحة أمامهم، يقول: «نحن نحب أرضنا وأرض أجدادنا.

والشيوخ ما قصروا، الحين حياتنا ميسرة، شوف بيوتنا وشوارعنا والمياه الطيبة والشعور بالأمان، والحمد والمنة لله تعالى، تغيرت أحوالنا، واللي عاش زمان أول والحين يعرف الفرق، الحين ما بقى لنا إلا القليل: روضة ومدرسة ومركز صحي وطريق يوصلنا للمزارع صوب الوادي». هذه المطالب البسيطة بالنسبة لنا، كانت دليلاً قوياً على أن هذه القرية بكر.

وأن أهلها أصلاء مرتبطون بالأرض رغم عدم وجود خدمة صحية، وأطفالهم لا يجدون روضة فيرسلونهم بالباصات التي توفرها الدولة لهم والسبب أن عدد السكان قليل ربما أقل من 600 نسمة.

الشجرة صالون الجبل

شجرة السدر الكبيرة كانت في استقبالنا حينما صعدنا برفقة بوخلفان إلى مكان قرية وعالة المهجورة، قال مضيفنا هذه السدرة عمرها قرون، وجدناها هنا كما وجدها أجدادنا وما تزال صامدة، إن أهالي القرية كان يجتمعون تحتها أيام الأعياد كما يستقبلون الضيوف تحتها، لأنها كانت أكثر اخضراراً ولها ظل فسيح، كانت معلماً ومرتكزاً في يوم ما.

ننظر إلى ارتفاع الجبال فوقنا فنشعر بالرهبة، لطبيعة الصخور الضخمة، فثمة صخرة في شكل كتلة واحدة ملساء بارتفاع برج من أربعين طابقاً، وتنظر حولك فترى جبالاً في كل مكان، صخورها ملونة، بعضها أحمر والبعض بني غامق ومن بعيد هنالك جبال بيضاء الصخور، وتتخذ أشكالاً فنية تشبه المنحوتات العملاقة، وفي جدران تلك الصخور الهائلة نرى كهوفاً عديدة مغطاة بأخشاب وأعشاب، نسأل ما هذا؟

يقول هذه مخابئ النحل حيث إنتاج العسل الجبلي الشهير، وهو على أنواع بحسب مواسم ازدهار الأشجار، حيث نقطف عسل السدر في موسمه وعسل السمُر وعسل النباتات البرية الأخرى.

سنة الجراد

قلت لبوخلفان صمدتم طويلاً في هذه البيئة الوعرة، فقال نعم حتى سنة الجراد الذي أكل زرعنا وما ترك شيئاً عام 1966 /‏‏ 1967م، جعنا ولكننا صبرنا مستمسكين بأرض أجدادنا، فقلت له وماذا فعلتم بالجوع؟ قال أكلنا له الجراد نفسه!. يا إلهي، هذا الرجل يدهشني كل مرة. في القرية القديمة «وعالة» رأينا الأشجار التي كانت تُحتطب للبناء وللوقود وللبيع في الأسواق.

وكذلك رأينا أنواعاً لافتة من الأعشاب التي كانت تستخدم للتداوي كنبات الحرمل ورأينا معشرة القرية «المقبرة» التي لا تزال تستخدم إلى اليوم. بعد أن تسلقنا ما شاء الله لنا أن نتسلق، وغامر بعضنا بالوصول إلى مغارات النحل بغرض كشف أسراره، ولكنه سقط بسبب الصخور الملساء.. عدنا إلى السفح حيث مجلس بوخلفان لنستريح ونحتسي القهوة وبعد إلى رحلتين أخريين في الجبال.

مورد نقيرة

رأينا في منطقة نقيرة الحابوط «حابوط نقيرة» وهو عبارة عن سد صغير يحبس الماء المنحدر من أعلى الجبل ومن العيون، وهناك رأينا عيناً تفيض وأخرى جافة، فسألنا عن السر لنعلم أن هزة أرضية ضربت وادي كوب قبل سنوات ثلاث، وعلى أثرها جفت العين التي رأينا وبقيت الأخرى تفيض فتروي الحيوانات بعد أن أكتفينا بمياه الشرب التي وفرتها الدولة.

الصعود إلى وادي كوب

تحركنا إلى وادي كوب «صاحب الاسم» في رفقتنا الشاب سالم المزروعي والفتى فارس المزروعي بجانب مضيفنا بوخلفان، سلكنا طريقاً ترابياً تهتز له السيارة اهتزازاً هذه الجبال على جانبي الطريق تعتبر امتداداً لسلسلة جبال، مررنا بسد وادي كوب، وتوقفنا عند مزرعة سيف علي المزروعي والتقطنا معه صوراً جوار الطوي و صعدنا إلى أعلى، الجو بدأ يزداد برودة قبيل مغيب الشمس عند الأصيل.

كانت تحفنا مزارع النخل والطويان حتى بلغنا حافة الوادي، فرأينا البساتين ونحن من فوقها على مسافة عشرات الأمتار، يطغى عليها النخيل والخضار تحته. أما على الشاطئ فكانت تصطف مزارع السلج والجرجير والبصل وغيرها.

دروس لا تنسى

تعلمنا من بوخلفان الكثير، ووقفنا على أغوار الشخصية الإماراتية المستمسكة بأصالتها، وأن الإنسان، خاصة في هذه الأرض، يستطيع أن يسخّر حتى الظروف الصعبة فيستثمرها بذكاء لمصلحته ليستنبط منها أسباب الحياة والخير والسعادة. وعلى ذكر الخير، ونحن في عام الخير، يلزم أن نشهد بأن عبيد المزروعي يفتح مجلسه لشباب قريته حيث يجتمعون ويتآنسون، كما يستقبل هنا ويكرم ضيوف القرية الذين يطرقون بابه.

ومنهم نحن بعد أن سمعنا عنه وسمعناه يردد: الدار داركم، كيف لا وهو قد عمل عسكرياً ما بين 1969م وحتى 1999م، فتعلم من الجيش وخدمة الوطن الانضباط والصبر ومعاني التضحية، بل إن تجربته ضمن قوات الردع العربية في لبنان وسعت أفقه القومي، كما عايش جنسيات عربية متنوعة أثناء خدمته ونهل من ثقافاتهم فأصبح نموذجاً حياً للشخصية الإماراتية «الخيّرة» والمتسامحة.

نديد السباع

 

كان بوخلفان مع أهله سكان الجبل القدامى، ولد هنالك في الأعالي، مع النسور وخلايا النحل وحتى السباع التي نشأ نديداً لها في فتوته، ولطالما انبرى هو ورفاقه الشبان يحرسون القرية من الوحوش واللصوص والأعداء، مختبئاً في الليل البارد بين الصخور المحيطة بقومه المطمئنين في أكواخ مبنية بالحجارة (يسمونها الحصى) ومعروشة بخشب السمر وأعشاب الطبّاق والكوثر.

لم تكن مساحة الغرفة في ذلك الزمان تتجاوز المترين ونصف المتر في مترين ونصف المتر، ولكن قد تكون مربعة الشكل أو دائرية، وأهم المقتنيات يومها البندقية وقليل من الماعز، وأما النشاط الاقتصادي فيتركز على جمع العسل والحطب من الجبال، علاوة على الزراعة ورعي الأغنام، ولكن الدنيا كانت بخير.

قال: سُكنى الجبال كانت تقينا من الشرور جميعاً، ولكن يا «بوخلفان» الجبال مخيفة فكيف تأمنون صخورها المتهاوية عليكم جراء سيول الأمطار أو الزلازل؟

يقول: لم نكن نخاف قط، القدماء كانوا يتدبرون أمرهم جيداً، فليس كل مكان يصلح لإقامة البيوت فوق الجبل أو على السفوح، كانوا يتخيرون المواقع بخبراتهم وما توارثوه من أجدادهم من تجارب وحكمة.

إكرام المجهول ودعاء فوق الجبل

ما بالكم إذا قلنا إن أهل الإمارات يكرمون البهائم السائبة ووحوش الجبل؟

حسناً هذه حقيقة، ولعلها من سجايا الخير العجيبة التي لم نسمع بها من قبل،.. بوخلفان رغم أنه ليس غنياً، بل يعيش على راتب التقاعد، إلا أنه يملك حوضاً واسعاً في أعلى الجبل يملأه بالماء مرة أو مرتين أسبوعياً من صهريج في بيته، بمضخة وأنبوب بلاستيكي أسود يمتد كيلومترات، أتدرون لماذا؟ قال لكي لا تموت البهائم الهائمة على وجهها «السائبة» بين الشعاب، وكي لا تهلك الطيور أو الحيوانات البرية من العطش؟

قلت له معقول؟ ماء المطر يهبط سيولاً ويملأ أودية من الجبل العديدة منحدراً إلى السهل، أما أن يصعد الماء من الأرض إلى شعاب الجبال فهذه جديدة، قال بهدوء: «المطر مب متل أول، المطر قل، والحيوانات تضيع من أهلها في اليبل تموت من العطش في الصيف الحار»..

فكرت طويلاً في هذا السلوك البيئي الراقي، الذي يحافظ على الحياة البرية بعفوية وطيب خاطر، فالآخرون ينصبون فخاخاً للغزلان وطرائد الجبل ووحوشه، وهذا الرجل يوفر لها أهم مقومات الحياة، وينصب فخه الخاص لاصطياد العمل الصالح، بعيداً عن أعين الناس، قلت في نفسي، حينما سمعت ورأيت، تالله إنه لرجل صالح؟

يا بو خلفان ليش ما تكرمنا يا أخي، فقال بلهفة «أفا آمر»، هنا انتهزت الفرصة ومن فوري قلت له: أسالك بالله أن تدعو لنا الساعة، وههنا فوق الجبال، فرفع يديه وفاضت عيناي.

تلك الأيام

قال «بوخلفان»: سرنا على الأقدام إلى رأس الخيمة ودبي والشارقة وكان ذلك أمراً معتاداً، ناهيك عن ركوب الدواب التقليدية التي كانت تقل منتجاتنا، ومع ذلك كنا سعداء نقول شعراً في الطريق ونفرح ونرضى بالقليل، ثم ندفن موتانا إلى جوارنا فوق الجبل ونتداوى بالأعشاب.

بلدة طيبة

قرية وادي كوب«الدوحة» تميل إلى المثالية في البكارة وصداقة البيئة، بلدة طيبة، بلا دخان مخبز، لا روائح مطعم، خالية حتى من صرير خياط أو جزار، بلا ورشة حدادة أو بنشر أو صيدلية وبالطبع فهي بلا محطة وقود أو سيارات أجرة، تتمشى فيها بقدميك فقط، حيث لا مصادر تلوث، لا ضجيج لا انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أو غيره. يا ترى، هل هي القرية المثالية ؟.

لغز شعري

لأن دليلنا بوخلفان يحب الشعر التراثي والحكمة فقد ذكر لنا لغزاً مشعوراً طلب منا حله من وحي الرحلة فقال:

حياً سكن بيت ميت

باني قصر تحت السقايفْ

يرعى مخاضير الجبال

ودايم من العدوان خايفْ

حل اللغز: النحل.

 

Email