شكل جزءاً من تحولات مصر السياسية والثقافية والفنية

مقهى ريش ذاكرة القاهرة الحية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تاريخ المقاهي وحكاياتها في مصر لم يكتب بعد، لاسيما بعد الفوضى المعمارية، وانهيار الفن والجماليات لصالح هيمنة ذهنية التجار ورجال الأعمال الذين حولوا العمارة إلى ميدان للمقاولات، وحولوها إلى فضاء من الكتل الأسمنتية، والاستعارات المشوهة لعمارة فقدت معناها.

بعض المقاهي التاريخية كانت للسياسة والأدب والشعر والرواية والفلسفة، امتصت أحجارها بعضا من رحيق المبدعين وأفكارهم وصورهم وحياتهم ونزواتهم وشطحاتهم وجنونهم، وصحوهم وأحلامهم، كانت بعض المقاهي الشهيرة مساحات للإبداع والكتابة، ولتشكيل العقول والتأسيس للمعارف. وكانت «ريش» ذات التاريخ الذي يزيد على المئة عام جزءاً من تحولات مصر السياسية والثقافية والفنية، وتحمل بين جدرانها السياسة والثورة والموسيقى والشعر والقصة والفلسفة والقانون والفنون التشكيلية منذ إنشائها في العقد الأول من القرن العشرين..

ومصر تدخل آنذاك إلى فضاءات الحداثة والتحديث على رحابة عالمهما، ومن ثم حدثت بها تغيرات اجتماعية في تركيبة روادها من البشوات والبكوات والأفندية، والأحداث الثورية، والسياسية، حيث كانت تطبع في قبوها منشورات ثورة 1919.

روح المكان

مقهى ريش يحمل في تكوينه وأحجاره، عديد الأصوات والنغمات والأشعار وروح عديد من سادة الكلام والأفكار في مصر والعالم العربي، على رأسهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، ويحيى حقي ويوسف إدريس وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان ونجيب سرور، وبهاء طاهر ويحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي..

وأحمد فؤاد نجم والبياتي ومحمد الفيتوري وسعدي يوسف وآخرون، كلّهم امتد حضورهم إلى الآن، حتى وفاة صاحب المقهى مجدي عبد الملاك الذي كان حريصاً على تقاليد المكان وتكوينه الثقافي المفتوح على الحوار بين مريديه، ووقف بضراوة إزاء محاولة بعضهم تحويلها إلى حيز للغو والمشاكسات.

كان عبدالملاك يحول دون تمدد بعض السوقية في سلوك بعض من رواد المقاهي الأخرى التي تمارس فيها بعض الثرثرة، ويعود ذلك إلى حراسته لتاريخ المكان وتقاليده وطقوسه، وأيضاً لأن محمد الفيتوري جاءه ذات مرة قبل الافتتاح الجديد، وسأل عن صديقه يوسف إدريس فقال له مجدي إنه يقاطع «ريش»، ولا يعرف السبب فذهبا معاً إلى مكتبه بالدور السادس بالأهرام..

وقال لهما إنه لا يريد أن يذهب إلى ريش، حيث العراك وبعض السابلة من مدعي الثقافة الذين يفرضون ظلهم السخيف على بعض كبار المثقفين والكتاب. من هنا جاء موقف المرحوم عبد الملاك الصارم من الحيلولة دون أن يتحول «ريش» إلى مكان يمارس بعضهم داخله ضغوطاً على رواد المقهى من كبار الكتاب والمثقفين.

قيم تراثية

في أثناء الانتفاضة الثورية في 25 يناير 2011 وما بعد وحتى 30 يونيو 2013 لعب مجدى دوراً مهماً في حماية بعض الشباب الثائر من غوائل الأحداث والعنف السلطوي، أو من بعض غلاة الإسلام السياسي. كان المقهى المركز المتقدم للطاقة الثورية وفي طليعة الداعمين والحماة لهم.

بوفاة مجدي عبد الملاك أصبح المقهى مهدداً بالهدم، وهو الذي رفض عروض الهدم لكي يحافظ على تراث وتاريخ المدينة ووسطها ومحمولاتها الثقافية.

من هنا لابد للدولة على أعلى مستوياتها أن تتخذ قراراً بنزع ملكية المبنى الأثري ـ أكثر من مئة عام ـ للمصلحة العامة على نحو ما تقوم به الدول الكبرى التي تعرف قيمة تراثها التاريخي والثقافي والمعماري، وكما قام جاك لانج وزير الثقافة الفرنسي في عهد ميتران بنزع ملكية مقهى الفوكيتس في الشانزلزيه لأن ملاكه الجدد حاولوا تحويله إلى معرض للسيارات.

المقاهي تمثّل أحد أبرز ملامح المدنية والمدينة الحديثة في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى القرن العشرين، وكانت جزءاً لا يتجزأ من عملية الخروج التاريخي من تشرنق الحارة المصرية والأحياء الشعبية إلى كسر أبوابها وانفتاحها على خارجها، وإنارتها ليلاً مع الحملة الفرنسية. المقاهي الشعبية، والمقاهي على النمط الفرنسي، شكّل بوادر تشكيل إحدى بؤر المجال العام الذي يتفاعل فيه الجمهور بعضه بعضا.

Email