بروفيسور الأعصاب العالمي نايف الروضان لـ«البيان»:

استدامة المجتمع بتوافر الكرامات التسع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعد الفيلسوف والمفكر السعودي البروفيسور نايف الروضان من أهم 30 عالم أعصاب تأثيراً في العالم، قادنا الحوار معه إلى دراساته المستقبلية العالمية، بما في ذلك مستقبل الحضارة العربية الإسلامية، ويسعى بجهدٍ راقٍ إلى توجيه الأنظار إلى تاريخ الإنسان دون استثناء، باتجاه الإرث المشترك في حلول المشكلات العالمية الحالية والمستقبلية أمنياً وسياسياً واقتصادياً، خاصة أنه يعمل بروفيسوراً في مركز «جنيف للسياسات الأمنية» في سويسرا وجامعة «أكسفورد» في بريطانيا، بعد أن تعلّم في «المايوكلينيك» وجامعة «ييل» وجامعة «هارفارد».

تتبعنا مسيرته الطويلة وتأليفه 20 كتاباً إلى جانب 200 بحث في السياسة والأمن والاستراتيجية، ليصبح نقاشنا معه عن الجوانب «الجيو-استراتيجية» و«الجيو-ثقافية» والتقنيات الاستراتيجية، وهو الخبير في الأمن العالمي المستدام في الأرض والفضاء الخارجي.

الإنسان

كتابك «العاطفة الأنانية غير الأخلاقية» الذي تستعرض فيه نظريتك الفلسفية العصبية في الطبيعة البشرية وآثارها في الأمن العالمي، هذا الكتاب الطموح في نطاقه، والقوي بحجته، وبشهادة كبار الأكاديميين في العالم.. وضح للقارئ هذه النظرية الجديدة بشكل مبسط.

رؤيتي الفلسفية عن النفس الإنسانية تكمن في: «الأنانية العاطفية اللاأخلاقية» ومكوناتها كما هي، وليست كما نعتقد أو نفترض أو نتمنى أن تكون، وإن أردنا أن نختصرها في أرقام محددة فهي كالتالي:

1- معظم الناس في معظم الأوقات هم: عاطفيون أكثر من كونهم عقلانيين (دون إنكار وجود وأهمية العقلانية في التصرفات).

2- معظم الناس في معظم الأوقات هم (أنانيون) والمحرك الأساسي (وليس الكلي) للسلوك الإنساني هو الأنانية والمصلحة الشخصية، التي تقع فوق كل الاعتبارات، خاصة في أوقات القلق والخوف وانعدام الأمن والسلامة والكرامة.

3- معظم الناس في معظم الأوقات هم (بلا أخلاق)، بمعنى أنهم لا يتصرفون تلقائياً بأخلاق ولا بلا أخلاق، وإنما أخلاق معظمهم متقلبة ومرنة، وتتأثر بالتربية والقيم الأسرية والاجتماعية، وأيضاً تتأقلم مع الروادع والمحفزات الاجتماعية.

نظرية الطبيعة البشرية

البروفيسور نايف الروضان والعالم في علم الأعصاب، نظريتك في الطبيعة البشرية تتحدى وجهات نظر بعض الفلاسفة أمثال جان جاك روسو، خاصة بعد أن وضعت أساسيات لنهج واقعي ومتقدم، فيما يتعلق بـ«البوصلة الأخلاقية الاجتماعية»، في كيفية تأثير أخلاق الفرد ضمن النطاق الاجتماعي.. ماذا تقول عن هذا الأمر؟

الإنسان ليس بالضرورة كائناً جيداً نبيلاً، كما يعتقد الفيلسوف السويسري الفرنسي «روسو»، ولا بالضرورة شيئاً مدمراً، كما يعتقد الفيلسوف الإنجليزي «هوبز»، وإنما هو قادر في أي لحظة على أن يتصرف في أي اتجاه بما تتحكم فيه قيمه التربوية الأسرية، ومصلحته المادية والعاطفية، ومدى فعالية وتأثير وحزم ومرونة وشفافية الأنظمة القانونية العادلة والرادعة والمحفزة في مجتمعه.

الضغط على زر الخوف

من الطبيعي أن نشعر بالخوف/‏‏ لكننا لا نعلم ما هو المحك.. حدثنا عنا نحن البشر وشعورنا القديم والبدائي المتمثل بالخوف، الذي أصبح من طبيعتنا العصبية والسلوكية، وكيف سيطر المسيطرون على مجرى التاريخ بالتحكم بجميع مخاوفنا في الضغط على زر الخوف هذا، وهو عضو صغير جداً كما ذكرت في نظريتك، يسمى اللوزة العصبية أو الدماغية في الدماغ؟

لم يستعمل كل القادة في التاريخ الخوف أداةً للتحكم، فهذه محصورة على نوع معيّن من القادة الجهلة الضعفاء عديمي المصداقية والأخلاق والقيم، أولئك الذين يعملون على الانقسام والتناحر والفوضى والظلم والقسوة، وإثارة نزوات الخوف ونبذ الآخر على أسس عرقية أو عقائدية، خاصة في المجتمعات الفوضوية التي تفتقد القيم والشيم والضوابط الأخلاقية التاريخية والعقد الاجتماعي العادل والترابط الاجتماعي.

تاريخ مُستدام

إلى أين وصلت بعد نظريتك عن العصبية الكيميائية القائمة على الطبيعة البشرية، خاصة أن هذه الفرضيات، التي تخص سلوك الإنسان الأخلاقي، تتعارض مع العقل الذي يشاهد الحرمان والظلم وعدم المساواة؟

نظريتي عن الطبيعة البشرية التي انبثقت منها نظريتي الأخرى عن فلسفة التاريخ، وهي «نظرية التاريخ المستدام وكرامة الإنسان»، تذكر أن المحرك الأساسي للتاريخ المستدام المسالم المتطور والمزدهر، هي «ضمان كرامة كل الناس في كل الأوقات وتحت كل الظروف»، فأي مجتمع يهمل قدسية الكرامة لمواطنيه أو جيرانه أو للمجتمع الدولي محكوم عليه بالاضطرابات والمشكلات والمحن.

وفي نظريتي «الفلسفية التاريخية»، لم أقصد بالكرامة غياب الإهانة فقط، وإنما الكرامة بمفهومي «النيورو - فلسفي» التي تتكون من 9 ثوابت، وهي: المنطق، العدل، حقوق الإنسان، الأمن، الشفافية، المحاسبة، الفرص، الاحتواء، الابتكار. هذه الثوابت تضمن لأي مجتمع الاستدامة مهما كانت أساليب الحكم فيه. إن توافرت هذه الكرامات التسع فإن المجتمع سيكون مستداماً، ثابتاً، متقدماً، مزدهراً، سعيداً، قوياً، متصالحاً مع نفسه ومع الآخر خارج حدوده.

فكر إنساني

بين الفكر الفلسفي والفلسفة العصبية، وبين السلوك الكيميائي وعلم الأعصاب.. تتزاوج هذه المجالات في نظرياتك العلمية التي تربطها بالطبيعة البشرية والسياسات والمجتمعات.. هل لك أن تحدثنا وتضيء لنا طريقة التزاوج بين كل ذلك؟

الفكر الإنساني كان دوماً يستند إلى اجتهادات فكرية عبر التاريخ من مفكرين ملهمين، وفي معظم الأحيان أفكارهم ترى جوانب معينة بدقة وإبداع وتهمل أخرى، ولكنها تبقى افتراضية، أما حالياً فإن التقدم الهائل في العلوم النظرية وخاصة في معرفة دواخل النفس البشرية بالدراسات النيورو-بيولوجية والنيورو-تقنية للجهاز العصبي، تحت ظروف معينة مكّنتنا من بعض الاستنتاجات التي قد تكون أكثر دقة وملاءمة للتنظير الاجتماعي والسياسي والأمني، من أجل مجتمعات أكثر كرامة وأمناً وسلاماً وتعايشاً وعدلاً وازدهاراً.

رواية التاريخ

كيف تنظر إلى الروايات التاريخية، وكيف يجب أن تنتقل قيمتها العلمية من الماضي إلى المستقبل، وما الطريقة التي علينا أن نستوعب بها القضايا التاريخية الثقافية حتى نرتكز عليها الآن، من خلال ثقافتنا العالمية، وفي هذا المناخ السياسي المفتوح؟

الروايات التاريخية مهمة لما لها من خبرات وعبر، ولكن مهم أيضاً معرفة أن رواية التاريخ ليست دوماً دقيقة أو موضوعية إما إيجاباً أو سلباً، فهناك أسباب كثيرة لتلميع بعض الجوانب التاريخية أو إهمالها، وعلى الرغم من أن الدقة مهمة، فإن هذا لا يسبب الخطورة نفسها التي تكمن في التشويه المتعمد والممنهج لجوانب معيّنة من تاريخ الآخر، بغرض التقليل من شأن الآخر لإضعافه وإفقاده الثقة بنفسه وبإرثه التاريخي، لتسهيل تفكيكه وتهميشه والهيمنة عليه.والتاريخ العربي الإسلامي هو خير مثال لذلك التشويه المتعمد من بعض أبنائه ومن الآخر، وتهميش دوره التنويري المحوري في الفكر والعدل والتعايش الإنساني عموماً والنهضة الأوروبية خصوصاً (عن طريق الأندلس وصقلية)، وذلك إما لجهل، أو لأهداف جيوسياسية، وجيوثقافية.

ثقافة مُستنيرة

هل تعتقد أن المؤسسات الثقافية في الدول العربية ما زالت مؤسسات عاطفية بموظفيها النرجسيين أمام المؤسسات العلمية والعملية الأخرى بموظفيها من العقول الأكاديمية؟

هناك جهود كثيرة يشكر القائمون عليها، ولكن هناك الكثير يجب أن يخطط له وينفذ بأسرع وقت ممكن من تخطيط متقن من أهل الخبرة المحلية والعالمية، وتمويل مستدام (مثلاً عن طريق الأوقاف)، ودعم سياسي وثقافي، وتذليل للبيروقراطية، وتطوير نظم حوكمة شفافة وعادلة ومتقنة لهذه المؤسسات لمنع التحجر والاحتكار، وأيضاً السماح بأفكار طموحة متجددة، متفاعلة محلياً ودولياً لتبادل الخبرات والتطور، ولا بأس أن تكون بعضها نظرية بحتة، لأن هذا مهم، والبعض الآخر يمس كل الجوانب العملية والتطبيقية للمجتمعات سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً.. إلخ. كما أن الاهتمام والإغداق المؤسسي والمادي للأبحاث العلمية التطويرية أمر عاجل جداً ومحوري في سبيل نجاح وتفوق المجتمعات.

معرفة عميقة

أنت جراح في علم الأعصاب وفيلسوف لديك نظريات حول السلوك البشري ونظريات أخرى حول فلسفة التاريخ وتقنية وأمن الفضاء الخارجي و«الجيو-استراتيجية» والأمن العالمي المستدام، لكن الجميل أنك أعلنت يوماً بأنك تحب فنون العمارة مثلاً.. حدثنا عن اهتماماتك الفكرية الأخرى؟

ذكرت سابقاً أن الفكر لا يتجزأ، وأنا أحب المعرفة بكل جوانبها، وكلما ازدادت معرفتي أدركت دون أدنى شك أنني ما زلت أجهل الكثير. أصنف نفسي بأنني بدوي تائه متأصل القيم والشيم التي يفخر ويتفاخر بها.

سليل إرث تاريخي عربي إسلامي عبقري تنويري فريد كان في ذروة المجد لأكثر من ألف عام بالفكر والعدل والتعايش، ويحترم كل الإبداعات الثقافية والحضارية الأخرى أياً كان مصدرها وجغرافيتها وتاريخها.

ولأن المعرفة العميقة ليست سهلة أبداً، وليست شهادات ومعلومات وبحوثاً ومنشورات ومقالات وكتباً، وإنما إدراك وتمعّن وإبداع وابتكار، وهذا يحتاج إلى وقت طويل من الجهد والجلد والتأمل والمقارنة والتطبيق والشجاعة الأخلاقية والمعرفية بمراجعة وإعادة النظر عندما يتعمق الإدراك أو الاستنتاج، وتثبت الخبرة والتجارب وتتجلى الحقيقة العلمية الممنهجة.

وأنا على يقين بأن عالمنا الخليجي العربي الإسلامي يملك كل مقومات الإبداع الحضاري مرة أخرى بالفكر والعدل والتعايش واحترام الآخر والأخذ منه، كما فعل أسلافنا من دون إفراط أو تفريط، مع الحفاظ على قيمنا وشيمنا التي أثبت التاريخ تميزها وعبقريتها وملاءمتها لكل زمان ومكان.

وعدا الفكر الإنساني العام، أهتم كثيراً بالتاريخ العربي الإسلامي ومقومات شموخه وأسباب ضعفه، وخصوصاً التاريخ الأندلسي من شعر وعمارة وأخلاقيات وتعايش وإبداع، والعمارة العربية الإسلامية لجمالها ودقة إبداعها، والخيول العربية الأصيلة، والصحراء وجمالها وشموخها وما تحوي من قصص نبل وأنفة ومجد.

جائزة «نايف الروضان»

كيف تم تأسيس جائزتك القديرة «جائزة نايف الروضان للتفاهم الثقافي العالمي» التي تقدر العقول والأصوات الذكية والمدروسة والمتسامحة في المناخات العلمية؟

الفكرة نبعت من إدراكي بتجاهل الأدوار الحضارية والثقافية لكثير من الأمم والمجتمعات في نسج الإرث التاريخي الإنساني الشمولي، بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية، وأدركت أن بعضه يأتي من جهل، وبعضه جزء من توجه قديم ممنهج له جذور تنافسية تاريخية وأيديولوجية وسياسية وثقافية واقتصادية، كما أنني كنت على يقين أن الأمن والسلم العالميين يتطلبان الاعتراف بأهمية كل الحضارات في التاريخ الإنساني دون استثناء، والعمل على تطبيق هذا الإرث المشترك في حلول المشكلات العالمية الحالية والمستقبلية أمنياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، لأن هذا يزيد من الثقة بين الدول والأعراق والثقافات التي هي مهمة جداً إن أردنا مستقبلاً عالمياً يسوده الأمن والسلم والتعاون والازدهار.

Email