حمدة خميس لـ«البيان»: روح الحضارات تسري في لغتنا الخالدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

علاقة حب تصل إلى درجة العشق تلك التي جمعت الكاتبة الإماراتية حمدة خميس بالقلم؛ فهو المترجم الأمين لآفاق أفكارها، واللسان الناطق بمكنونات نفسها.. كاتبة وباحثة وشاعرة امتدت خبراتها لسنين مضت، وأدركت قامات أدبية وثقافية يشار إليها بالبنان، وتفخر بها دولة الإمارات.

فكانت حصيلتها المعرفية معيناً عذباً من الآداب والمعارف التي جادت بالحديث عنها في حوارها مع «البيان»، الذي تحدثت فيه عن كتابها «سلطة البلاغة في الخطاب العربي» الصادر أخيراً، وهو عبارة عن دراسة مهمة ومفيدة لجميع فئات القراء، إذ يشكّل دراسة لغوية تطبيقية : "applied linguistic "، تعتمد منهجية تحليل الخطاب.

وقد أكدت حمدة في حوارها مع "البيان"، أن وهج الروح الذي سكن الحضارات القديمة، التي انحدرت من سلالتها اللغة العربية، قد انسل منها إلى بعض أساليب وتراكيب لغتنا الخالدة، وتضمنت خصائصها الاجتماعية، كحافظ ومبلغ، ممثلاً في سطوة البلاغة، وأسرارها، كما في سطوة التداول وطرائقه.. وقبل بداية الحوار توقفنا معها، عند إحدى الفقرات الواردة في الكتاب ضمن العنوان التالي «اللغة في الأدب بوصفها مؤرخاً» حيث تبدو الكاتبة كما لو أنها ترد على سؤالنا حول أوضاع اللغة العربية ومستجداتها، وعن مدى كوننا نمر حقيقة، بأزمة لغوية حادة في هذه المرحلة من التاريخ؟

من أين جاءتك فكرة كتابك «سلطة البلاغة في الخطاب العربي»، وهل أنه يمثل أول عمل بحثي لغوي؟

فكرة كتابة عمل بحثي يتعلق بجانب من جوانب اللغة هي في واقع الأمر فكرة قديمة ظلت تراودني فترة طويلة من الوقت، وبخاصة عندما يكون الإنسان كاتباً ولديه اهتمام أحسبه كبيراً بالأدب والإبداع الأدبي.

كذلك أقول إنها كانت ترافقني باستمرار، وقد جاءتني بعد حضوري العديد من المنتديات الثقافية في الكثير من الدول الخليجية والعربية؛ والتي استوقفتني فيها كثرة الأخطاء التي يقع فيها المحاضر في الصياغات والاستعمالات اللغوية فيما يلقيه حول أي موضوع ثقافي أو معرفي اقتصادي أو سياسي... إلى غير ذلك من المحاضرات التي تلقى في الندوات المختلفة.

والأمر الآخر الذي يعتبر من الأهمية بمكان، أن على كل من يقرأ الكتب المترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية أن يقف على أمور مهمة تتعلق بلغتنا وجمالياتها وأساليبها الراقية في التعبير عن المعاني، كي يستفيد من قراءته لتلك الآداب التي تجعلنا نخوض في تجارب الآخرين ونتعرف ثقافاتهم، فالأدب المترجم، أعني الترجمة الإبداعية، في الواقع مصدر إلهام بالنسبة للمتلقي.

وتتلخص فكرة الدراسة في أنه قد لفت انتباهي أن الجمل الاستهلالية في اللغة العربية هي جمل متداولة، راسخة، يشيع استخدامها بين الخاصة والعامة... نفتتح بها الحديث أو الخطاب بالفصحى، وهي التي ذكرتها في دراستي للتأكيد بعد البحث على أنها توحي للمستمع برفض المناقشة والاختلاف مع مضمون شيء كالمحاضرة مثلاً، دون أن ينتبه المحاضر، أو المترجم، في حالة الكتب المترجمة، إلى هذا الإيحاء الضمني.

سلطة اللغة

- ولكن ما هي مسوغات القيام بهذه الدراسة والفرضية التي تستند إليها بالنسبة لك شخصياً وبالنسبة لنا نحن على مستوى الإنسان العادي؟

كما ذكرت آنفاً، فإن الانتباه إلى بعض الممارسات، لاسيما على مستوى المحاضرات والفعاليات خاصة الأدبية التي يحضرها الجمهور، هو ما يشكل المسوغ الذي دفعني إلى كتابة هذه الدراسة وتضمينها المفهوم الإيحائي لما نسمع ونقرأ، بغية أن ينتبه المتلقي أو القارئ إلى الدلالة الخفية لسلطة اللغة التي لا ينتبه إليها الكاتب أو المؤلف أو المترجم عادة.

- لفتت انتباهنا أشياء كثيرة في بحثك، من الممكن القول بأنها المنهجية أولاً، وهي كما عبرت عنها بقولك: «الاستقراء الدلالي وتأمل ما توحي به اللغة والمفردات، أو ما تسمينه التفسير الدلالي الإيحائي باستعارة مفهوم التفسير من المعجم ومفهوم الإيحاء من علم النفس»، كما لفتت انتباهنا مراجعك القديمة، ومنها كتب الجاحظ، والحديثة، خاصة اللغوية التي استخدمتها من أجل الفائدة القصوى للقارئ العادي خاصة، كيف تشرحين لنا هذا؟

أما بالنسبة للمصادر فقد استعنت بما رأيت في قراءته ما يفي بغايتي من البحث، وهو بالتأكيد ما ورد على سبيل المثال في الجزء الخاص بالأسلوب بوصفه وظيفة اجتماعية؛ فكل ظاهرة أسلوبية في الكلام تحقق وظائف اجتماعية، كما أن كل ظاهرة أسلوبية هي من بعض الوجوه موقف واختيارات، واللغة لا يمكن أن تُشرح بمعزل عن سائر اختيارات الحياة.

- ثمة عبارتان وردتا في الكتاب تبدوان بمثابة السؤال الذي يدور حول ضرورة التغيير وبسرعة أيضاً، وكأنك تطالبين بضرورة أن يحدث التغيير أولاً في دلالات اللغة التقليدية، لغة التداول الاجتماعي اليومي، «الصيغ المحصنة بأساليب المناهج التعليمية، والتي بات علينا أن نتمثلها، ونعيدها كما في لغتنا التعبيرية عبر كل الأزمنة، دون أن نعيد النظر في صنع تلك «الصنعة»... وفق متغيرات أفكارنا على الأقل... وثقافتنا ومواقفنا من ذاتنا والعالم»، أسأل هل هذا الفهم صحيح؟

نعم صحيح، فالانتباه لكل ما نقرأ ونتداول هو سر التطور والتغيير والإبداع. وإذا بقينا على ما تعوّدنا عليه فلن نغير ولن نتغير، وإذا سلمنا بما سبق لم نجرب ونبدع ونتطور! ولنتأمل ما يقوله د. مصطفى ناصيف، من أن البلاغة عاشت على أساس واضح: «الكلمة عبارة عن مجموعة مقررة من الإمكانيات، أمكن تسجيلها في تعريفات وافتراضات ثابتة، وهي البلاغة... وعلم البلاغة يَفترض أن الكلمة التي تواجهنا قد عرفناها من قبل...».

فالمسألة في واقع الأمر لا تكمن في المفردة؛ إذ أن القواعد الكامنة في البلاغة هي «الصنعة»، وهذه الصنعة في البلاغة هي التي يمتحن فيها طلاب اللغة العربية في أعلى مراحل التحصيل العلمي، والتي لقنوا إياها منذ مراحل الابتدائية - بتدرج - عبر مناهج اللغة وعبر دروس الإنشاء والتعبير، بل عبر كل وسائل التعامل بالفصحى.

مصادرة خفية

- أسميتِ «الجمل الاستهلالية» بصيغ البلاغة المستبدة، وهي صيغ جاهزة، وعلى سبيل الفكاهة أسألك: لو كان بيدك هل تصادرينها؟

لقد لاحظت أن هذه الجمل الاستهلالية تشي بالمصادرة الخفية لرأي المتلقي، وعلى سبيل المثال: المحاضر الذي يبدأ بجملة «مما لا شك فيه»، والكاتب الذي يستخدم جملاً مثل «ولا جدال في أن»، و«من المؤكد أن»... هذه الجمل تدفعك للسؤال: من ذلك أو أولئك الذين لم يشكّوا في قول لم يسمعوه بعد؟! وقد حلَّلتُ تلك العبارات وفق معجم لسان العرب كما ورد في دراستي.

إن الكاتب أو المتحدث، وهو يقوم بذلك، يقطع على القارئ أو المستمع محاولة الشك في كلامه بجملة بسيطة في تركيبها اللغوي، ومألوفة في تداولها إلى الحد الذي تبدو معه أنها لا تعني شيئاً على الإطلاق، فهي جمل اعتاد الناس على استعمالها دون الاهتمام بما تتضمنه من دلالات وإيحاءات، وما يكمن وراءها من تعسف.

كما أنها صيغ ذات دلالات ثابتة بسبب ما تولده كلماتها والإشارات المكونة فيها من علاقات تعبيرية ذات محتوى اجتماعي. كما أن هذه الجمل من ناحية تحيل المستمع والقارئ إلى مصدر مجهول غير قابل للطعن، ومن جانب آخر، فإنها تهيِّئ المستمع أو القارئ للتسليم بمصداقية الموضوع، بمعنى ثانٍ، إنني أقول للقارئ ضمناً: إن الموضوع الذي سوف أتحدث فيه هو من الموضوعات التي لم يشك فيها أحد!

اللغة وعلم النفس

- الأسلوب بوصفه وظيفة اجتماعية، له شرح وافٍ قد يدخل فيه علم اللغة الاجتماعي رغم أنك اعتمدت علم اللغة النفسي كما أتصور، هل هذا صحيح؟

أجل، ولعلك لم تنتبهي جيداً إلى أنني حللت الجمل بعلم اللغة الاجتماعي والنفسي، وهو علم ضروري، وله أدواته المفيدة في تقصي الحقائق ولاسيما فيما يتعلق باللغة، إذ لا يمكنني إهمال علم اللغة الاجتماعي طالما أن الدراسة تركز على موضوع اللغة والتواصل، وهو ذاته هدف علم اللغة الاجتماعي، الذي يحاول استكشاف القوانين والمعايير الاجتماعية وتنظيم سلوك الأفراد المتعلق باستخدام اللغة في المجتمع لقياس التأثير المتبادل بين اللغة والمجتمع.

- هل معنى هذا أنك توجهين نقداً من نوع ما للندوات والمحاضرات، بغالبيتها، وترينها في الغالب مجاملات اجتماعية؟

لا ليس هذا ما قصدتُ، بل قصدت أن ينتبه المحاضر في الندوة إلى أن من حق المتلقي مناقشة القول الذي يسمعه ويبدي اعتراضه على ما لا يتفق مع غايته.

- أنت تنتقدين الحداثة في مشروعها الثقافي، كما تنتقدين في الجهة المقابلة المنهج والفكر المتشدد، فأيهما الأكثر خطورة برأيك؟

الأكثر خطورة بالطبع هو الفكر المتشدد، بكل معانيه وتجلياته وحضوره. فالواقع والوقائع تشهد على ذلك.

إبداع مكتسب

- نعرفك على المستوى العربي بمكانتك في المشهد الشعري الحديث، وأنت معروفة بالتأكيد عالمياً عبر ترجمة أعمالك إلى اللغات الأخرى، فما هو الشيء الذي ألهمك لتصبحي شاعرة رقيقة شفافة إلى هذا الحد؟

ليست هناك معرفة علمية «جينية» أو اجتماعية، أو سيكولوجية تجعل من إنسان ما مبدعاً شعرياً أو تشكيلياً، أو أي نوع من أنواع الإبداع. بالنسبة لي كنت في المرحلة الابتدائية والثانوية أعتقد أنني سأكون مؤلفة مسرحية، ولكن المفاجأة حدثت بعدما التحقت بالجامعة، في بغداد، بدأت بكتابة نصوص شعرية لا أعرف مصدر إلهامها، ولعل قراءتي للشعر منذ الطفولة الباكرة غرست في نفسي حب الشعر فاختارني واخترته.

- ولمن تقرأين من الشعراء؟

أقرأ كل ديوان يقع بين يدي، فإذا لفتت قصائده انتباهي أكملت قراءته، وقد لا أكمله إن لم أجد فيه ما يوقظ خيالي ويمتعني.

- والقادم في نتاجاتك الإبداعية.. ما هو؟

القادم كثير، شعراً ومسرحاً ورواية وتأملات فلسفية ودراسات وقصص أطفال... وكلها نتاجات تنتظر تنسيقها وتجميعها ونشرها. ولأن من طبعي السيئ أنني لا أحب العودة إلى ما كتبت سابقاً وتدقيقه وتنسيقه... إلى غير ذلك مما تقتضيه عملية النشر، فإنها متراكمة على سطح الكمبيوتر والأوراق، فيما أعد نفسي في كل يوم أن أوظف سكرتيرة تجمع وتنسق وتتابع، فلا أجد المؤهلات اللازمة لعمل ذلك.

إضاءة

حمدة خميس. شاعرة وأديبة إماراتية، عضو مؤسس في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات. عضو أسرة "كتاب وأدباء البحرين". تعد من أهم رموز الحداثة الشعرية المعاصرة. من أعمالها؛ في الشعر: «اعتذار للطفولة»، «الترانيم»، «مسارات»، «عزلة الرمان»، «في بهو النساء»، «طوق الغواية»، «نقش في السديم»، «إذا ما قلت لا أدري». وفي السرد: «في مديح الحب»، «تأملات فلسفية»، «زغب البحر»، «سلطة البلاغة في الخطاب الأدبي» (دراسة لغوية).

طرح دقيق بمفردات «سلطة البلاغة في الخطاب العربي»

اعتبارات متنوعة ونقاط رئيسية كثيرة، تصوغ وتشكل ملامح أهمية كتاب بحثي لغوي معمق مثل «سلطة البلاغة في الخطاب العربي»، منها أنه دراسة تحليلية لغوية متخصصة ربما هي من الأعمال القليلة التي تصدر في دولة الإمارات العربية المتحدة وفي العالم العربي، على هذا المستوى من الدقة والوضوح وسهولة الوصول إلى القارئ العادي، وذلك طبعا رغم الحجم الصغير الذي يشبه الكتيب.

هذا أولاً، وثانياً ، فإن الكتاب يعد دراسة تفصيلية تلقي الضوء على جزئية مهمة في اللغة باستخدام منهج واضح ومحدد أيضاً، هو ما يعرف في علم اللغة بتحليل الخطاب أو تحليل النص، ليبقى هنا أن هذا الكتاب، هو دراسة مهمة ومفيدة بالنسبة لدارسي اللغة العربية وآدابها واللسانيات من طلاب الجامعات المقبلين على البحث والباحثين بوجه عام، من جهة، وللقارئ العادي غير المتخصص، من جهة أخرى.

جمود الخطاب يعيق اندماج العرب في الحياة

يأتي الاهتمام بكتاب «سلطة البلاغة في الخطاب العربي»، تأليف الشاعرة والكاتبة الإماراتية حمدة خميس، ومن إصدارات «اتحاد كتاب وأدباء الإمارات» و«مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون 2018»، في وقت تزداد فيه الحاجة إلى دراسة اللغة العربية، لدورها في النهوض بالمستوى المعرفي والثقافي لمجتمعاتنا العربية.

والكتاب عبارة عن دراسة تتألف من 11 جزءاً، يأتي جميعها في قالب تطبيقي يخدم السؤال الرئيسي الذي قد يدور في ذهن القارئ المهتم بلغته العربية، وهو: هل يبقى جمود الخطاب العربي، في القواعد النحوية والدلالية والبلاغية، معوقاً أمام اندماج مستخدميها في الحياة؟ سؤال ربما أجابت عنه المؤلفة على لسان الشاعر المغربي محمد بنيس الذي يرى ضرورة أن تساير اللغة العربية متطلبات العصر واختراعاته، بقوله «لا معنى لذلك سوى جعل العربية لغة لزماننا».

شبكة تعبير عن تصوّر خاص للعالم

"اللغة ليست مجرد تشكيل رمزي لمقاطع صوتية، كونت نظاماً اصطلاحياً يصف الأشياء من حولنا، كما يصف حركتنا وأفعالنا بحياد بارد؛ وهي ليست تلك الأبجدية التي اختزل بها الكنعانيون الكتابة الهيروغليفية.

كما أنها ليست تلك الكلمات التي تتشكل منها الرموز الأبجدية المجردة خارج سياق منشئها ودلالتها. فاللغة كما يرى علماء الدراسات الإثنولوجية اللغوية: أداة مشكلة للواقع، تمفصل التصور إليه حسب مستعمليها، وتكوِّن في استخدامها شبكة تعبير عن تصور خاص للعالم.

ثم إن اللغة ميراث حضاري وتاريخي بأكمله، في جوانبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ولأنها دائمة الانتقال عبر كل الحلقات التاريخية لأية مجموعة بشرية، فإنها الشكل الأكثر كفاءة وفرادة في حمل الموروث الكلي وجعله معاشاً في تضاعيف الواقع اليومي".

Email