عبد العزيز بن سعود البابطين لـ«البيان»:

الثقافة تستحق البذل ورسالتها ترتقي بالحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يستثمر الشاعر الكويتي عبد العزيز بن سعود البابطين في ماله ووقته لعوالم الشعر الداخلية المشبعة بالحلم، ليغير هذا العالم الجريح إلى السلام العادل من خلال شعلة القصيدة، ويحقق كينونته في هذا الميدان من خلال مؤسسته العريقة، مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، فيتبنى الجوائز للشعراء والندوات والمهرجانات والإصدارات.. ليدعو القصائد العربية بأسرارها العاشقة ويقدمها للعالم، فكان لـ«البيان» معه هذا الحوار بمناسبة مهرجان ربيع الشعر العربي في موسمه الحادي عشر، الذي نظم في الكويت أخيراً، حيث أكد أهمية الثقافة كمحور ارتكاز، لا تعيق مسيرته التحولات، مبيناً «رسالتنا الثقافية أقوى من قلقنا الاقتصادي، فالثقافة تستحق البذل لأننا إذا دعمنا الثقافة ارتقينا بكل وسائل الحياة الأخرى»، فإلى التفاصيل:

ملتقى في دبي

مؤسستك التي تعنى بالثقافة الشعرية أصبحت تكشف عن هوية المكان وتعزز انعكاسها على المجتمع لتصبح لها قيمة مكانية بعد الشكل المادي والاجتماعي. ماذا يقول عبد العزيز سعود البابطين عن استراتيجياته ولوائحه لهذا الصرح كي ينتصر للشعر والجمال؟

بداية أشكر لك ثقتك بالمؤسسة. وحقيقة فإننا نهتم بجغرافية «المكان الإنساني» الذي هو العالم كله، أي أننا نهتم بالإنسان أينما كان، وبالنسبة لنا فكل هذا الكوكب الذي نعيش فوقه هو رقعة جغرافية مفتوحة على بعضها إنسانياً بغض النظر عن الحدود الجغرافية والسياسية.

والشعر هو اللغة الموحدة لجميع سكان هذه الأرض، لذلك كانت انطلاقتنا من خلاله كي يسهل التخاطب بين الشعوب. وسبق أن أقمنا عندكم في دبي ملتقى «الشعر العالمي من أجل التعايش السلمي» عام 2011، كما أقمنا في أبوظبي دورة أحمد مشاري العدواني في سنة 1996، ووجهنا الدعوة إلى شعراء ومثقفين من مختلف أرجاء العالم.

وربما هذا يفسر لك بعض أهداف استراتيجية المؤسسة في الدخول من بوابة الشعر الذي بدأنا به رحلتنا منذ عام 1989 حيث كان الشعر يتعرض في السنوات التي قبلها إلى عواصف شديدة وتجارب مختلفة، بعض هذه التجارب كان ناجحاً وبعضها الآخر كاد أن يودي بالشعر إلى الهاوية.

وتمكنا بفضل الله ثم مؤازرة الشعراء المؤمنين برسالتنا الشعرية من تقديم ما بوسعنا ليبقى الشعر في مساره الصحيح جمالياً ولغوياً وما يحمله من رسائل إنسانية هادفة.

فبدأنا خطواتنا الأولى بعمل جائزة للشعر وندوات وملتقيات حوله، وكان المكان الذي تفضلتِ بالحديث عنه هاجسنا، فأصبحنا نقيم دورة باسم شاعر عربي ما في قُطر عربي آخر على سبيل دمج الأمكنة وإلغاء الحدود فيما بينها ثقافياً على الأقل.

واستمرت رسالتنا الشعرية منذ التأسيس، حتى لمسنا فعلياً تحولاً في السنوات الأخيرة وخصوصاً من خلال مهرجان ربيع الشعر الذي أنشأته المؤسسة قبل أحد عشر عاماً، فقد لاحظنا أن أجيالاً جديدة بدأت تعود إلى رونق الشعر وبلاغته وجمالياته، وتحقق في الوقت نفسه رسالة الشعر الحقيقية المتمثلة في تهذيب النفس البشرية والارتقاء بها ونشر السلام.

 

السلام العادل

أعلنتم بأنكم ستعقدون منتدى البابطين العالمي للسلام في يونيو العام المقبل 2019 وتؤكدون بأنه ليس السلام فقط بل السلام العادل. هل لكم أن تحدثونا عن هذا المنتدى المشرف؟

نحن لا نزال في طور التحضير والتجهيز والتواصل مع أصحاب القرار والمعنيين بالسلام في مختلف أنحاء العالم، وسنعلن عن تفاصيله حين نتوصل إلى صيغة نهائية بإذن الله، أما عن مصطلح السلام العادل، فهذه ملاحظة ذكية منك، وفعلاً أركز أنا على هذا المصطلح، لأن السلام ي يكون من طرف على حساب آخر، ولا من طرف قوي يُملي إرادته على طرف ضعيف، والجميع معني بالسلام، لأن الحروب كما الإرهاب ليس لها موطن ولا ترتبط بدين، وهناك أشكال متعددة من الحروب والإرهاب، بعضها يمارسه أفراد والآخر ربما تمارسه دول، لذلك فعملية القضاء على الحروب والجلوس على طاولات السلام يجب أن يكون الند للند، والمثل بالمثل، فنحن لا نقبل أن يلتصق مفهوم الإرهاب بالعرب أو المسلمين، فهناك ممارسات خاطئة من قبل الجميع تؤدي إلى الحروب والإرهاب، وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك من ضرب لبرجي التجارة، لم يكن عملاً إسلامياً، بل هو تشابك مصالح لا يوجد لها تفسير حتى الآن، وإن كان مَن قام به أفراد من العرب، إلا أن هذا لا ينساق على كل العرب، لذلك فكّرنا في المؤسسة منذ ذاك التاريخ بفتح مسار آخر للمؤسسة غير الشعر يتمثل في نشر السلام، وقد بدأنا ذلك فعلياً خطواتنا الأولى في هذا المضمار عام 2004 بالأندلس في إسبانيا، حيث كان العرب يقدمون للعالم نموذجاً ناصعاً من التعايش والتسامح الديني والعرقي، ثم أكملت راحلتنا مسيرها في أكثر من بلد غربي مثل باريس والبوسنة وبلجيكا وبريطانيا.

لذلك فالمؤتمر الذي تفضلتِ بالسؤال عنه، هو امتداد لتلك الخطوات التي أصبحت في السنتين الأخيرتين من عمر المؤسسة أكثر رسوخاً حيث خاطبنا العالم من منابر الأمم المتحدة وتقدمنا بمقترحات فعلية من أجل تدريس ثقافة السلام في مختلف دول العالم كون الجميع كما قلتُ معني بالسلام.

عذوبة الشعر

المؤسسات الثقافية عادة لها مهاراتها الخاصة، لأن عيونها في التقاط دائم للموهوبين الجدد، تأتي كمساعدة وفرصة للإبراز والتمرين للاسترشاد، فهل ما تفعله مؤسستك أتى من باب حبك للشعر أم أنها درجة وعي ومسؤولية عالية، أم...؟

قدمت المؤسسة للشباب فرصاً كثيرة، آخرها استحداث جائزة باسمهم لأفضل ديوان وأفضل قصيدة، إلى جانب أننا نوجه الدعوات لهم لإحياء أمسيات شعرية في مهرجان ربيع الشعر العربي الذي تقيمه المؤسسة في شهر مارس من كل عام، بما يتيح لهؤلاء الشباب مجالا للاحتكاك مع شعراء مخضرمين، والظهور للجمهور.

لقد كنت منذ صغري مولعاً بالشعر، أهتم به وبالجلوس إلى شعراء كانوا يرتادون ديوان شقيقي الأكبر عبداللطيف، فتأثرت بعذوبة الشعر منذ طفولتي قبل أن تتفتح مداركي آنذاك على رسالة الشعر وأهميته من الناحية الإنسانية، فقد كان الإعجاب أولاً بمذاق القصيدة وجماليات المعنى والإيقاع الساحر، ولكن حين قررت إنشاء مؤسسة تعنى بالشعر، كان وعيي قد بدأ يتفتح على أن للشعر وظائف أخرى إلى جانب جمالياته، لذلك وضعنا بالتعاون مع كبار الأكاديميين والمتخصصين نظاماً داخلياً ولوائح وأهدافاً للمؤسسة بحيث تؤدي من خلال الشعر رسالة أوسع وأشمل وأكبر، وبالتأكيد لم نتكبد هذا العناء لأجل أن الشعر جميل فقط، بل لأن الشعر هو صانع للتاريخ، وموصلٌ لرسالات على درجة من الأهمية في الحياة الإنسانية، وكان احتفاؤنا بالشعراء الكبار من باب تشجيع الأجيال على القيام بإنجازات مماثلة، كون الشعر هو لغة الخطاب الأعمق والأكثر تأثيراً في وعي الجماهير.

الجرد السنوي

أن نستوعب السياق التاريخي للمجتمعات الزاهية في مجمل مجالاتها، فإنها تقوم بجرد سنوي لها على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، وهو أساس ضروري لتطوير وبناء موقع لمكانتها. فماذا يقول عبد العزيز البابطين عن الجرد الثقافي لمجتمعاتنا الخليجية بعد كل تلك السنوات؟

دعيني أولاً أقولها بمفهومي ورسالتي في الحياة، فهو «مجتمعنا الخليجي العربي» وليس مجتمعاتنا. فنحن في مجتمع واحد، عوامل الالتقاء فيه أكثر من عوامل الاختلاف. ولو نظرنا إلى الثوابت التاريخية المشتركة لوجدنا أن هناك تشابكاً في التاريخ الذي يؤدي بدوره إلى تشابك في المصير المستقبلي.

أما عن الجرد السنوي، فلدي نظرة واقعية في تفاؤلها، فمجتمعنا حقق قفزات كبيرة في عالم الاقتصاد والثقافة والسياسة، وأصبحنا مؤثرين في المشهد الدولي بشكل حقيقي.

وقد استفدنا حقيقة من ثرواتنا في تحقيق التطور التقني الهائل وإن كان الطموح أكبر من ذلك، أما ثقافياً، فيوجد في الخليج أكبر المؤسسات الثقافية الخاصة والحكومية، وهذه المؤسسات تقدم أكبر جوائز في العالم، وعندكم في الإمارات أمثلة كثيرة ونماذج واضحة للعيان عن هذه المؤسسات، ولديكم مبادرات عالمية للتشجيع على القراءة يقوم بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله. ومحطاتكم التلفزيونية تقدم الملايين للشعراء، ولدينا في الكويت نماذج كبرى وفي كل الخليج العربي.

أقدم كرسيّ للغة العربية

جامعة ليدن الهولندية العريقة والمتخصصة بالدراسات العربية، قامت بتأسيس مركز البابطين ليدن للثقافة العربية، ونحن نعلم بأن هذه الجامعة تضم أقدم كرسي للغة العربية في الجامعات الأوروبية كلها. تحدث لنا عن هذا التوزيع المفرح للمؤسسة؟

بدأت المؤسسة رحلتها في عالم الكراسي الجامعية للغة العربية وثقافتها منذ سنوات طويلة مضت، وكان ذلك من ضمن أهدافنا في تحقيق التعايش بين الشعوب كي يطلعوا على ثقافتنا العربية وما فيها من علوم وآداب عريقة وليس فيها دعوة للعنف أو الإرهاب، كما كان هدفنا تعزيز وجود اللغة العربية بين لغات العالم المتطور والسائدة بقوة حالياً.

فأنشأنا الكثير من الكراسي في جامعات الغرب، ومن ضمنها الكرسي الذي تفضلتِ بالحديث عنه، وهو يمنح شهادات عليا، وكل مناهجه تُدرس باللغة العربية ويعود تاريخ إنشاء الكرسي عندهم إلى عام 1613م أي أقدم من كرسي عبد العزيز سعود البابطين لوديان في جامعة أكسفورد الذي تأسس عام 1636م، وتولينا أيضاً دعمه قبل عامين تقريباً.

هذه الكراسي في مختلف أنحاء العالم تأتي أيضاً إلى جانب دورات تقيمها المؤسسة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من مختلف الشرائح الطلابية وغيرها.

برامج ورؤية

كما نرى بأن الثقافة في مؤسستك مدعومة وبقوة، وطابع الثقافة في المكان ضروري، وسؤالي هو ماذا عن المستقبل، هل من برامج ورؤية مدنية لتحقيق التوازن بين الثقافة المتأصلة والاقتصاد المتضارب، كي تعزز المكانة الثقافية أمام المناخ المتغير؟

كل ما تشاهدينه أو تقرئين عنه حول المؤسسة، هو دعم فردي إلى جانب المساندة المعنوية التي لا نستغني عنها سواء من المسؤولين أو قادة الفكر والمثقفين والإعلام في كل مكان. دعم معنوي ومؤازرة من أناس حبانا الله عز وجل بهم آمنوا برسالة المؤسسة فنشروها.

لذلك، فالمستقبل يتلخص بكلمتين بسيطتين بإمكانك مشاهدتها في قناة البابطين الثقافية وهما: «مستمرون بالعطاء». فبإذن الله تعالى لدينا برنامجنا الذي يمتد لسنوات مقبلة، سواء على صعيد الشعر أو نشر السلام العادل.

وعندما أنشأتُ المؤسسة كنت أعرف بأن الاقتصاد الذي تفضلت بالحديث عنه يتراوح بين مد وجزر، فهذا جزء من عملي الأساسي، ومع ذلك كانت رسالتنا الثقافية أقوى من قلقنا الاقتصادي، فالثقافة تستحق البذل لأننا إذا دعمنا الثقافة ارتقينا بكل وسائل الحياة الأخرى بما فيها الاقتصاد، واليوم كما تعلمين هناك مصطلح «السياحة الثقافية» لو تمكنا من تعزيزها فسوف تؤدي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية. نحن في النهاية نصنع أو نستكمل صناعة الحضارة، وأمام هذا الهدف لا حسابات أخرى من شأنها أن تعوق مسيرة البناء إن شاء الله.

إضاءة

عبد العزيز بن سعود البابطين، شاعر ورجل أعمال كويتي، له مجموعة من الدواوين الشعرية من ضمنها «بوح البوادي»، و«مسافر في القفار»، و«أغنيات الفيافي»، يترأس مجلس أمناء مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية في الكويت، التي ساهمت في إحياء تراث الشعر العربي، من خلال معاجمها المتعددة، كما نظمت مؤتمرات دولية للسلام والتعايش والحوار الحضاري.

Email