رواية «الجائحة» – الحلقة التاسعة عشرة (هل العلماء أهم من الفلاسفة؟ - الثلاثاء 21 أبريل 2020)

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال الحجر الذاتي، الذي فرضته سارة على عمر يوم 7 مارس، ولغاية 21 مارس 2020، تعرفت سارة إلى عمر بعمق أكبر، صفات وقدرات لم تكن تعرفها عنه، تفاجأت مثلاً أنه يجيد الطبخ، بل صُدمت بقدرته على اختراع وجبات نباتية لذيذة، لم تسمع بها من قبل، كان يُتقن إنجازها بسرعة خيالية.

وتحضير المائدة ودعوتها كل يوم، الواحدة ظهراً، لتناول وجبة وسلطات مذهلة في أفكارها. يحكي قصصاً لم يروِها من قبل، كيف عاش مع والده بعد وفاة أمه، لسنوات، يعتني به ويطهو ويقرأ له، حتى وفاة والده بسبب مرضى السكري والضغط، وكيف عاش وحيداً ليس له من الحياة سوى أصدقائه الذين أصبحوا أشقاءه، كان يريد أن يُعزيها دائماً، بصورة غير مُباشرة، أنها عاقر لا تُنجب، وأن الصديق المخلص، لا يختلف عن الابن والأخ والأب، ويقول: «رُبَّ أخٍ لك، لم تلدْهُ أمّك».

عشرات الكتب والأفكار تم تمحيصها ومناقشتها بين عمر وسارة أثناء الحجر، وتعلمت سارة خلالها، ما لم تتعلمه طيلة حياتها، تحدثا في كل شيء، في الفلسفة والفكر والأديان وعلوم الاجتماع والرسائل الكبرى التي أسست للفكر الإنساني، شرح لها التاريخ الإنساني منذ ظهر آدم وزوجته حواء حتى اليوم، كان يرسم مسار التاريخ بين خطوطه المختلفة، دينياً واجتماعياً وفكرياً، بدقة متناهية، ومع أنه ليس متديناً، لكنه كان يرى أن الأنبياء هم أعظم البشر.

وأن نوحاً وإبراهيم، عليهما السلام، قد أعادا التوازن والاحترام للعقل البشري، الذي كان يعبد الأصنا والشمس والقمر والنار والبشر، لكنه أيضاً كان يحترم الفلاسفة القدامى والمتأخرين، وكانت سارة تجادله في أن العلماء أهم من الفلاسفة، وأن توماس أديسون الذي اخترع الكهرباء، قد أضاء للعالم، في اختراع واحد، أكثر ما أضاء الفلاسفة جميعاً، في كتبهم وأفكارهم وهرطقاتهم، على مدى التاريخ، الذي تظنّ أنه قد يكون مزوراً ومحشواً بالأكاذيب.

وأن الدليل على ذلك، ما يحدث حالياً في كورونا، أن العالم قد انقسم إلى قسمين، منهم من يؤكد خروج فيروس كورونا عفوياً من سوق الحيوانات في ووهان، ومنهم من يؤكد خروجه مُصنّعاً من مختبر بيولوجي قريب من السوق، فتسأل: كيف لا يمكن الجزم، في موضوع كهذا، ونحن ما زلنا أحياء، نرى ونراقب كل شيء؟!؟

بالصدفة، وفي 22 مارس، علمت سارة أن عمر، قد خرج من البيت، يوم الخميس 19 مارس، وبعد نومها مبكرة، دون أن يقول لها، فأغلقت باب غرفتها ورفضت الحديث معه نهائياً، وقالت إنها قد توقفت عن حبه وعن التحدي، وبإمكانه الخروج متى يشاء، فوقف خلف الباب يعتذر لها ويطلب الصفح ويبرر خروجه للأهمية القصوى إلى مركز الدراسات لاجتماع مهم وطارئ وأنه كان حذراً جداً ويرتدي الكمامات والقفازات، لكن حججه الفارغة لم تقنعها، بل زادت من سخطها وجنونها، وقالت له إنّ شقيقتها نوال، كانت تقول ذات الكلام، وها هي مصابة بالفيروس، الذي ظنّت أنه لن يدخل أمريكا، فباتت أمريكا، في يوم واحد، أكثر دول العالم إصابة..!

لم يتمكن عمر من إرضاء سارة، فجلس يأكل وحيداً مضطرباً، ولكن حين سمعته يسعل سعالاً جافاً، خرجت من غرفتها بسرعة ووقفت على أعلى السلم وقالت: إذا كُنْتَ حذراً فلماذا تسعل الآن؟ قال: «سعلة عادية، وقفت لقمة في حلقي، تعالي وكلي معي، رجاء»، ففكرت لحظة، ثم قررت أن تصالحه شريطة إجراء الفحص، ثم الالتزام المطلق، فوافق دون تردد، وقال لها إنه سيفرض على نفسه حجراً ثانياً لمدة شهر إذا وافقت على العودة للتحدي، فنظرت إليه ولم تعطه جواباً..!

يوم الثلاثاء، 31 مارس 2020 كتبت سارة ضمن تقريرها «إن الإمارات قد أزاحت أمس الاثنين، الستار عن أكبر مختبر لفحص وتشخيص فيروس كورونا المستجد في العالم خارج الصين، والذي قامت شركة جي 42 الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية بالتعاون مع مجموعة بي. جي. آي الرائدة في حلول الجينوم.

حيث تم تأسيسه خلال 14 يوماً، حتى يصبح بالإمكان إجراء عشرات آلاف الاختبارات بتقنية تفاعل البوليمرز المتسلسل اللحظي»، وإن هذه المبادرة الإماراتية ـ تفتح الأبواب للتسريع في السيطرة على وباء كورونا، بعد سلسلة إجراءات اتخذتها حكومة الإمارات خلال الأيام الماضية، ومن ضمنها أن وزارة الصحة والهيئة الوطنية لإدارة الطوارئ والأزمات والكوارث في الإمارات، قررت اعتباراً من الأحد 22 مارس، إغلاق الشواطئ والحدائق والصالات الرياضية، لمدة أسبوعين قابلة للتجديد والتقييم، وإغلاق كافة المراكز التجارية ومنافذ التسوّق والأسواق المفتوحة لمدة أسبوعين قابلة للمراجعة والتقييم.

وإبقاء منافذ بيع المواد الغذائية والجمعيات التعاونية والبقالة والسوبرماركت والصيدليات مفتوحة أمام الجمهور، وأن المجلس الوطني للإعلام الإماراتي قد قرر وقف تداول الصحف والمجلات والمنشورات التسويقية الورقية اعتباراً من يوم الثلاثاء 24 مارس حتى إشعار آخر.

وأن وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية قامت باستحداث خدمة جديدة على موقع الوزارة تحمل اسم «تواجدي للمقيمين»، وهي خدمة مخصصة للمقيمين ممن لديهم إقامة سارية والمتواجدين خارج الدولة، حيث تعمل هذه الخدمة بهدف تسهيل وصولهم إلى الإمارات بأمان وسلامة في الحالات الطارئة. يمكن التسجيل في هذه الخدمة على موقع الوزارة الرسمي.

وأن طيران الإمارات أعلن عن تعليق كافة رحلات الركاب ابتداءً من يوم الأربعاء 25 مارس، وأن وزارة الداخلية أعلنت ضرورة التزام الجمهور عدم الخروج من المنازل إلا للضرورة أو لدواعي العمل فقط، وعلى ضرورة الالتزام بوضع كمامة الوجه والتجوال بالسيارات الشخصية كحد أقصى ثلاثة أشخاص بالسيارة دون النزول للأماكن العامة.

والمحافظة على مسافات آمنة عند الاختلاط العائلي والالتزام بالإجراءات الوقائية، وأن مجلس الوزراء الإماراتي قرر تمديد تصاريح الإقامة المنتهية من أول شهر مارس لمدة 3 أشهر، بهدف التسهيل على المقيمين داخل الدولة وإعفائهم من المخالفات المالية، وأن وزارة التربية والتعليم، أعلنت عن استمرار تطبيق نظام التعليم عن بعد حتى نهاية العام الدراسي 2019 - 2020 في جميع المؤسسات التعليمية والمدارس الحكومية والخاصة الإماراتية.

يوم الجمعة، 10 أبريل، وخلال منع التجول في دبي لإجراء عمليات التعقيم الوطني الشامل الذي انطلق في 4 أبريل، ويمنع خروج أي شخص من منزله، ويفرض غرامات وعقوبات صارمة لمن يخالف الأوامر.

ويستثني فقط الحاصلين على التصاريح المؤقتة، لمدة 3 ساعات، لمن يشاركون في صفوف خط الدفاع الأول، كما أطلقت عليهم الإمارات، لجميع من يكافحون كورونا ويمنعون انتشاره أو يشاركون في حملة التعقيم أو الأطباء والعاملين في المستشفيات والمراكز الطبية، ورجال الأمن، ومن لديهم عذر طارئ للخروج المؤقت، اتصلت بشرى، والدة منى في الثامنة مساء، وقالت إن منى في حالة صحية ونفسية يُرثى لها، حيث جاء سوزيان عصراً لرؤية نتالي.

فركبت معه في السيارة، وأغلقا الهواتف واختفيا، ولا تعلم ماذا تفعل، فطلبت سارة تصريحاً مؤقتاً، وذكرت فيه أنها صحفية، وأن هناك حالة طارئة لدى صديقتها مُنى، وشرحت الأمر بدقة، وعن التزامها بالكمامة والقفازات، فحصلت على التصريح، وذهبت بسرعة إلى شقة منى، وحاولت تطمينها، وأجرت من هناك، عدة اتصالات، مع الضابط غانم وشيخة اللذين وعداها بالمساعدة، بأي شكل، وتحدثا مع منى، وطمأناها، فودعتها، بسبب مدة التصريح، وغادرت وهي تفكر بها.

حين قطعت سارة الجسر، بين البرشاء والجميرا، نظرت إلى معشوقتها دبي، كانت صامتة تماماً، فرأتها لأول مرة، ومنذ دخلتها في العام 2003، دون سيارة واحدة، كانت دبي متألقة عالمياً في قوة نشاطها الاقتصادي والحركة الدؤوبة فيها، والإنجازات المتلاحقة على كل صعيد، فوقفت سارة على الجسر وحدها، لدقيقة، تأملت سارة دبي، في صمتها العميق الذي يستعد، بأعلى ما في الكون من درجات للاستعداد، لقهر هذا الفيروس، فرأتها مذهلة كلؤلؤة كبيرة مشعة متوهجة، قد خرجت للتو من البحر، لتضيء العالم.

عادت سارة إلى البيت، فلم تجد سيارة عمر، اتصلت على جواله، لم يجب، فانتظرته كما تنتظر الأم طفلها الذي خرج خلسة، وحين عاد لاهثاً، راح يعتذر ويشرح أنه اضطر للخروج لزيارة تعزية والوقوف إلى جانب صديقه وزميلهم في المركز حسن قاسم، حيث توفي والده قبل ساعتين، في منطقة الراس في دبي، فنظرت إليه، وهي جالسة تئن في صمت، وهو واقف كتلميذ شقيّ، يشرح ويوضح ويبرر، ويلمح، ولأول مرة في حياته، إلى أنها قد خرجت هي أيضاً لزيارة صديقتها منى.

وأنه لم يعترض، ولم ينبس ببنت شفة، تقديراً للصداقة التي يعلمها ويدرك عمقها مع منى، ففكرت، ثم فكرت، وقامت بصمت دون جواب، تجرجر نفسها إلى غرفتها لتبديل ملابسها، ثم إلى شرفتها، جلست وهي تشهق، وتهزّ جسدها إلى الأمام وإلى الخلف، كأنها عود شجرة غض طري، تحاول العواصف اقتلاعها من جذورها، وحين تفشل، تختطف أوراقها..!

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

Email