رواية «الجائحة» ــ (الحلقة الثامنة عشرة) «الصلاة في بيوتكم» ــ السبت 21 مارس 2020

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عادا إلى البيت في 7 مارس 2020 وحتى 21 مارس 2020، فرضت سارة على عمر حجراً منزلياً ذاتياً، يمنع الخروج من المنزل نهائياً، وعدم الاختلاط مع أيّ كان، وقراراً آخرَ بأن يبدأ العمل في مركز الدراسات عن بُعد، فوافق عمر بشرط أن يبدآ معاً تحدّي القراءة مدة أسبوعين، وعدم الانشغال على الإطلاق بوسائل التواصل الاجتماعي التي تستهلك الوقت المهم، دون جدوى، فكّرت في رغبتها التي كانت تؤجلها دائماً بقراءة قائمة لأعمال أدبية عالمية وعربية، ووضعت قرارها بشأن الحجر مع قرار القراءة في الميزان، واتفقا أخيراً على انطلاق التحدي الذي يقضي بتخصيص 4 ساعات يومية للعمل و6 ساعات للقراءة وساعتين للنقاش، لم تلتزم سارة كلياً، بسبب إدمانها على «تويتر»، وحين يلاحظها عمر ويسألها معاتباً مبتسماً، تدّعي أنها تضع تغريداتها عمّا تقرأه من الكتب لإثراء النقاش حول محتواها ومقاصد المؤلفين وأفكارهم ورسائلهم، فكان يهزّ رأسه في كلّ مرة، ويسجل عليها النقاط، التي بلغت 30 نقطة!

فكرة الحجر المنزلي، الذاتي أو الإجباري، لم تتحول لدى عمر وسارة فحسب، بل في معظم دول العالم، التي اخترقها فيروس كورونا، إلى موضوع حديث الساعة الساخن، فبعد أن بدأت الدول تفرض منعاً قاطعاً للتجول ويفرض بعضها حظراً جزئياً، وكذلك بدء إغلاق المطارات والمعابر الحدودية لمعظم الدول، وفرض الحجر الذاتي أو الإلزامي، لكل القادمين قبل الإغلاق التام، مدة 14 يوماً، إضافة إلى إغلاق أو تقنين الأعمال التجارية والخدمية كالمقاهي والمطاعم والأسواق وغيرها، ظهرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ملايين القصص حول الحجر المنزلي، بعضها عبر فيديوهات تم تصويرها لحال الأسرة، وتبدّل شكل العلاقة بين الزوج والزوجة أو بين الأب والأم وأفراد الأسرة، بعضها لأُناسٍ يحتفلون أو يُغنون في بيوتهم عبر النوافذ، وبعضها عن إلقاء القبض على من يخترق منع التجول، وأخرى نصائح ونكات وتعليقات ومنها ما تصف الحجر بأنه سجن. ومنها ما تراه أنه مدرسة تم خلالها إعادة بلورة وتشكيل الأسرة وثقافتها من جديد.

سمعت سارة جارها المؤذن يقول: «الصلاة في بيوتكم»، فأحنت رأسها وارتعشت فرائضها، وعرفت أن العالم كلّه يقف، في تلك اللحظة، بقدم واحدة، على المنعطف الأخطر لهذه الجائحة، ولا شك في أن قرار السعودية الإغلاق التام، ومنع تأشيرات العمرة والحج، ومنع إقامة الصلاة في البيت العتيق، قبلة المسلمين، كان أول وأهم المؤشرات التاريخية، أن فيروس كورونا المستجد، كوفيد 19، لا يلعب، ولم يقتحم رئة العالم ليتسلّى، بل جاء عاقداً العزم على أن يقضي عليها، فكان خطُّ الدفاع الأول تحقيق التباعد ومنع التجمهر والتجمعات البشرية التي تلتقي أنفاسها محبة فتتحول إلى عدوى وكارثة قاتلة. رفعت سارة رأسها، وبدأت تكتب تقريرها الأسبوعي، تجمع المعلومات من هنا وهناك، تراجع بريدها وما وصلها من معلومات، ثم غرقت فجأة في بعض الخيالات، فوقفت تنظر إلى البحر، فوجدته حزيناً، فراحت تراجع أحداث الشهر الفائت، يوماً بيوم، لتعرف سرّ حزن صديقها الخفي الذي تتقلب أمواجه، تعزف لحن الحياة، مستلهمة من واقعها وأحداثها، النغمات والمقطوعات المختلفة، فتبدو لها كقصة حدثت، أو ستحدث قريباً.

كتبت سارة يوم السبت 21 مارس 2020 إن عدد المصابين في العالم قد بلغ 275 ألفاً، وعدد الوفيات قد بلغ حول العالم 11402 حالة وفاة جراء تفشي فيروس كورونا، وإن عدد المتعافين قد بلغ نحو 88 ألفاً وإنه في الشرق الأوسط تم تسجيل 470 حالة إصابة في قطر، و344 في السعودية و298 في البحرين و285 حالة في مصر، وفي العراق قد بلغ 208 حالات، وإن وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية قد منعت سفر المواطنين إلى الخارج مؤقتاً من 18 مارس وحتى إشعار آخر، في ظل جهود الدولة لمواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19»، وحرصاً منها على سلامة وصحة المواطنين، وفي ظل الانتشار السريع للفيروس حول العالم والقيود المفروضة على السفر من قبل الدول والإغلاق التدريجي للرحلات حول العالم، وإن الهيئة الاتحادية للهوية والجنسية الإماراتية قررت أيضاً «تعليقاً مؤقتاً» لإجراءات الحصول على تأشيرة الدخول عند الوصول إلى منافذ الدولة لحملة الجوازات المعفاة باستثناء حملة الجوازات الدبلوماسية وذلك ابتداءً من الساعة 01:00 فجر يوم 19 مارس 2020.

نظرت سارة إلى ساعتها وكانت قد اقتربت من الثامنة صباحاً، فكّرت في صديقتها شيخة وقررت الاتصال بها، وفي تلك اللحظة رأت على هاتفها رقم شيخة تتصل بها، استغربت هذا التخاطر، فردت وهي تشرح لها عن ذلك، فقالت شيخة إنها تعلم أن سارة تستيقظ مبكرة، ولكنها كانت تخشى أن توقظ أهل البيت بالاتصال، فقالت سارة إن الجوالات محرّمة في مكان النوم في بيتها، وإن عمر يكره وجود أية تقنية من أي نوع في المكتبة وغرفة النوم وغرفة الطعام، ويسمح باستخدام الجوال والإنترنت في الصالة والشرفة والحديقة الخارجية فقط، فقالت شيخة إنها قرب الحديقة الآن، ففرحت سارة ودعتها للدخول.

طلبت سارة من آني إعداد القهوة، وخرجت بسرعة تستقبل ضيفتها التي كانت ترتدي كمامة وقفازات، رحبت بها ودعتها للدخول إلى الصالة فقالت شيخة وهي تبتسم إنها تُفضل الجلوس متباعدتين في الحديقة، بين زهور سارة الجميلة الملونة. ظنّت سارة أن شيخة تحمل خبراً سيئاً، ولكن شيخة طمأنتها على الفور، وقالت إنها زيارة ودّية تماماً، لا تحمل أية أخبار، ما تريده هو الاطمئنان عن سارة وعمر فقط، وأن يصبح حضورها واتصالها مع سارة مرتبطاً بالصداقة المتينة التي نشأت بينهما وليس بحمل الأخبار، فاطمأنت سارة، وسألت شيخة: «هل لاحظت شيئاً غريباً اليوم؟»، فأجابت شيخة، وهي تنزع كمامتها وتشرب قهوتها: «بالتأكيد، من لم يلاحظ (الصلاة في بيوتكم)؟، هذا تغيير جذري في حياة جميع الناس حول العالم، لا يرتبط بالصلاة فقط، ولا بالمسألة الدينية، بل يصف بدقة متناهية ما يحدث في العالم كله».

قالت سارة: «صحيح، كنت في باريس، كما تعلمين، مرغمة، وكان الانطباع العام هناك، وفي العالم كله أيضاً، أن هذا الفيروس سيعيش مدة أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع فقط، أي سينتهي في الأول من مارس، ولذلك بدا أن الناس، ولهذا السبب تحديداً، غير مبالين، خلال فبراير وحتى نهايته، حتى عمر نفسه، يتعامل مع الفيروس بهذا الإحساس المخيف، ولذلك فرضتُ عليه حجراً صارماً منذ عودتنا، فهو مصاب بقصور في القلب، وسيكون أثر الفيروس فيه شديداً لو أصيب به، ولكن مارس شارف على الانتهاء، ويبدو أننا في أول الطريق، أين نحن من هذه الجائحة يا شيخة؟».

تنهدت شيخة وهي تقول: «أعتقد بأننا لم نبدأ بعد، كل ما شهدناه هو مجرد استعداد، وحسب ما أسمع، وبعد قرارات العمل عن بُعد والتعلّم عن بُعد، سنشهد تباعداً اجتماعياً لازماً قطعياً، حيث سيبدأ في الإمارات نظام التعقيم الوطني الشامل قريباً، ولن يسمح بخروج أحد من منزله، إلا للحاجات الضرورية جداً، أو للعاملين في خط دفاعنا الأول من أطباء وممرضين ورجال أمن وإسعاف ومتطوعين وغيرهم. بالنسبة لعمر، عليك مراقبته جيداً، الرجال ليسوا كالنساء في الملمات والظروف الاستثنائية، لديهم عقول تعمل بطريقة عجيبة، أنت تعلمين مثلاً، كم كنت متشوقة للقائك يوم عدت من باريس، ولكنني لم أجرؤ حتى مرّ 14 يوماً، وأكدت لي، عدة مرات، خلال مكالماتنا، أنك لم تشعري بأية أعراض، ولم تختلطي مع أحد، وأنت صديقتي، هكذا تفكر المرأة، دائماً تكون حذرة بشكل مضاعف، أما الرجل، فيعتقد أنه حذر كفاية، ولكنه في الحقيقة، لا يكون كذلك، ما أخبار منى والطفلتين؟».

قالت سارة إن مُنى بخير، وإن العلاج يعمل بصورة جيدة، ولكنه يُرهقها بشدة، وترهقها أكثر، ابنتها الكبرى نتالي، فهي لم تتوقف عن البكاء منذ اعتقال والدها سوزيان على شيك بنكي، حتى إن مُنى باتت تفكر جدياً أن تساعده على الخروج من السجن، بعمل تسويات مع الدائنين، إرضاء لنتالي فقط، ولكن أمها وشقيقها يرفضان قطعياً، ولا تعلم ماذا تفعل؟ وقالت: «سأقوم بزيارتها قريباً قبل أن يبدأ التعقيم الوطني والإغلاق التام، فماذا تنصحين بخصوص سوزيان ونتالي؟»، فأجابت شيخة: «إذا كانت مُنى مرتاحة مالياً، ولديها القدرة على مساعدته، فلتفعلْ، ولتضع الشروط القاسية عليه، لأنها إذا لم تفعل، فلن تسامحها ابنتها مدى الحياة، وسينشأ حقد عميق في قلبها على أمها، وإذا خرج وحده بعد شهور أو سنين، فإن نتالي ستهرب إليه، وستترك جرحاً عميقاً في قلب مُنى. هذا رأيي، قولي لها أن تذهب لمحامٍ جيد، يساعدها في هذه المسألة برمتها».

في ذلك الوقت، لم يكن هناك سيناريو، افترضه رجال السياسة والاقتصاد والعلم، بخصوص فيروس كورونا، يمكنه الصمود، مدة يوم واحد، التطمينات تتحول إلى كوارث، التخمينات تسقط عند أول اختبار، الفرضيات كلها تتهاوى عند كل إعلان أو قرار عالمي عن المرض، وحين أعلنت منظمة الصحة العالمية في 12 مارس 2020 تصنيف هذا المرض كوباء عالمي، دقّ خوف ورعب حقيقي، في أركان المعمورة، وفي صميم قلبها، فاجتاح الوباء أمريكا بسرعة لم يتخيلها أحد، وغزا قارة أوروبا وراح يفتك بها، أعداد المصابين راحت ترتفع بوتيرة مجنونة، ومشاهد جثث الضحايا وطرق دفنهم الجماعية، تجاوزت الارتباك، وقفزت للذهول ثم تحولت إلى صاعقة في عقل كل كائن بشري حي، تصرخ في عقله أنه أصيب أو سيصاب أو سيموت أو أُصيب شقيقه أو صديقه أو أمه وأبوه. العلوم المتقدمة، وقفت عاجزة حائرة عن إنتاج لقاح أو علاج مبدئي يمكن الوثوق به، وأول مرة، في التاريخ، يصطف الفلاسفة والمفكرون، إلى جانب رجال الدين، لمهاجمة العلماء الذين قادوا العالم، خلال القرن العشرين، في اكتشافاتهم واختراعاتهم الكثيرة إلى المجهول، فَسَخِروا منهم، ومن الشلل الذي حاق بهم فجأة، فرأى الفلاسفة الجائحة، خطيئة للعقول، ورآها رجال الدين، خطيئة في القلوب، وقال عمر، في أحدث دراسة أنتجها خلال مارس 2020: «منذ فقد العالم، خلال المئة عام الأخيرة، التمييز بين الحب والكراهية، بين الغضب والتسامح، بين الاطمئنان والرعب، بين السعادة والبؤس، وبسبب الحروب المتلاحقة، والصراعات المدمرة، والمنافسة الحمقاء على التسلح النووي، وظهور التجارة الرخيصة في التقدم العلمي، وإنتاج الأدوية والمعدات الطبية، وكذلك الكذب والتزييف، بعد ظهور الإنترنت، واختفاء الكتب والنظريات التي حملت رياح التغيير في العقل البشري، منذ كانط وهيغل، لم يعد هناك، ذلك الخط الفاصل الحاد، الذي يفصل بين القيم الإنسانية والشهوات القاتلة، بين الخير والشر، بين الحقيقة والكذب، فلم يتوقف العالم، دقيقة، ليدرك أنّه صنع مجتمعات هشة، قابلة للانهيار في أية مواجهة حقيقية».

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

Email