رواية «الجائحة» – (الحلقة السادسة عشرة) ــ «العمل خير من النوم» الأربعاء 29 يناير 2020

ت + ت - الحجم الطبيعي

سارة تنام مبكرة وتستيقظ فجراً، ليست من هواة السهر، تحبّ العمل أول الصباح، تصنع قهوتها الأمريكية، المطحونة على طريقة «فرنش برس» وتضعها في الكوب المضغوط، تأخذ حماماً وتجلس تطالع الأخبار العالمية على المنصات الرسمية، ولا تذهب إلى وسائل التواصل قبل أن تُلقي نظرة فاحصة على الصحف العالمية ووكالات الأنباء، أحياناً تسمع أذان الفجر، في المسجد القريب، وهو يقول «الصلاة خير من النوم»، وأحياناً لا تدرك الأذان، كانت ترى أن الصلاة عبادة وأن العمل عبادة أيضاً، فيصبح مؤكداً أن العمل خير من النوم، كان يغريها أن هناك فئات نشيطة مستيقظة تعمل والبقية نيام، فتنتظر لحظات شروق الشمس، بفارغ الصبر، لتجلس دقائق معدودات، تتناول قهوتها، على شرفة بيتها الشرقية، وتقرأ وحدها، رسائل خيوط الشمس، التي تنسج انعكاساتها، بين برج خليفة وأبراج شارع الشيخ زايد المُذهلة. كل يوم، حكاية جديدة، عن قصص الأمل والعزيمة والمحبة وقيم الانتصار والفرح، في دانة الدنيا دبي، تتمايل تلك الانعكاسات الملونة لأشعة الشمس بين ثنايا وجدانها الشغوف، فتفتح شهيتها للحياة.

وجدت رسالة «واتس آب» من عمر تقول: «صديقتي، نمت متأخراً، أيقظيني رجاء الساعة 9 صباحاً، سنذهب إلى مركز الدراسات معاً، لدينا اجتماع خاص بالباحثين والخبراء، لإطلاعهم على العقود التي تم توقيعها في مصر، ومناقشة برنامج الأبحاث الشهري، الساعة الحادية عشرة صباحاً».

لم يكن صادماً لسارة أن تتمكن دولة الإمارات من اكتشاف وضبط أول إصابة مؤكدة بفيروس كورونا المستجد في 29 يناير 2020، فحين قرأت أن وزارة الصحة ووقاية المجتمع الإماراتية قد أعلنت أن تلك الإصابة هي لأربعة أشخاص من عائلة واحدة قادمين من مدينة ووهان الصينية، كانت سارة تعلم أن اكتشاف الإصابة يعود للإجراءات المشددة المبكرة التي اتخذتها حكومة الإمارات، ولا شك في أن هناك دولاً في الشرق الأوسط، قد تعرضت لدخول مصابين إلى أراضيها، في وقت سابق، ولكنه لم يتم اكتشافها، بسبب الإهمال الشديد، فاتصلت مع الطبيب مروان لتتأكد، ولأخذ تصريح شفوي، فقال إن الوزارة لم تحدد عدد الأشخاص بأربعة، وكذلك فإن الحالة الصحية للمصابين مستقرة وتحت الملاحظة الطبية الشديدة، وإن الذي دفع الإمارات للتصريح الفوري عن هذه الحالات هو مبدأ الشفافية تجاه المجتمع الدولي وتجاه المجتمع المحلي الذي اعتادت الإمارات انتهاجه، فلا يضيرها أن تكتشف وتعلن عن هذه الحالة وأية حالات أخرى، فالدولة مستعدة، كما رأيت بنفسك يا سارة، لكافة الاحتمالات.

في ذلك الصباح، قررت سارة عدم إرسال نتالي وتاليا إلى المدرسة، على مسؤوليتها، ولكن خلال الطريق، بدأت سارة تفكر كيف سيكون الحال في الأيام المقبلة وهل ستتوالى الإعلانات في الشرق الأوسط، وإلى أيّ مدى يمكن أن يصل هذا الفيروس؟ سألت عمر: «ماذا تتوقع؟»، فبقي صامتاً لحظة ثم قال إنه لا يدري، وإنه لا يفهم كيف تستجيب وتتعامل دول العالم مع الأمراض السارية والمعدية، وأضاف: «منذ سنوات طويلة، وكلما حلّت كارثة في هذا العالم، نلاحظ أن كثيراً من الدول تتخبط، لم ينجحوا عبر التاريخ في تطويق مرض أو كارثة بمهارة، هناك حلقات مفقودة دائماً». فكّرت أن تسأله عن تلك الحلقات ولكنها لاحظت أنهم يمرون قريباً من شارع مستشفى فونتي، فنظرت إلى الساعة وكانت 9:45 صباحاً، ترددت ثم طلبت من عمر المرور إلى المستشفى لمعرفة وضع مُنى، ولو مدة دقيقتين، فانعطف نحو المستشفى وقال إنه سينتظرها في السيارة.

نزلت سارة بسرعة، سألت عن حال مُنى، فقيل إنها في حال جيدة وقد تناولت إفطاراً خفيفاً أول مرة منذ أسبوعين، وإنه قد تم رفع المغذيات والأجهزة عنها ونقلها من العناية المركزة إلى غرفة عناية خاصة رقم 32، ففرحت بشدة وطلبت زيارتها، فوافق الطبيب، ولكنها استغربت أنه لم يطلب منها عدم الاقتراب وارتداء الكمامات، فقال إن هناك أمراً قد يزعجها، ولا يعلم إن كان هناك أحد من أهلها يمكن إبلاغه، فارتبكت وقالت إنه لا يوجد أحد من أهلها متوافر في دبي الآن، ولكن شقيقها وأمها يعيشان في فرنسا، وإن أمها ستحضر في العاشر من فبراير، أما زوجها فتظن أنه قد سافر إلى إيطاليا، قالت: «أريد الاطمئنان يا دكتور، أنا صديقتها وبمقام أختها، أرجوك، لقد فقدت أعصابي»، ففكر لحظة وقال «اتبعيني»، ودخل غرفة مدير المستشفى، تحدث معه دقيقة ثم سمح لها بالدخول، وقف رئيس الأطباء وحياها وطلب منها الجلوس بينما بقي الطبيب المقيم واقفاً، قال: «عليك أن تحتملي هذا الخبر، أنت صحفية على ما سمعت، وأهم ما تحتاجينه هذه اللحظة هو رباطة الجأش، والتصرف بحكمة وتعقّل»، فانهارت أعصاب سارة كلياً، فهزّت رأسها بينما عيناها تستعدان متحفزتان، فقال: «صور الأشعة السينية والتصوير المقطعي والعينات التي تم زراعتها تُظهر أن مُنى مصابة بسرطان الرئة، منذ مُدة، ولكن...». وقبل أن يُكمل الشرح راحت الدموع تتساقط من عيون سارة فوقفت واعتذرت وقالت إنها ستعود وانطلقت تجرجر نفسها وانكسارها ودموعها نحو عمر.

لاحظ عمر اقترابها وبكاءها فنزل من السيارة مسرعاً واحتضنها، ظنّ أن مُنى قد توفيت فراحت تشهق وهي تحاول أن تشرح له ما حدّثها به رئيس الأطباء، لم يفهم شيئاً، نظر حوله فرأى مقهى في الجانب الآخر من الشارع، فوضع يده تحت ذراعها وساعدها على المشي حتى جلسا على طاولة خارجية هناك، طلب لها قهوة وهو يحاول أن يستوضح منها ما جرى فخرّت باكية، مرة أخرى، وهي تقول: «كل يوم كنت أقول لها أن تتوقف عن التدخين، وتأتي بالحجة وراء الحجة، أذكّرها ببناتها فتعدني أن تتوقف ولكن لا جدوى، إنه السرطان يا عمر.. سرطان الرئة..!». وأجهشت بالبكاء.

وضع عمر يده على ذقنه وهو يقول بصرامة: «سرطان؟ ولماذا كلّ هذا البكاء والنحيب، هه؟ ظننتها ماتت، تخيلي لو ماتت ماذا سيحدث؟». رفع وجهها برفق وهو يقول: «اسمعيني، السرطان أصبح مرضاً عادياً، ومن السهل علاجه، عدد المرضى الذين يشفون منه صاروا أكثر من الذين يموتون، هل تذكرين صديقي إياد، تمكّن بالشجاعة والدعم ومواصلة العلاج من الشفاء»، نظرت إليه وهي تتذكر تلك القصة، فاستطرد: «الآن دورك، الآن هي مهمتك الكبرى، في مساعدتها، إذا لم تكوني متماسكة وقوية فسوف يقتلها القهر أكثر من السرطان، ليس لها أحد غيرك الآن، اشربي قهوتك، وهيا لندخل معاً إليها نُبارك لها خروجها من العناية المركزة».

سأل عمر الطبيب المقيم: «هل تعلم مُنى بمرضها؟». فأجاب: «لا، ليس بعد»، فقال عمر: «رجاء، اتركوا لنا هذه المهمة، هل يمكن لسارة احتضانها؟». فقال الطبيب: «نعم، ونأمل أن يكون ذلك مختصراً قدر المستطاع»، فطلب من سارة أن تتماسك وتذهب لتغسل وجهها بينما يشتري باقة ورد تحملها إلى مُنى، دخلا، وقلب سارة يخفق بشدة، خافت أن تتهاوى وتعود إلى البكاء، تحاشت نظرات مُنى التي حاصرتها، وقدمت باقة الورد وهي تبتسم وتبارك لمنى خروجها من العناية المركزة، عمر كان يقظاً جداً، فتدخل بسرعة وبارك لمُنى أنها غير مصابة بالفيروس المنتشر حول العالم، كانت مُنى مشغولة البال على ابنتيها، فطمأنتها سارة ببعض الحكايات المصطنعة المضحكة التي حدثت خلال الأسبوعين الماضيين، فاطمأنّت مُنى وسألت عن أمها فقالت سارة: «ستأتي قريباً، أتذكرين أنك قلت لي إن لديها عملية جراحية في الرابع من فبراير، وقد حدثتها أنك مريضة قليلاً فقالت إنها ستحضر في العاشر من فبراير»، فسألت عن سوزيان، فقال عمر إنه قد غادر إلى إيطاليا، ولا يظن أنه سيعود، فهزّت منى رأسها وأغرقتهما بعبارات الشكر والامتنان على ما يقومان به تجاهها واتجاه بناتها.

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

Email