رواية «الجائحة» – (الحلقة الرابعة عشرة)«وظائف المعركة الكبرى» الثلاثاء 28 يناير 2020

ت + ت - الحجم الطبيعي

ضحكت شيخة وهي تنتقي إجاباتها انتقاء جرّاح ماهر، لا يترك أثراً واحداً في جسد المريض، وقالت: «أفكر أن أتحول إلى نباتية منذ زمن بعيد، لكن ليس لديّ الجرأة، ولا أعلم السبب»، قالت سارة: «كنت مثلك، بقيت سنوات مترددة، ثم قررت بعد ظهور إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور وغيرها من الفيروسات التي تنتقل عبر أكل اللحوم، وها هم اليوم يقولون إن فيروس كورونا بسبب أكل الحيوانات والخفافيش والقطط والكلاب، شيء لا يُصدّق».

توقفت شيخة عن تناول الطعام، فاعتذرت سارة عن انجرارها إلى هذا المستوى من الحديث عن الفيروس وعن أكل الحيوانات أثناء الغداء، شعرت بالخجل الشديد، فقالت: «اعذريني، يبدو أنني قد أصبحت مريضة نفسياً، ولأنك طبيبة نفسية، فلا تأخذي بكلامي، عليك أن تعالجيني، حدثيني عن اللقاء مع الخبراء أمس، كيف ستعالجون المجتمع من الآثار النفسية؟».

ابتسمت شيخة وهي تقول: «لم أتوقف بسبب كلامك، فقط شبعت، الحمد لله»، وراحت تشرح لسارة، أثناء رفع الأطباق ووضع الحلوى الإماراتية، أنها درست خلال الأسبوعين الماضيين، عدة مشاكل ظهرت في الصين مع ظهور هذا الفيروس، وهي تقريباً ذات المشاكل الاجتماعية والنفسية التي تظهر مع كل فيروس مُعدٍ، فسألت سارة وهي تتناول الشاي الأخضر مع حلوى (اللقيمات):

«ما هي تلك المشكلات يا شيخة؟»، فأجابت شيخة، بعد أن سمحت لشمّا بأخذ نتالي وتاليا للعب في حديقة حيوان صغيرة، أنشأتها في مزرعتها: «تعلمين، منذ ظهور الأمراض المعدية كالحصبة والجدري والطاعون والكوليرا والأيدز وإنفلونزا الخنازير والأيبولا والسارس وميرس وغيرها، كانت تظهر دائماً في المجتمعات، نتيجة الاختلاط أو العزل أيضاً، مشاكل نفسية في التعامل مع المريض، أو المشتبه فيه.

وقد تتراكم هذه المشاكل لتتحول إلى وسواس قهري، إذا لم يتمكن المجتمع من علاجها مبكراً، حيث يبدأ كثير من الناس الشعور بالقرف أو الاشمئزاز من المرضى أو من الآخرين عموماً، سواء بالتعبير المباشر، أو ردود الفعل فور معرفة أن المريض مصاب بمرض ما، ويكون بعضها ردود فعل مبالغاً بها كثيراً، لدرجة أن المريض يُصاب بإحباط شديد غير قابل للمعالجة لاحقاً، فيسكنه ذلك الهاجس أنه، والعذر منك، مقرف، وقد أدى هذا الشعور بكثير من المرضى سابقاً، إلى الانتحار».

أثار الموضوع حفيظة سارة، فقالت: «صحيح، أتفق معك، لكن هل هذه النسبة كبيرة في المجتمعات؟ فكما رأيتِ أصابُ شخصياً بهذا الوسواس تجاه الأمراض المعدية، ولكنه بدافع الحذر وليس بدافع القرف، فكيف أجعل المريض والمشتبه فيه يفهم أنني حذرة ولست مشمئزة منه؟».

تنهدت شيخة وهي تقول: «في سؤالك الأول، تعتمد النسبة على حجم انتشار المرض في المجتمع، وكذلك على حجم الإجراءات التي تتخذها الدول، فمثلاً، لو افترضنا أن الإمارات قد سجلت حالة بكورونا في أي وقت، فقد قررنا أن تكون الإجراءات المشددة شاملة كل أفراد المجتمع، مواطنين ومقيمين وزائرين، والذي سيجعل المجتمع كلّه ينظر إلى الإجراءات العادلة أن الجميع مشتبه فيه.

والجميع معافى، وهذه الاستراتيجية، ستحد بلا شك من ظهور الآثار النفسية، بكافة أشكالها، حيث يشعر الجميع بأنهم متساوون، وليس هناك شخص أفضل أو أسوأ من شخص، بالنسبة لسؤالك الثاني.

فإن الحجر الكامل لأي مريض أو مشتبه فيه، والتوعية بأنه قد تلقّى أفضل علاج ممكن، وعند خروجه معافى، فلا أعتقد أنه سيكون هناك أي داعٍ للتعامل معه بحذر. بالطبع فإن الدول الأخرى، التي تكثر فيها الخزعبلات المصاحبة للأمراض المعدية، كحرق ملابس المريض وإدخاله في بوتقة الشعوذة والنظر إلى الفيروس باعتباره عقاباً إلهياً لا علاج له، وليس هناك ثمة إجراءات للحجر والعزل، ستتفاقم فيها الأمراض النفسية، وتتراكم كما تتراكم الأمراض المعدية».

ظلت سارة تُفكر، بعد مغادرتهم الخوانيج، في كل حرف نطقت به شيخة، وفجأة سألت عمر، وهي تهمس همساً حتى لا تسمع نتالي وتاليا: «لو انتشر هذا الفيروس في كل الأرض، كما تقول شيخة، فماذا تتوقع أن يحدث؟»، هزّ عمر رأسه وهو ينعطف باتجاه البيت، قال: «قد يستيقظ العالم من جنون الحروب الصغيرة، حين يشاهدون بأم أعينهم، خلال المعركة الكبرى، أن المهنة الوحيدة التي فيها وظائف شاغرة كثيرة، هي مهنة دفن الموتى..!».

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

Email