رواية «الجائحة» - الحلقة العاشرة («العالم حين تغيره الكوارث!!» – السبت 25 يناير 2020)

ت + ت - الحجم الطبيعي

استيقظت سارة على مكالمة من عمر صباح يوم السبت 25 يناير، تبادلا الاطمئنان عن الصحة وقال إنه سيعود يوم الثلاثاء 28 يناير مساء، رجته أن يعود مبكراً فقال إنه لا يستطيع، فلديه عقود سيقوم بتوقيعها يوم الاثنين مع عدد من المراكز البحثية والخبراء الاستراتيجيين، قالت إن تطور الفيروس في الصين يشي باحتمال إغلاق المعابر الحدودية في دول من العالم.

وقد ارتفع عدد ضحايا الفيروس في الصين إلى 55 ففرضت حظراً على زيارة مقاطعة ووهان و12 مدينة أخرى لمنع 35 مليون شخص كانوا يستعدون للاحتفال برأس السنة القمرية الجديدة حسب التقويم الصيني من التنقل ونشر المرض.

وأن دولاً أخرى قد سجلت إصابات كالولايات المتحدة وفرنسا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وفيتنام وماليزيا وسنغافورة ونيبال بمعدل حالة إلى خمس حالات، وأن الخارجية الأمريكية قد أصدرت أمراً عاجلاً يقضي بمغادرة جميع موظفي القنصلية الأمريكية في ووهان بمغادرتها، وأعلنت هونغ كونغ حالة الطوارئ الصحية وتعليق الرحلات الجوية إلى ووهان، وقد يتم فرض منع سفر في مصر في حال تسجيل إصابة هناك، فاستوعب تخوفها.

وحاول أن يطمئنها، ووعدها بالحضور في الموعد المحدد.
لم يكن عمر يعيش الحياة بواقعية تسجيلية، بل كان يعيش بين الواقع والخيال، لا تغريه التفاصيل اليومية، أو الأحداث والأخبار الصغيرة التي كانت سارة تهتم بها كثيراً، بل كان ينظر إلى العالم كأنه كلّه بين يديه، يراقب تطوراته الكبيرة، وانعكاساتها على الإنسان والطبيعة، ومع أنه حقق شهرة واسعة بكتبه ومؤلفاته ومحاضراته، التي تُرجمت إلى عدة لغات.

وحصل على جوائز عدة، لفلسفته العميقة البسيطة التي شرّحت التاريخ والمجتمعات والقيم السياسية والاجتماعية، وربطت الماضي مع الحاضر كأن أحدهما مرآة للآخر، أو كأنّ التاريخ دوماً يعيد نفسه، ومع ذلك لم يكن يرى أشياء كثيرة مهمة تحدث في الحياة اليومية، صراعات بين الدول، ارتفاع أو انخفاض أسعار النفط، خطورة فيروس كورونا، الذي راح يتفشى هنا وهناك.

بدأت سارة تضع كلمة كورونا، وكلمة الفيروس التاجي، وفيروس ووهان، في كلمات البحث عبر غوغل، وبعدة لغات، سهرت أياماً ثلاثة دون نوم وهي تبحث وتسجل الأخبار والمعلومات حول هذا الفيروس الخطير، اتصلت بأمها في نيويورك وشقيقتها نوال، لتطمئن عليهما، قالت لهما إن عليهما الحذر من فيروس جديد، ضحكت نوال وقالت إن هذا الموضوع مستحيل في أمريكا، أمريكا محصنة جيداً، الخدمات الطبية في أمريكا متطورة جداً، وليس من السهل انتقال هذه الفيروسات إلى أمريكا، جُنت سارة من لامبالاة أختها، كانت دائماً كذلك، كانت سارة تُطلق على نوال اسم موريس، الشخصية اللامبالية في رواية الغريب لألبير كامو، صرخت وهي تقول:

«إذا كنت غير مهتمة بنفسك فعلى الأقل أرجو منك الاهتمام بأمي، أرجوك، وإذا لم تتمكني دعيها تَعُدْ إليّ في دبي، الجو هنا رائع، والشتاء يشبه الربيع، ستقضي أياماً رائعة»، لكن نوال رفضت، قالت إنها لا تستغني عن والدتها أبداً، وإذا كانت سارة مُصرّة على رؤيتها، والحصول على الحماية من الفيروسات المضحكة، فعليها أن تأتي هي إلى أمريكا، وليس العكس..!

تنهدت سارة بحرقة، كانت تتعذب كلما واجهت هذا الصنف من الناس، كان زوجها الأول شخصاً فوضوياً لا يهتم لشيء، وليس لديه أدنى حسّ بالمسؤولية، تتصل معه عشرين مرة ليرد مرة واحدة ثم يغلق الهاتف في وجهها، لا يهتم لأمرها إلا حين تقبض راتبها، تصبح مدللة، وحين يأخذ ما يريد يعود للاختفاء، مع نساء أخريات، ناضلت للخلاص منه، وبعد زواج استمر أربعة أعوام من المعاناة، طلقها مقابل مبلغ من المال، كانت تظن أن ذلك حظها في الحياة، أن يرسل لها القدر الرجال الطماعين البخلاء اللامباليين، حتى تعرفت على عمر الهيثمي، الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً، في ندوة قدمها بعنوان «من الذي سيغير العالم» قبل ثلاثة أعوام.

وكان هذا الموضوع يحوز على أعلى درجات اهتمامها، سألته خلال المحاضرة: «كيف نصدق أن العالم لن يتغير بفعل السياسة أو الاقتصاد، بل بفعل هذا الشيء المجهول الذي تتحدث عنه؟»، سكت وهو ينظر إليها متأملاً، كانت سارة معتدلة الطول، ليست ممتلئة ولا نحيفة، بين ذلك، ترتدي قميصاً أبيض وبنطالاً من الجينز، كانت معروفة في الوسط الإعلامي، كصحفية متابعة لشؤون الشرق الأوسط، فنظر الجميع إليها دفعة واحدة، على وقع سكوت عمر، الهادئ كديبلوماسي لم يُهزم في أي حوار، وحين أطال السكوت، بدأت الهمهمة في القاعة، فقالت وهي تجلس: «أعتذر يبدو أنني تسرعت».

فابتسم وأكمل محاضرته بينما غرقت سارة في سحابة تكوّنت من الحياء والإحراج، استفزّها تجاهله لها، فكّرت أن تغادر، لكنها لم تتجرأ، كانت ستلفت النظر إلى الاضطراب الذي لحق بها، وفجأة، وخلال دقيقتين، عاد عمر يذكر سؤالها، بل يسميها باسمها، ويقول إنه معجب بكتاباتها منذ زمن، خاصة في الموضوعات الإستراتيجية، وإنه فوجئ من سؤالها ولم يجد إجابة فورية، ففرحت بهذا الإطراء الذي قلب مشاعرها رأساً على عقب، وقلب نظرة الجميع إليها، قال عمر:

«الحقيقة فكّرت، خلال الدقيقتين الماضيتين، كيف يمكننا حقاً أن نُقنع العالم، ونجعله يصدق أنه يستحيل أن يتغير العالم بفعل النظريات السياسية المتغيرة، لا أدري، قد يكون ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تسيطر على عقول الناس، فأصبحت الكتب والصحف أقل تأثيراً، علينا أن نجد طريقة للتوضيح بأن العالم ومنذ أقدم الأنظمة السياسية في سومر ومصر أو في اليونان، ما زال يسير باتجاه رتيب واحد، لا يتغير، ومن وجهة نظري.

فإن هناك مسألتين فقط تمكنتا من تغيير العالم هما الكوارث والأديان، لكننا لم نشهد أن سياسياً أو نظاماً سياسياً أو حتى اقتصادياً واحداً قد تمكّن من تغيير العالم كله» ورفع يده يؤشر إلى سارة، وأضاف:«وشكراً للأستاذة (سارة وقّاص) على إثارة هذا السؤال، وعلّها تساعدنا من خلال مواقعها أن تبدأ حملة توضيح حول هذه المفاهيم للناس»، فصفق الحاضرون لسارة وعمر وهم يهزون رؤوسهم بالإعجاب.

بعد المحاضرة، نزل عمر وتوجه إلى سارة مباشرة وسلّم عليها، قال إنه لا بد من استكمال النقاش، فدعته بعد المحاضرة إلى كافيتيريا النادي الفكري، لتناول كوب من القهوة، وراحت تشرح له اهتمامها بهذه الموضوعات وأنها قد أعدت مجموعة من الدراسات غير المنشورة التي ترصد التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط، فناقشها في بعض موضوعاتها وأثارت إعجابه الشديد.

كانت مُقنعة حين تحدثت، في خط موازٍ لوجهة نظره، أن مصطلح النظام العالمي الجديد، أو ما يُعرف بنظرية المؤامرة، والذي جرى طرحه عدة مرات خلال القرن العشرين، وبدايات القرن الواحد والعشرين، قد فشل في إحداث أي تغيير حقيقي في العالم، وأن التغييرات التي ظهرت، كانت تُعيد البشرية إلى الوراء، وتؤخر التقدم العلمي، لأنها قائمة على مصالح وأهداف غير معلنة.


بعد عدة لقاءات ومناقشات، اطلع عمر على شبكة علاقات سارة ودراساتها، وإمكانية التعاقد مع مؤسسات دولية للاستفادة من هذه الدراسات، فعرض عليها شراكة بنسبة 50% لكل منهما في مركز دراسات استراتيجية، مقابل عملها ودراساتها وإدارتها للمركز، ومن جانبه سيقوم بتمويل المشروع 100%، فوافقت دون تردد، كان أعزب ويرفض الزواج، كان لديه فلسفة أن الزواج يدمر أي علاقة، فلم تتعارض معه في البداية، كانت تحب أن تستمع إلى فلسفاته في الموضوعات المختلفة، أو أن تقرأ في كتبه التي تجاوزت عشرين مؤلفاً، تضع الخطوط حول الجمل التي تبحث في الذات الإنسانية وتعقيداتها وتشابكاتها المختلفة.

وقدرته العجيبة على تحليلها واختزالها في كلمتين، وبعد اتفاق الشراكة الذي تحول إلى صداقة متينة، تزوجا زواجاً غير تقليدي، يقوم على الإعجاب والاهتمام والنقاشات الثرية العميقة فقط، وجدته يمتلك قلباً بريئاً كبراءة طفل قد ولد للتو، ومع مكانته وخبرته في الحياة، التي تبدو على شعره الرمادي الأربعيني، الذي يتسلل إليه الشيب، وتبدو جلية في كتبه ومحادثاته مع الأصدقاء والمفكرين.

وفي الندوات التي كان يقدمها للنخب الفكرية والأدبية، كان يحاول دائماً أن يفتح أفقها نحو نظرة شاملة للمجتمعات، ليست ضيقة ولا فئوية، ليست طائفية ولا عرقية، ليست متطرفة ولا منحازة لأحد دون الآخر، بل النظر للمجتمع الإنساني عموماً بعين العدل والإنصاف والرأفة والتسامح.

لمتابعة الحلقات السابقة اقرأ:

رواية «الجائحة» – الحلقة التاسعة «لماذا لا يهتمون بفيروس كورونا؟» الاثنين 20 يناير 2020

رواية «الجائحة» – الحلقة الثامنة ( الذئب في قصة سيدنا يوسف - الاثنين 20 يناير 2020)

 رواية «الجائحة» – الحلقة السابعة «فيروس هاكفيت.. وهوس التقارب القاتل» الجمعة 14 يناير 2050

رواية «الجائحة» – الحلقة السادسة (فيروس جيني.. يهدد العالم من جديد - الخميس 13 يناير 2050)

رواية «الجائحة» – الحلقة الخامسة ( الاقتران التخاطري - الخميس 13 يناير 2050)

رواية «الجائحة» - الحلقة الرابعة («حجر مؤقت» – الثلاثاء 14 يناير 2020)

رواية «الجائحة» - الحلقة الثالثة (اشتباه العدوى - الثلاثاء 14 يناير 2020)

رواية "الجائحة" - الحلقة الثانية («اختطاف» - الثلاثاء 14 يناير 2020)

رواية "الجائحة" - الحلقة الأولى (الحمى - الاثنين 13 يناير 2020)

 

 

Email