بلاد العرب في كتاب فيلوستورجيوس

ت + ت - الحجم الطبيعي

دائماً ما يتجاوز الرحّالة الزمن، ويخاطبون مَن يأتي بعدهم، وينقلون إلى أخلافهم مشاعرهم التي عايشوها في أسفارهم، وهذه النّقلة تتمّ عقلاً وفكراً وعاطفة ومشاهدة حتى يكاد القارئ لرحلاتهم يعيش معهم لحظة بلحظة، خاصّة إذا صَاحبَ ذلك أدب وشعر وفكاهة ونادرة ولمحة ومُلحة.

حينها تكمل متعة القراءة. ومن حُسن الحظ أن عدداً من الكتّاب القدماء قد حفظوا لنا بعضاً من هذه الرحلات التي فُقدت أصولها. ومع كونها نتفاً منقولة من تلك الرحلات إلا أنها أفضل من انعدام مضامينها تماماً.

ومن الجدير بالإشارة إلى أن صاحبنا فيلوستورجيوس قد ألّف كتاباً حول التاريخ الكنسي هو في الأصل مفقود، ولكنّ أجزاءً منه محفوظة في مصادر أخرى. ومن الطرائف أنّ هذا الكاتب قد نقل فيما حُفظ من مصنَّفه رحلة أو سفارة ثيوفيلوس (Theophilus) إلى بلاد العرب والأحباش. وهذه من غرائب الصدف في ميدان التأليف والكتابة.

إن فيلوستورجيوس كاتب ومؤرّخ، اهتمّ بتاريخ الكنيسة خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديّين، وركّز في كتاباته على كلّ ما له شأن في الديانة النصرانيّة، وأثار مسائل عقديّة عدّة تتعلّق بالمسيح عليه السلام، وآباء الكنيسة. وُلد عام 368 م.

في بُليدة تدعى (Borissus) في مقاطعة كبادوكيا بآسيا الصغرى، لأب يدعى كارتيريوس (Carterius)، ولأمّ تدعى إيولامپيا (Eulampia). وحين بلغ العشرين من عمره غادر بلدته ويمّم صوب العاصمة القسطنطينية. وقد توفّي فيها عام 433 م. وحين كان في القسطنطينية لازم معلّمه الأريوسي إيونوميوس الكيزيكوسي (Eunomius of Cyzicus) (توفّي عام 393 م.)

الكتاب

وضع فيلوستورجيوس مصنَّفه التاريخ الكنسي بين عامَي 425 و433 م. في 12 جزءاً في مجلّدين. وقد فُقد الكتاب الأصلي، إلا أنّ أجزاءً منه حُفظت في عدد من مصادر المؤرّخين البيزنطيين من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر. كما نجا ملخص للكتاب، وتعليق عليه ووصف له في كتاب: Bibliotheca أي المكتبة لفوتيوس (Photius)، بطريرك القسطنطينية في القرن التاسع (810 - 893 م).

وقد ضمّن فوتيوس كتابه هذا وصفاً وتعليقاً على 279 كتاباً يونانيّاً مع تحليل لمضموناتها، وكان من ضمنها كتاب فيلوستورجيوس. ولهذا قُسّمت أجزاء كتابه إلى عناوين تحمل مسمّى: «خلاصة» (EPITOME OF BOOK)، على أن يتضمّن كل كتاب عناوين فرعيّة باسم: «فصل».

وجرى نوع من إعادة إخراج الكتاب، ثمّ تُرجم إلى اللغة الألمانية وكانت آنذاك أول طباعته عام 1913. ثمّ ترجم إلى لغات أوروبية أخرى، آخرها اللغة الإنجليزية. وهو ينقل في هذا الكتاب بعض أخبار البلدان من Theophilus. والترجمة الإنجليزية تمّت في طبعة علمية رائعة عام 2007، بتحقيق: الأستاذ فيليب أميدون (Philip R. Amidon) الذي بذل جهداً مقدَّراً في التدقيق والتحقيق والتعليق.

بلاد اليمن

يذكر فيلوستورجيوس أنّ الإمبراطور قسطنطيوس الثاني (331 - 361 م)، البيزنطي بعث إلى مَن كانوا يدعون سابقاً بالسبئيين، والآن يُعرفون بالحميريين، وهم قبيلة كبيرة ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام، من زوجته قطورة.

وهم سكّان بلاد العرب السعيدة التي تمتدّ بسواحل طويلة على المحيط. وعاصمتها في أرض سبأ، تلك البلدة التي خرجت منها الملكة للقاء سليمان عليه السلام. وهؤلاء الحميريون يتقرّبون إلى المعبوديْن الشمس والقمر، إضافة إلى معبودات محلّيّة أخرى.

وهو هنا استعمل مصطلحين للدلالة على شبه الجزيرة العربية، أحدهما يعني بلاد الجنوب تحديداً وهو (Arabia Felix)، والمصطلح الثاني هو Arabia Magna، وهو يشير بالذّات إلى العربية الكبيرة أي بلاد العرب الكبرى، وليس بلاد اليمن كما يُفهم من قوله.

وقد بعث إليهم الإمبراطور رسالة يدعوهم فيها إلى الدين الحقّ وترك عبادة الأوثان. وكان الإمبراطور عازماً، وفق خطته، على التوافق مع ملك الحميريين من خلال الهدايا الرائعة وكلمات الإقناع اللطيفة، ومن ثَمّ اغتنام الفرصة على الفور لبذر بذور الدين.

كما طلب الحصول على ترخيص لبناء الكنائس نيابة عن كلّ الشعوب الرومانية الذين أتوا إلى هناك عن طريق البحر، وسكان البلاد الذين كانوا يرغبون في اعتناق النصرانيّة دون ضغط أو تخويف. كما طلب منه السماح له ببناء كنائس في بلاد حمير. وكان الإمبراطور قد بعث مع السفارة 200 من الخيول المربّاة جيداً في كابادوكيا، وأرسل معهم العديد من الهدايا الأخرى.

ويذكر فيلوستورجيوس أنّ السفير Theophilus تداخل كثيراً مع الحميريين، وجالسهم، واختلط بهم، وحاورهم في أمور العقيدة، وأقنعهم بأسلوبه الماتع. وحين تمّ الفراغ من إنشاء الكنائس الثلاث ساهم هذا السفير في تزيينها وزخرفتها. وعند عودة السفير أنعم عليه الإمبراطور بمرتبة الشرف.

وقد تكلّلت هذه السفارة بالنجاح إذ آمن بالنصرانية أحد أمراء الحميريين، عن طريق الاقتناع الصادق، فأمر ببناء ثلاث كنائس في المنطقة، ولكن ليس، من المال الذي جلبه سفراء الإمبراطور معهم، ولكن من المبالغ التي قدمها طواعية من موارده الخاصة. وقد بُنيت هذه الكنائس، واحدة في العاصمة الحميريّة ظفار. وواحدة في محيط ميناء عدن.

وواحدة في منطقة الخليج العربي، وتحديداً بالقرب مِن مدخل الخليج. وهذه الإشارة الأخيرة إلى بناء هذه الكنيسة عند مدخل الخليج العربي ربما يعتريها بعض الشكّ نظراً لعدم خضوع هذه المنطقة لحكم الملك الحميري كما أنّ هذا الإقليم تحديداً يقع ضمن إطار النفوذ الساساني.

ومن الجدير بالذِّكر أنه استخدم مصطلح (legatis) باللاتينيّة ويعني «سفراء»، ما يشير إلى أن الإمبراطور البيزنطي قد أرسل وفداً كبيراً لبلاد اليمن، كان هذا الوفد برئاسة Theophilus. ما يدل على عظم اهتمام بيزنطة بهذه البلاد، وإدراكها لدورها الاقتصادي والسياسي والعسكري، إضافة إلى أهميّة موقعها الاستراتيجي.

بلاد الحبشة

لا تبعد كثيراً عن بلاد اليمن السعيدة، ويقطن الأحباش سواحل البحر الأحمر القريبة من مضيق باب المندب. ويسكن الأكسوميون وهم الأحباش في الجزء الغربي من البحر الأحمر، وعاصمتهم تدعى: أكسوم. ويشير فيلوستورجيوس إلى نمو أشجار القرفة بكثرة في الجزء الأفريقي من البحر الأحمر. كما تكثر في هذه المنطقة الفيلة.

سوريّو البحر الأحمر

في إشارة غريبة يذكر فيلوستورجيوس أنه إلى الشرق من بلاد أكسوم، يسكن السوريون، الذين تتصل أراضيهم بالمحيط الآخر. ويعلّل وجودهم في هذه الأماكن أن الملك الإسكندر الكبير المقدوني وضعهم هناك بعد أن أخرجهم من سوريا، وما زالوا يتحدّثون لغتهم السورية المتوارثة.

وهذه الإشارة تذكّرنا بما أورده آريان في حديثه عن الإسكندر المقدوني أنه كان ينوي نقل جماعات من سوريا للسكنى على سواحل الخليج العربي، وجزره.

البحر الأحمر

يمتد البحر الأحمر امتداداً طويلاً جداً، ينتهي في خليجين متمايزين، ينحني أحدهما في اتجاه مصر، ويسمى القلزم، باسم موضع يقع في رأسه. ويتجه الخليج الآخر صوب اتجاه، بالقرب من مدينة تحمل اسم أيلة (العقبة) منذ العصور الأولى.

الرافدان

يذكر فيلوستورجيوس أنّ نهرَي دجلة والفرات من أعظم أنهار الدّنيا، ويصبّان في الخليج العربي، الذي اعتبره شعبة مائيّة للمحيط الهندي. ويقطن شواطئ هذا البحر العديد من الأمم.

ويمتدّ نهر دجلة نفسه في اتجاه الجنوب الشرقي، تحت بحر الهيركاني (قزوين)، ويبدو أنه يأخذ طريقه في بلاد الأكراد، ومن هناك تتدفّق مياهه على طول جانب سوريا، ثم تلتقي مياه دجلة بمياه نهر الفرات، فتتدفّق في مجرى عميق وسريع، في هدير عنيف، كثير الدوامات، حتى يصبّان معاً في مياه الخليج العربي.

أمّا نهر الفرات فهو ينبع من بلاد الأرمن التي يقف فيها جبل أرارات، وهو الجبل نفسه الذي يقول الكتاب المقدس أن الفُلك يقع عليه.

ويقال إن العديد من شظايا الخشب والأظافر التي يتكون منها الفُلك ما زالت محفوظة في تلك المناطق. وينطلق النهر في البداية في مجرى صغير، لكنه يزداد اتساعاً تدريجيّاً، ويصبّ في مجراه العديد من الأنهار الأخرى والجداول.

ثم يشقّ النهر طريقه عبر سوريا، متعرجاً مع العديد من المنعطفات في كل منطقة يمر بها، حتى يصل إلى شبه الجزيرة العربية، حيث يأخذ مساراً دائرياً، عندما يكون في مقابل البحر الأحمر تقريباً حتى يلتقي أخيراً بنهر دجلة. ويصبّان معاً في الخليج العربي. وتسمّى المنطقة المتموضعة بين النّهريْن: «بلاد الرافدين».

«ميسان»

يبين المؤرخ في كتابه أنه حين يصبّ الرافدان (دجلة والفرات) في الخليج العربي تتكوّن عند مصبّهما جزيرة كبيرة يحيط بها البحر من الجنوب والنّهران من الشمال. وتُعرف هذه المنطقة باسم: ميسان.

والكاتب هنا يقصد ما كان معروفاً من مملكة ميسان العربية القديمة. ثم يضيف: إن معارفنا حول مصادر مياه نهرَي الفرات ودجلة ممّا وصل إلينا من معلومات. ولكن كتبنا المقدّسة تقول إن هذين النّهريْن ينبعان من الفردوس.

 

 

Email