راشد بن سعيد.. السنة الأولى في الحكم 2-1

ت + ت - الحجم الطبيعي

يذكر تاريخ إمارة دبي بكل الفخر والاعتزاز، المسيرة الطيبة التي خاض غمارها المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في الحياة والسياسة والإدارة والحكم.

وكانت معيشته ضمن كنف والده الكبير، الشيخ سعيد بن مكتوم، رحمة الله عليه، قد وفّرتْ له ميداناً خصباً للحركة والنّشاط وممارسة الإدارة والتواصل مع الناس وتفهّم أوضاع البلد، وتلمّس هموم المواطنين، والتعرّف على أحوال الاقتصاد. وكانت مشاركاته المباشرة في إدارة شؤون الإمارة عاملاً مؤثّراً في اكتساب المهارات والخبرات.

وفي حلقتين نطالع عن كثب نشاط المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، خلال سنته الأولى في حكم إمارة دبي من 10 سبتمبر 1958 و10 سبتمبر 1959، لنتعرّف على حجم النشاط الكبير الذي باشره في تلك السنة، وهو يضع اللّبنات الأولى للنّهضة العامّة والشاملة التي شهدتْها الإمارة خلال فترة حكمه.

وهي فترة زاهرة، زاخرة بالإنجازات، وفي اعتقادي أنّ العام الأول كان فيه وضع الخطوات الأولى لمسيرة البناء والتنمية في إمارة دبي التي ظلّت تنمو وتتطوّر خلال عقود من الزمن حتى عصرنا الحاضر.

الوثائق الشاهدة

رأيتُ أنّ الوثائق البريطانيّة تحتفظ بكمّ كبير من المعلومات حول عهد المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، بين عامَي 1958 و1971. وهي فترة كثيرة النشاط والحركة، وكانت السنة الأولى من حكمه تعدّ الملمح الأول للتجربة في ممارسة السلطة والإدارة في آنٍ واحد.

وكما أشرنا سابقاً في أكثر من مقال أنّ الوثائق البريطانية حول منطقة الخليج العربي تمثّل مخزوناً لا ينفد من المعلومات المتنوّعة حول المنطقة سجّلها ودبّجها وكتبها ودوّنها كثيرون من المسؤولين البريطانيين من سياسيّين وعسكريّين ورحّالة وإداريّين وأطبّاء ومصوّرين وزائرين.

وخلال فترة طويلة من الزمن احتفظ البريطانيون بذاكرتهم وذِكراهم حول المنطقة في وثائق خاصّة بلغت الملايين كانت مورداً ومَعيناً للباحثين بشتّى تخصّصاتهم واهتماماتهم. ومن ضمن هذا الاهتمام بالتدوين كانت سجلّاتهم حول السنة الأولى. ونقدّم إلى القارئ ما كتبوه.

البدايات الأولى

توفّي الشيخ سعيد بن مكتوم، رحمه الله، في سبتمبر عام 1958، وخلفه ولده، المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي كان في الأصل قائماً بالحكم في حياة والده منذ عشرين عاماً. وأصبح في حياة والده أحد أشهر القادة في الإمارات، وهو في الوقت نفسه أكبر أبناء الحكّام سنّاً آنذاك.

كما اكتسب سمعة طيّبة تدلّ على سماحة أخلاقه. وقد أصبح المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي تلقائيّاً، بعد وفاة والده، وكان ذلك يوافق رغبة جميع أهالي دبي، بل وحكّام الإمارات الآخرين الذين كانوا على علم مسبق بأنّ الشيخ راشد سيخلف والده. ونتيجة لتعامل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم مع الإدارة والحكم في حياة والده، فإنّه قد اكتسب خبرة كبيرة.

الشيخ سعيد بن مكتوم ـ رحمه الله

تبادل المسؤولون البريطانيون في منطقة الخليج العربي خبر وفاة الشيخ سعيد بن مكتوم بمجرّد إعلان وفاته في صباح 10 سبتمبر 1958 (يوم الأربعاء 26 صفر 1378 هـ).

وكانت أول برقيّة بعثها السير دونالد فردريك هاولي (Donald Frederick Hawley)، المقيم السياسي في الإمارات بين عامَي 1958 و1961، إلى مكتب وزارة الخارجية وإلى دار الاعتماد في البحرين الساعة 7.30 صباحاً. وفي تقرير أعدّه.

بتاريخ 29 سبتمبر 1958، يذكر أنّه شخصيّاً وهـ. ب. ولكر (H. B. Walker) مساعد المعتمد السياسي، وعلي البستاني، المساعد العربي، وبقيّة هيئة المعتمديّة قد اتجهوا لبيت الشيخ سعيد بن مكتوم للمشاركة في مراسم الدفن.

وأنّه شاهد هناك عدداً من الأهالي يلبسون الأبيض ينتظرون كذلك الجنازة، ويذكر طريقة التعزية وما يقال فيها. وأنّ هذه التعزية عادة ما تقال لأهل المتوفّى وأقاربه والمقرّبين إليه. ويصف هاولي الزيّ الرسميّ لمنتسبي شرطة دبي الذين رآهم هناك

. ويشير إلى أنّه بعد انتظار لفترة، ظهر من البيت رجال بلباس أبيض يحملون النّعش، والجثمان مغطّى بقماش غليظ أحمر ذي مربّعات. وتبع الجميع النّعش سائرين على أقدامهم في خشوع، وكان من ضمنهم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. وكان من الأجانب دونالد هاولي ومساعده، إضافة إلى مدير البنك البريطاني للشرق الأوسط.

وكان المشهد مهيباً. وعند إحدى زوايا الطريق توقّف الجمع، وسُمع صوت الشيخ محمد نور وهو يتلو آيات من القرآن الكريم، وخيّم على الجو خشوع وحزن مختلط بالدعاء. وبعد المشي لحوالي الميل والنصف وصل الجمع إلى المقبرة. وهناك تجمّع عدد من الأهالي وصلّوا على الجثمان إذ فاتهم الصلاة عليه في المسجد حين أُخرجت الجنازة من البيت.

وقبيل الدّفن جلس المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، القرفصاء تحت ظلّ خفيف يستره عن الشمس، وحينها استغلّ المعتمد الفرصة للسلام عليه، وتقديم العزاء إليه. ثمّ ووري الفقيد الثرى، تتبعه دعوات الحاضرين بالرحمة والمغفرة. وبعدها أخذ الأهالي بالسلام على المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم وتقبيله على أنفه، وكان يعلوه الحزن، وتظهر عليه علامات التأثّر والإرهاق.

وقد أحضر ماء بارد من دار الاعتماد إلى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، ثمّ حين عاد إلى البيت ذهب إليه المقدّم الطبيب د. ج. ماكاولي (D. G. MaCaully) للاطمئنان على صحّته. وبعد إتمام إجراءات الدفن، والدعاء للفقيد، انصرف الجميع.

الشيخ راشد في حكم الإمارة

يذكر هاولي نفسه أنّ الشيخ راشد أعطاه رسالة تؤكّد أنّه تولّى الحكم في إمارة دبي مباشرة بعد وفاة والده الشيخ سعيد بن مكتوم، وأنّ سياسته في العلاقات المبنيّة على الصداقة والتعاون ستتواصل مع الحكومة البريطانيّة. وفيها يسأل الله تعالى العون والسداد. ويشير في تقرير آخر أن الشيخ راشد خاطب حكّام الإمارات الآخرين بتولّيه حكم الإمارة خلفاً لوالده الراحل.

يوم التنصيب

يلمح هاولي في تقرير آخر بتاريخ 9 أكتوبر 1958 أنّه في يوم الرابع من أكتوبر 1958 (السبت 21 ربيع الأول 1378 هـ) حضر المقيم السياسي البريطاني في البحرين برنارد بوروس (Sir Bernard Alexander Brocas Burrows) برفقة القائد نيجل ماثيوز (Commander Nigel Matthews) مع هيئة دار الاعتماد في دبي، الاحتفال الرسمي لتولّي المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، مقاليد الحكم في إمارة دبي، ويذكر أنّ المغفور له الشيخ راشد بن سعيد طيب الله ثراه، بنفسه، قد استقبل المعتمد ورحّب به، وهو الذي سلّم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد طيب الله ثراه تهاني الحكومة البريطانيّة، له بتولّي الحكم في الإمارة.

وقد قدِم بوروس من البحرين على ظهر الباخرة التي رستْ في ميناء دبي، في صباح يوم الاحتفال. وصادف يوم وصوله أنّ الميناء كان غاصّاً بعشرات السفن والقوارب ترفع كثير منها عَلَم الإمارة. وحين وصول المقيم السياسي إلى مجلس الحكم استقبله المغفور له الشيخ راشد بحفاوة وترحيب، كما صافحه كبار أفراد الأسرة وبقيّة الحضور.

وكان من ضمنهم الشيخ مكتوم بن راشد، رحمه الله، والشيخ خليفة بن سعيد، والشيخ جمعة بن مكتوم، والشيخ مكتوم بن جمعة، والشيخ محمد بن حشر. ثمّ يسترسل هاولي في وصف الملابس والأثاث من سجّاد وكراسي وآرائك وغيرها والزيّ العسكري، وكأنّه كان عيناً فاحصة لكلّ ما تقع عليه.

وكان من ضمن الحضور في تلك المناسبة: الشيخ أحمد بن راشد المعلّا، حاكم أمّ القيوين، والشيخ راشد بن حميد النّعيمي، حاكم عجمان، وممثل عن الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة، والشيخ حميد بن محمد القاسمي نيابة عن أخيه الشيخ صقر، حاكم رأس الخيمة، الذي لم يتمكّن من الحضور لمرض أَلمّ به آنذاك. إضافة إلى جمع غفير من عِلية القوم والأهالي.

 

 

Email