حلقاتها تمثل رحلة ممتعة بصرياً وفكرياً

«تاريخ الإمارات».. سلسلة وثائقية ولدت من رحم الاكتشافات

ت + ت - الحجم الطبيعي

«رحلة ممتعة بصرياً وفكرياً، تفيض جنباتها بالمعرفة لما فيها من ثراء معلوماتي»، قد يكون ذلك وصفاً بسيطاً لما حملته السلسلة الوثائقية «تاريخ الإمارات»، التي مضى منها حتى الآن 3 حلقات فقط، فيما تبقي منها حلقتان، تحملان بين ثنايا مشاهدهما «وجبة معلومات دسمة» تسرد تاريخ الإمارات الذي يتوغل كثيراً في الماضي، فتعيدنا السلسلة إلى الوراء نحو 125 ألف عام، وتقدمها للمشاهد بسلاسة لافتة، كاشفة بذلك عن أشياء كثيرة، قد نعرفها للمرة الأولى، ليتجلى في ذلك قول المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إن «التاريخ سلسلة متصلة من الأحداث، وما الحاضر إلا امتداد للماضي، ومن لا يعرف ماضيه لا يستطيع أن يعيش حاضره ومستقبله»، ذلك القول الذي تحول لاحقاً إلى وصية حملها أبناء الإمارات، وسعوا جاهدين إلى تطبيقها، عبر تواصلهم مع الماضي.

بحث واسع

المتابع لحلقات السلسلة التي ستطل على الملأ بـ 35 لغة، وستعرض مطلع الشهر المقبل في 50 دولة، وولدت فكرتها من رحم الاكتشافات التي شهدتها الدولة، سيشعر بمدى الجهد المبذول، لا سيما وأن العودة إلى الوراء آلاف السنوات تتطلب بحثاً واسع النطاق، ولقاء مع خبراء يمتلكون المعرفة الكافية لسبر أغوار التاريخ، وهو ما يتجلى في مشاهد السلسلة، التي تتنقل بسلاسة بين الحقب التاريخية، غير مكتفية بما تجود به الكتب والدراسات، وإنما تستند أيضاً إلى الاكتشافات الأثرية التي شهدتها الدولة على مدار العقود الماضية، في مناطق عديدة تقطع كل مدن الدولة، بدءاً من جزيرتي مروح ودلما بأبوظبي، ومنطقة جميرا في دبي، ومليحة في الشارقة، وتل أبرق في أم القيوين، وجلفار في رأس الخيمة، ورؤوس الجبال في الفجيرة، حيث تزخر كل واحدة منها بطبقة سميكة من المعلومات التاريخية، والتي تكشف لنا في عمومها عن كيفية بدء الحياة على هذه الأرض، إبان العصر الحجري، والعصور اللاحقة.

قاعدة أساسية

تلك الأماكن وغيرها شكلت قاعدة أساسية للمعلومات التي تسردها السلسلة على الملأ، فيما يتم ربطها من خلال السرد مع الحاضر، الذي يشكل الإمارات حالياً، وهو ما يعكس عملية التطور التاريخي التي مرت بها، في حين أن السلسلة لم تكتفِ بذكر حقائق علمية بنيت على أساس اكتشافات عظام الإنسان والحيوانات والأسماك، والمواد التي سادت في تلك الفترة مثل النحاس وغيره، ولكنها تتعرض أيضاً إلى طرق العيش التي كانت متبعة قديماً على هذه الأرض، ولعل زائر منطقة مليحة حالياً يستشعر ذلك من خلال الحفريات التي تجري على أرضها، والمكتشفات التي خرج بها علماء الآثار هناك، ومعظمها محفوظ في متحف مليحة. لا تقتصر السلسلة في سردها على حياة الإنسان، وإنما تتعرض أيضاً إلى طرق عيشه، بالاعتماد على نوعية البيئات الإماراتية، البحرية والجبلية والصحراوية، وتستعرض لنا عملية الابتكار التي قام بها الإنسان الذي وجد على هذه الأرض، منذ العصر الحجري والعصور التالية، ليؤمن لقمة عيشه، وكيف تحولت العين إلى واحة خضراء تحتضن نحو 8.5 ملايين نخلة، بعد ابتكار «الأفلاج» التي لا تزال تستخدم حتى اليوم.

استعراض التاريخ والحضارات ليس أمراً سهلاً، فهو يكاد لا يكون قاصراً على الإنسان، وإنما يتعرض أيضاً إلى علاقته مع الحيوان، وهو ما تتعرض إليه السلسلة في مشاهد من حلقتها الثانية، لتثير في النفس الشغف للتعرف على هذه العلاقة، حيث تفسر لنا سر ارتباط الإماراتي بالجمال والحصان العربي والصقور، حيث إن لكل واحدة منها حكاية، فاكتشافات «تل أبرق» التي تعود إلى الوراء نحو ألف عام، مثلاً تبين أن الإمارات كانت حاضنة لأول استئناس للإبل في المنطقة، والأمر كذلك ينسحب على الحصان العربي، حيث بيّنت الاكتشافات في منطقة مليحة عن بقايا أناس دفنوا مع خيولهم، وزائر متحف مليحة يتلمس ذلك من خلال جسم الخيل المعروض بداخله، والذي يكشف تجذر العلاقة بين الخيل والإنسان الإماراتي، وكذلك الأمر بالنسبة للصقارة، والتي تثبت السلسلة أن لهذه المهنة جذوراً عربية، حيث تستند في ذلك إلى مخطوطة عربية ترجع إلى القرن الثامن، وتوثق كل ما يتعلق بالصقور، وتصفها من الناحية الجسدية، وتتطرق إلى أمراضها وطرق علاجها، والتي تشبه إلى حد كبير ما هو مستخدم بالإمارات في الوقت الراهن.

سرد المعلومات

القائمون على السلسلة لم يبخلوا أبداً في سرد المعلومات، لذا يمكن اعتبارها إنجازاً مهماً ليس فقط للإمارات، وإنما للتاريخ الإنساني، كونها تمثل رحلة مشوقة تطوف بين جنبات الماضي، وتكشف أن التسامح في الإمارات متجذّر فيها منذ فجر التاريخ، وفي هذا الجانب، نجدها تتعمق كثيراً، لتكشف لنا عن التنوع الديني الذي شهدته الإمارات، خلال الحقب التاريخية الماضية، حيث نلحظ تعمق السلسلة في استكشاف العديد من الممارسات الدينية التي سادت الأرض بدءاً من العصر الحجري وحتى الآن، مع التركيز على نشأة الإسلام في الإمارات، وتجذره بين مواطنيها، وتعرج السلسلة أيضاً على الدير المسيحي الموجود في جزيرة صير بني ياس، والذي يشكل دلالة على التعايش السلمي الذي تحظى به الدولة، وتقدم السلسلة على ذلك دليلاً، يتمثل في «جلفار» الواقعة شمال رأس الخيمة، حيث تؤكد أنها كانت أحد أعظم الموانئ أثناء العصر الذهبي للإسلام، وأنها كانت موطناً لنحو 40 ألف شخص.

فكرة السلسلة

لا يبدو أن العمل على إنتاج السلسلة كان هيناً، فقد احتاجت لنحو 4 سنوات لإنجازها، وفق ما أكده جهاد درويش، رئيس قسم التسويق والاتصال في شركة «إيمج نيشن أبوظبي»، لـ«البيان»، حيث أوضح أن فكرة السلسلة ولدت من رحم الاكتشافات التي شهدتها الدولة طوال العقود الماضية، وقال: «الكل يعتقد أن تاريخ الإمارات بدأ قبل 48 عاماً، حيث يتم عادة ربطه مع إعلان الاتحاد في 1971، ولكن في الواقع أن كل الاكتشافات الأثرية التي شهدتها الدولة ولا تزال تبين أن تاريخ هذه الأرض يمتد لأكثر من 125 ألف عام». وأضاف: «خلال الأعوام الماضية، شهدنا اكتشافات أثرية في العديد من المجالات، ولذلك ارتأينا توثيقها في عمل واحد، وسلسلة متكاملة، قادرة على سرد التاريخ، وتقديم نظرة خاصة عن الإمارات».

ويذكر درويش أن تقسيم السلسلة إلى خمس حلقات، كل واحدة منها تسلط على جانب معين من تاريخ الدولة، أسهم في تبسيط عملية السرد. وقال: «تقسيم السلسلة إلى أجزاء ساعدنا في تقديم نظرة خاصة عن هذه الفترة التاريخية الممتدة، كما ساعدنا أيضاً في تطوير المحتوى المقدم فيها، والذي نستند فيه إلى خبرة الكثير من علماء الآثار والجيولوجيا والعارفين في المجالات الأخرى، وذلك من أجل تقديم محتوى واضح وبسيط وموثق في الوقت نفسه».

صورة وتقنيات

فترة زمنية كبيرة تغطيها السلسلة الوثائقية، ضمن حلقاتها الخمس، التي تبث محلياً، وأجزائها الثلاثة التي تبث عالمياً، وبلا شك أن رصد ذلك كله كان يحتاج إلى بذل جهود مكثفة، وتجنيد فرق عمل ضخمة، لتبدو تلك أشبه بتحديات، تمكنت «إيمج نيشن أبوظبي» من تجاوزها، وهنا يشير درويش إلى أن وضع «تاريخ يمتد على مدار 125 ألف عام، في خمس حلقات، مدة كل واحدة منها نحو 50 دقيقة، كان يحتاج إلى بذل الجهد وتقديم عمل متقن، ولذلك احتاج العمل 4 سنوات، خلالها شهدنا الكثير من الاكتشافات التي لم يكن بالإمكان غض الطرف عنها لأهميتها، وبالتالي فضلنا تسليط الضوء عليها، وهو ما شكل تحدياً أمامنا، حيث توجب متابعة الاكتشافات وما توصلت إليه»، مشيراً إلى أن ذلك مكّن القائمين على السلسلة من تقديم «وجبة معلوماتية دسمة، الكثير منها يتعرف عليه المشاهد لأول مرة».

تقنيات حديثة

لعل اللافت في هذه السلسلة هو اعتمادها على تقنيات حديثة في عمليات التصوير والمونتاج، والتي أسهمت في تقديم صورة آخّاذة، ما يدلل على مدى اهتمام «إيمج نيشن» في صناعة المحتوى. درويش أكد في هذا الصدد أن «الاهتمام بتقديم محتوى قوي وجيد كان يتطلب العمل بهذه التقنيات، والتي ساعدت في سرد تاريخ الدولة، ومنح المشاهد نظرة أو تصور عن شكل الحضارات التي كانت سائدة في العصور الماضية»، مشيراً إلى أن تقنية CGI ساعدت كثيراً في خلق تصور للحضارات الماضية، بالاستناد إلى البقايا الأثرية التي خلفتها. وقال: «شكلت هذه التقنيات أداة مهمة لنا لتوضيح كيف كانت الحقب التاريخية الماضية، ومن خلالها قدمنا تصوراً واضحاً لطرق العيش والتطور التاريخي الذي شهدته الدولة، ومطابقته مع الواقع، فضلاً عن ذلك استخدمنا تقنية التصوير بزاوية 360 درجة، وهو ما منح الصورة أبعاداً إضافية». ونوه إلى أن هذه التقنيات أسهمت في رفع مستوى الإنتاج، وأعطته أبعاداً جديدة. وقال: «أعتقد أنه من دونها كان من الصعب إيصال المعلومة إلى المشاهد».

لا يتوقف عرض السلسلة على نطاق حدود الدولة، فهي ستطل بعد أيام قليلة على الفضاء العالمي، عبر شاشه «ناشيونال جيوغرافيك» التي ستقوم ببثها في 50 دولة، وفق ما أوضحه جهاد درويش، الذي أشار أيضاً إلى أنه تمت ترجمة السلسلة إلى 35 لغة حية، من بينها الإنجليزية والصينية والألمانية والفرنسية، وقال: «هذا الاتساع في العرض يساعدنا كثيراً في تعريف العالم، ليس فقط بتاريخ الدولة، وإنما بكل ما شهدته هذه الأرض من تقلبات حضارية وتاريخية».

عرض

نظمت هيئة الشارقة للآثار بالتعاون مع وزارة الثقافة وتنمية المعرفة وشركة «إيمج نيشن أبوظبي»، أمس، في قصر الثقافة، عرضاً خاصاً للحلقة الثانية من السلسلة، وفيلماً قصيراً عن كواليس إنتاجها. وأكد عيسى يوسف، مدير الآثار والتراث المادي في هيئة الشارقة للآثار، أن الفعالية جاءت في إطار جهود الهيئة لتسليط الضوء على السلسلة التي شاركت في تصويرها، وعرض أهم المراحل من تاريخ المنطقة وشعوبها لتوعية مختلف شرائح المجتمع بأهمية تاريخ الدولة والمحافظة على آثارها وكنوزها التاريخية.

Email