جذور

توثيق لمجتمع الإمارات قبل 200 عام هنري وايتلوك

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ نهايات القرن السابع عشر، بدأتْ بريطانيا في مدّ نفوذها صوب منطقة الخليج العربي، ثمّ أخذتْ بتثبيت أقدامها في المنطقة، ومع مرور الوقت، أصبحتْ القوة المسيطرة الكبرى في الخليج.

ومنذ عام 1819 وما بعده خاض البريطانيون صراعاً مع الزمن، وصراعاً مع المعرفة للتعرّف على الخليج العربي سكّاناً وجغرافيا وبيئةً واقتصاداً وأحوالاً.

وبدأتْ التقارير تنهمر مثل المطر على الجهات المختصّة بالسلطات البريطانيّة في الهند ثم في لندن. كما أخذتْ هذه التقارير والمسوحات تشكّل وجهة النّظر البريطانيّة حول المنطقة وأهلها عبر أكثر من 200 عام. ومع مرور الزمن أضحتْ هذه الكتابات مستودعاً للباحثين والمتخصّصين ليستخرجوا منه ما يناسب من معلومات وأخبار ورؤى وتصوّرات سادتْ لفترة طويلة من تاريخ العلاقات الدوليّة مع المنطقة.

في هذه الحلقة نستعرض مع القارئ الكريم أحد هذه التقارير المهمّة والمبكّرة التي أعدّها أحد رجال الوحدة البحريّة البريطانيّة في الهند، ويدعى الملازم هنري وايتلوك (Henry H. Whitelock) الذي قام بمسح عامّ للإمارات من رأس الخيمة إلى أبوظبي بتكليف من وحدة بومباي البحريّة (The Bombay Marine) بين عامَي 1820 و1829.

وقد نشر وايتلوك تقريره فيما بعد في: (Transactions of the Bombay Geographical Society) في عددها الأوّل بين عامَي 1836 و1838. بعنوان: (An Account of Arabs who Inhabit the Coast between Ras-el Kheimah and Abothubee in the Gulf…, Generally called the Pirate Coast) (ص 32-54).

ومن الجدير بالإشارة إلى أنّ الباحث العُماني هلال الحجري قد ألمح إلى محتويات هذا التقرير بإيجاز شديد في كتابه: «عُمان في عيون الرحّالة البريطانيّين».

عدد السكان

يذكر الملازم وايتلوك أنّ سكّان الإمارات لا يمكن تحديد أعدادهم بدقّة في ذلك الوقت، نظراً أنّ كثيراً منهم يقومون بالأسفار إلى أعالي البحار، كما أنّ غالبيّة الرجال ينخرطون في أعمال الغوص في موسم طويل خلال العام لدرجة أنّ القرى والبلدات تكاد تخلو من الرجال في تلك الفترة. ولا يبقى سوى النّساء والأطفال وكبار السّنّ. بل وحتى تقدير أعدادهم من خلال بيوتهم ومنازلهم سيكون تقديراً خاطئاً.

ومع ذلك فيمكن تقدير أعداد السّكّان بين 11 إلى 12 ألف نسمة، يتبعون القبائل الكبرى في المنطقة. وهم في هذا المحيط يبذلون جهودهم الكبيرة لكسب القوت من خلال الغوص وصيد الأسماك وبعض الزراعة. وفيما يتعلّق بالغوص فإنّه لا يكون إلا حين دفء المياه بين شهرَي يونيو وسبتمبر.

السلاح زينة

ومنذ الشباب فإنّ الرجال يتعوّدون على حمل السلاح، والتزيّن بحمله، وإجادة استعماله، كما يتّصفون بالشّجاعة، وأنّهم عليهم مواجهة الأخطار منذ الصغر، فاعتادوا هذه الحياة.

وكان لكبار السّنّ تقدير كبير في المجتمع. وكانوا يُستَشارون في القضايا الكبرى والمهمّة، وكانوا يعملون على حل المشكلات الاجتماعيّة بين الأهالي.

ويشير إلى رأس الخيمة على اعتبار أنّها آنذاك بلدة مزدهرة، قبل حملة 1819 حين بلغت أعداد سفن الأسفار عند أهلها ما يقارب 400 سفينة، تتراوح أوزانها بين 300 و400 طنّ، وقد تغيّرتْ الأحوال بهذه البلدة بعد الحملة البريطانيّة الكبرى حين استولت القوّات البريطانيّة على أحسن سفنهم السّفّارة.

ويذكر أنّ الإماراتيين حيويّون ونشيطون وأقوياء البنية وذوو عضلات، ويعملون سويّة تحت ظروف مناخيّة صعبة وارتفاع عالٍ للحرارة. وهم في مرحلة الشباب المبكّرة نحيفون، نشيطون، وبين عمر الثلاثين والأربعين أقوياء الأعصاب والعضلات. ولكن مع التقدّم في السّنّ يحلّ بهم الوهن والضعف.

ملابس السكان

أمّا الملابس، فغطاء الرأس سميك، محاك بخيوط من الحرير والقطن، ذي ألوان حمراء أو خضراء أو صفراء فاتحة، يبلغ طوله نحو أربع أقدام، وعرضه ثلاث أقدام، وينتهي طرفاه بخيوط طويلة، وهذا الغطاء الخاص بالرأس يتناسب تماماً مع شخصيّاتهم وسماتهم. ويوضع الغليون في كيس مصنوع من الجلد أو من القرن، يربط بأحد طرَفي الغترة، ويرمى إلى الكتف.

ويحمل الرجال سلاحاً قد يكون رمحاً يبلغ طوله سبع أقدام، ويتمنطقون بحزام جميل يحمل خنجراً غالي الثمن، وربما يحملون سيفاً في غمد من الجلد، مزيّن ببعض الفضّة. ويغطّي البدنَ ثوبٌ طويل مفتوح في جزئه الأسفل، ويكون مغلقاً عند العنق. وينتعلون بنعال مصنوع من جلد الإبل.

أمّا الملابس الخارجيّة فهي مصنّعة من الصوف الملتفّ، إمّا تكون سميكة ومغلقة الحياكة، وإمّا مفتوحة بلطف، والملابس السميكة غالباً ما تكون سوداء اللون، ومزيّنة بخيوط من الذهب حين تُحاك بناء على طلبات خاصّة. بينما الفقراء فعادة ما يرتدون ملابس خارجيّة مخطّطة بيضاء أو بُنّيّة اللون. وتقدّر أثمان هذه الملابس بين دولارين إلى ثلاثين دولاراً.

ويأتزرون بوزرة محكمة الربط ذات مربّعات بيضاء وبُنّيّة اللون. بعضها مصنّعة من الحرير، وبعضها مصنّعة من القطن، ومطعّمة بخيوط من الحرير. ويحلق الرجال شعور رؤوسهم، وعادة لا يتركون لحاهم وشواربهم تطول كثيراً. بينما النّساء، فيرتدين ملابس طويلة، فضفاضة، ويغطّين رؤوسهنّ بمناديل، سوداء يسدلنها على وجوههنّ كذلك، لها ثقوب عند عيونهنّ للرؤية، (هي البراقع).

الأطفال والحياة:

يقول إنّ الأطفال في وضع سيّىء، وكثير منهم مصاب بالتهاب العيون. وأمّا التعليم لهؤلاء الأطفال فمحدود جدّاً، ولهذا فهم يتسكّعون في الطرقات، ويسبحون في البحر، ويلعبون بقوارب صغيرة تشابه القوارب الكبيرة التي يستعملها الأهالي في أسفارهم وغوصهم. وهم بالتالي يجيدون السباحة منذ سنّ مبكّرة جدّاً.

ويذكر أنّ بيوت الميسورين مشيّدة بالحجارة، ولها أسقف مستوية، تُستعمل للنّوم فوقها أحياناً، بشكل غير مريح بسبب عدم وجود السّجّاد المناسب للنّوم عليه سوى حصران وفُرُش سميكة. ويسكن بقيّة النّاس في أكواخ.

وأمّا الطعام فهو عادي ومتواضع وكافٍ، ولكنّة صحّيّ ومغذٍّ، التمور، والأسماك، وخبز الدقيق، والحليب بالإضافة إلى الأرز الذي كان حينها غالي الثّمن، لا يمكن للفقراء الحصول عليه دائماً. ويتكوّن طعام العَشاء أحياناً من الأرز مع الدّجاج أو اللحم إضافة إلى الفواكه.

ويشرب الأهالي القهوة في كلّ الأوقات، في فناجين صغيرة مجلوبة من الصين، وهي موضوعة في وعاء قد يكونّ مصنوعاً من الفضّة أو النّحاس حسب الوضع المادّي لصاحب البيت. وتكثر عند أهالي الساحل التمور، والأغنام والماعز، بينما الفواكه فلا تنمو في هذه المناطق، بشكل كبير، ولكن يباع الليمون والبطّيخ في الأسواق.

وكان الجريب فروت يُجلب من لنجة. وصيد الأسماك شائع بين الأهالي الذين يستخدمون الشباك في صيدها، ويصطادون أنواعاً من الأسماك من القروش، والحمراء، وغيرها. إضافة إلى توفّر اللحوم من الماعز والأغنام والدجاج والبيض والجبن والزبدة. وتدخين الغليون منتشر، ويوجد العديد من الأهالي لا يدخّنون تديّناً.

أواني الطبخ

ويطبخ الأهالي في تنانير فخّاريّة كبيرة محفورة في الأرض، ويضعون الأسماك على الجمر مباشرة، ويشوونها جيّداً. ويخبزون في الوقت نفسه على حوافّ هذه التنانير. وتكون الأسماك المشويّة لذيذة.

وأكثر الأمراض انتشاراً بين الأهالي هي الحمّى والتهاب العيون، والأخير أكثر انتشاراً، ويقال إنّ عدداً من الغوّاصين يصاب بهذا المرض.

تموضع عدد من الكثبان الرمليّة، إضافة إلى وجود عدد من بساتين النخيل خارج البلدات الكبرى، وعادة ما تُروى هذه النخيل من الآبار القريبة منها. والنّاس متديّنون بطبعهم، فهم محافظون على الصلوات في أوقاتها. كما يعاملون مَن عندهم من الخدم بالحسنى.

وعادة ما يتزوّج الرجال في سنّ مبكّرة، بمجرّد مقدرة الرجل على الإنفاق وتكوين أسرة خاصّة به. وتتزوّج النّساء من سنّ الرابعة عشر عاماً.

نقد وتنبيه

مثل هذه التقارير تقدّم لنا رؤى الرحّالة البريطانيين حول المنطقة، وإشارات مهمّة ومفصّلة عن الأهالي وعاداتهم وتقاليدهم ومسكنهم وتجارتهم، باعتبارهم ممثّلين لقوّة استعماريّة تدخّلتْ بدعوى حماية الخليج من الفوضى والنّهب والتنازع، وكما زعموا أن الأهالي لا يهابون أحداً غير البريطانيّين، وتورد بعض المسائل الخلافيّة بين القبائل ليبرز الدور الذي أقرّتْه بريطانيا بالمنطقة.

3000

 

كان الغوص في تلك الفترة المهنة الشائعة في الإمارات، والمهنة التي يعمل فيها أغلب الرجال، الذين يخرجون إلى الغوص في وقت دفء المياه بين شهرَي يونيو وسبتمبر من كلّ عام.

فيما تمتدّ هيرات اللؤلؤ لمسافة 300 بدءاً من الشارقة إلى الغرب، ويقال إنّ سفن الغوص بلغت نحو 3000 سفينة حين إعداد هذا التقرير، لكلّ أهالي الخليج العربي من البحرين إلى الإمارات، إضافة إلى إيران. كما تبلغ حمولة بعض هذه القوارب 50 طنّاً.

وكانت سفن الأهالي تقترب من جزر صير بو نعير وصير بني ياس وزركوه. ثمّ يصف هنري وايتلوك طرق الغوص، واستعداد الغوّاصين بالملابس الخاصّة بالغوص، وسلّة تجميع المحّار، والفطام، وأشار إلى السيوب، ونواخذة الغوص، وفلق المحّار، وأدوات الفلق، وطعام الغاصة على سفن الغوص. ثم بيع اللؤلؤ.

 

Email