بيترو ديلا فالي.. رحّالة إيطالي في الخليج العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المؤكّد أنّ الرحلات تعدّ مصدراً مهماً من مصادر التاريخ، ومن موارد الاجتماع، ومن دلائل الاقتصاد، لكم المعلومات التي يتم استنتاجها من هذه الرحلات، ومن خلال ما يدوّنه الرحّالة من أخبار وقصص حكايات.

وقد تعدّدت مشارب ومآرب هؤلاء الرحّالة، كما تباينت أهدافهم، واختلفت جنسيّاتهم. وفي هذه الحلقة نستعرض بإيجاز وتخيّر مع القارئ الكريم رحلة بيترو ديلا فالي التي تعد من أهمّ الرحلات الأوروبيّة في القرن السادس عشر.

بيترو ديلا فالي

وُلد فالي في روما 2 أبريل 1586 لعائلة إيطاليّة ثريّة ونبيلة. تلقّى تعليمه المبكّر في روما، وأُغرم بقراءة الأساطير الكلاسيكية: اليونانية والرومانيّة، وتعمّق في دراسة الكتاب المقدّس. كما قرأ في الأدب، وتعامل في حياته المبكرة ببيع وشراء الأسلحة.

وانتسب إلى الأكاديمية الرومانية (degli Umoristi) أو أكاديمية الفكاهيين التي كانت تضم عدداً من المثقّفين من النبلاء وعِلية القوم والشخصيات الأدبية البارزة ورعاة الفنون في روما. وكان تأسيس هذه الجمعية في 1603. وخاض مضمار الحبّ والعلاقات الغراميّة، وفشل فيه، وأصيب بالاكتئاب وكاد ينتحر، حتى اقترح عليه صاحبه ماريو سكيبانو، أستاذ الطب في نابولي، فكرة السفر إلى بلاد الشرق.

ارتحال وأسفار

قبل مغادرته مدينة نابولي، حصل فالي على صكّ بالحج إلى الأماكن المقدّسة في فلسطين. ومن نابولي سافر بحراً إلى البندقية ومنها أبحر في 8 يونيو 1614 إلى إسطنبول، وأقام بها قرابة العام، وهناك ألمّ جيّداً باللغة التركية، واللغة العربية.

ثمّ سافر إلى الإسكندرية في 25 سبتمبر 1615، ومنها ذهب إلى القاهرة ثمّ قام برحلة إلى جبل الطور بسيناء، وبعدها إلى فلسطين، حيث وصل بيت المقدس في 8 مارس 1616، وهناك شارك في احتفالات عيد الفصح.

ثم سافر إلى دمشق فحلب ثمّ بغداد، وقام بزيارة متميّزة إلى موقع بابل الأثري القديم، فوصف الموضع وصفاً رائعاً، كما زار مدن نينوى وأور. ثمّ غادر بغداد في 4 يناير 1617، رفقة زوجته «معاني» التي تزوجها هناك، وزار همدان وأصفهان.

ثمّ اتصل بالشاه عبّاس (مات في 19 يناير 1629) الذي أحسن إليه، وأكرم وفادته. ثمّ قرّر العودة إلى بلاده، ولكن عن طريق البحر نظراً لاشتعال الحروب في البرّ بين الصفويين والعثمانيّين آنذاك. فاتّجه صوب الهند، وتجوّل في غوجارات وغوا، وقدّم حسابات دقيقة للمسافات بين المدن في هذه المناطق، كما وصف البيئة والمناخ والجغرافيا، واتّصل بالمسؤولين الهنود هناك.

وظلّ متجوّلاً، مدوّناً حتى نوفمبر 1624 حيث تمكّن من السفر على متن سفينة بريطانيّة بقيادة القبطان نيكولاس وودكوك (1585 - بعد يونيو 1658). ومرّ في طريقه بمسقط ودخل الخليج العربي ووصل البصرة، ثمّ غادرها برّاً عبر الطريق الصحراوي إلى حلب، ثم استقلّ سفينة فرنسية إلى قبرص حتّى وصل أخيراً إلى روما في 28 مارس 1626. وهناك استُقبل بالعديد من الأوسمة، وكرّمه البابا أوربان الثامن.

عاش فالي بعدها حياة هادئة حتى وفاته في روما في 21 أبريل 1652، ودُفن في قبو عائلته في سانتا ماريا في أراكويلي.

نسخة إيطالية وترجمة إنجليزيّة

كانت هذه الرحلة في الأصل وصفاً دوّنه فالي بدقّة للبلدان المختلفة التي زارها، وكذا العادات والأعراف والتجارة والطقوس الدينية والمدنية لهذه المناطق، من ضمن رسائل وديّة بعث بها إلى صديقه ماريو سكيبانو (Mario Schipano) ثمّ أضاف إليها السير توماس روي (Sir Thomas Roe) (1581-6 نوفمبر 1644) حكاية سفره حول جزر الهند الشرقية.

وقد تُرجِمت هذه الرحلة من الإيطالية إلى الإنجليزيّة على يدي جورج هافرز George Havers. طُبعت في جزأين بلندن عام 1665.

سمت هادئ

في رحلته تتضح عليه مظاهر الاعتقاد، والدعاء إلى الله، واللجوء إلى بركات القدّيسين، خاصّة حين مرور السفينة بالأنواء الصعبة المهلكة.

وفي انطلاقه إلى بحر وبلاد العرب، أشار إلى إبحار السفينة على طول ساحل «مليبار» بعد انطلاقها من ميناء غوا، ثمّ عبورها بحر العرب صوب أقصى الساحل الشرقيّ لشبه الجزيرة العربية. ويذكر أنّه في صباح الثاني عشر من ديسمبر بدأوا يرون عمان من بعيد.

وعند هذه النّقطة تحديداً يشير إلى هبوب العواصف وهطول الأمطار، ما عرّض سفينتهم للخطر وجعل الأمواج تتقاذفها بضعة أسابيع. وفي أحد الأيّام تواصل معهم قارب لبحّارة عرب سلموا عليهم، وقدّموا لهم سمكاً طازجاً. ويبدو أنه هنا عنى بالتحديد منطقة رأس الحدّ التي نصّ عليها، ويقول إنّ البرتغاليّين يطلقون عليه اسم (Cape di Rosalgate).

إلى مسقط

انطلقتْ سفينتهم من رأس الحدّ شمالاً صوب مسقط. يقول: في السابع من شهر يناير 1625 مرّت سفينتنا بالقرب من بلدة قلهات (Calatat) التي تقع إلى الشمال من رأس الحدّ بـ18 فرسخاً، تلك البلدة التي دمّرها القائد البرتغالي ألبوكيرك، يجري بقربها نهر يفيض بالماء أحياناً، عند سفح جبل صغير. ثمّ مررنا بمرفأ صغير يدعى طيوي، وهو مكان يستوطنه العرب.

وقد أشار الرحّالة ابن المجاور إلى قلهات، وذكر طيب مائها، وبساتينها، ونخلها وأنّ بها نهراً دعاه «نهر سقراط». وقرية «طيوي» تبعد عن قلهات مسافة 20 كلم إلى الشمال منها، وقد وصف الرحّالة ابن بطوطة هذه القرية بأنّها إحدى أكثر القرى حيويّة وجمالاً.

ويُوجد بالقرب منها وادٍ اسمه «وادي شاب»، وكانت الزراعة هي السمة المميّزة لهذه القرية، فَبِها بساتين وأشجار، وكانت تمدّ قلهات وعمان وهرمز بالفواكه؛ خاصّة الموز. ويقول فالي: في تلك الليلة أصابنا مطر غزير ظلّ يهطل حتى صباح اليوم التالي، حين مرورنا ببلدة أخرى تدعى «قريّات».

في مسقط ومحيطها

يضيف فالي: ظلّت تتقاذفنا الأمواج حتى وصلنا ميناء مسقط في 13 يناير. وهو ميناء محميّ من هدر الأمواج بجبال تتلاطم بها الأمواج. وتوجد العديد من البيوت المشيّدة من سعف النخيل. ويوجد سور متهالك يمتدّ بين الجبلين. وحين دخلنا خور مسقط لاحظنا على يميننا على الجبل قلعة حصينة لا تُرام.

ونلاحظ أفواه المدافع موجّهة صوب الخور تحرس المكان. ومسقط بحدّ ذاتها بلدة صغيرة، مختطلة السّكّان من العرب والبرتغاليين والهنود وغيرهم من الجاليات. وتوجد فيها كنيستان، مقدّمتان للسيدة العذراء. ويشير إلى جفاف تربة مسقط، وسبخيتها، ما يزيد من حرارتها حين اشتداد القيظ. والقلعة التي ذكرها الرحّالة هي قلعة «الميراني» الشهيرة.

ويدعى القائد البرتغالي المقيم في مسقط: مارتينو ألفونسو دي ميلاو (Martino Alfonso de Melo)، أنه يتنقّل في محلّ إقامته بين القلعة وبيت في البلدة، حسب المناخ، وشدّة الحرارة في الصيف. ويوجد في البلدة أحد أمراء البيت المالك في هرمز، وهو ابن أخ ملك هرمز، ويدعى محمد شاه.

بقي فالي في البلدة بضعة أيّام زار فيها بعض الأصدقاء القدامى من البرتغاليين الذين سبق له الالتقاء بهم في غوا. وألمح إلى وجود سفير ملك الدكن نظام شاه الذي كان في طريقه إلى سيّده بعد قضاء مدّة ليست بالقصيرة. وذكر رسوّ عديد السفن التجارية العربية والسفن الحربية الأوروبية.

ويذكر أنّه في اليوم الثامن عشر من وجوده في مسقط قام بزيارة قرية قريبة من البلدة سمّاها «كلبوه»، وهي باتجاه الطريق صوب صحار، وتتموضع بين الجبال المحيطة بمسقط. وكان للبرتغاليين حضور عسكري في هذه البلدة. ومن المرجّح أنّه يشير إلى «مطرح». وهو أثناء حديثه عن البرتغاليّين ألمحَ إلى الصدامات العسكريّة البحريّة بينهم وبين العثمانيّين الذين وصلوا إلى المياه القريبة من مسقط.

صوب الخليج العربي

ثمّ يتحدث عن إبحار سفينته من مسقط باتجاه مضيق هرمز مروراً بمدينة صحار، ويقول إنها تتوسّط سهلاً منخفضاً تبعد عنه الجبال قليلاً. ثم يشير إلى مروره بخورفكّان بعد صحار.

ثم يشير إلى دبا، ويذكر أنّ البرتغاليين في هذه الأماكن يتخوّفون من العرب..وغير ذلك من المناطق والمدن.وحين يصل إلى مدينة البصرة يسهب في الحديث عنها، وسمّى شطّ العرب «نهر البصرة». وكان حديثه عن هذه البلدة العتيقة دقيقاً ومفصّلاً.

وصف دبا

يقول بيترو ديلا فالي في وصفه محطات رحلته، إنّ دبا تحيط ببعض أجزائها الجبال حتى تلامس في بعض المواضع مياه البحر. ثمّ يصل بعدها إلى قرية ليما (في شبه جزيرة مسندم)، وعندها دخل في عمق جبال مسندم التي تلامس جبالها المياه، فتغوص حتى لا تُكاد تلاحظ. ويقول إنّ ذلك الموضع تحديداً يسمّى: «بابا سِلام»، وهو موضع لا ينتبه له إلا المهرة من النواخذة والبحّارة. ويقصد بـ«بابا سِلام» غبّة سلامة، وهي جزر صخريّة شهيرة تقع عند مدخل مضيق هرمز من جهة مسندم.

 

Email