التراث البحري في الإمارات.. بين الكتاب المسطور والحدث المنظور «3-2»

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند استقراء الموروث الشعبي الإماراتي بكل إيحاءاته ومظاهره ومعالمه، من خلال الإصدارات والإنتاجات العلمية نتعرّف إلى عدّة أمور:

الصيد أساس حياة البحر

إنّ من صميم تراث البحر صيد الأسماك وأدوات الصيد على اعتبار أنّ الصّيد جزء رئيس في الحياة على أرض الإمارات منذ أزمان بعيدة، وكان لكلّ سمكة اسم وصفة ومعنى عند أهل البحر فتداولوه عبر الأزمان، ومنذ تلك الفترة القديمة وصلت إلينا كما هي لفظاً ومعنى.

فأسماك «الكنعد» و«الجدّ» و«الصافي» و«البدح» و«القباب» و«البياح» و«اليريور» و«الكفدار» و«العنفوز» و«القين» و«النّيسر» و«القرفا» و«الهامور» و«الشِّعري» وغيرها كثير.

أمّا أدوات الصيد فهي في الإشارات الشِّعريّة أَوْكَد وآصل؛ لأنّها تتعلّق بالحياة ومصائرها وهي تجري عند الشّعراء مجرى التمثيل والتماثل والتشابه؛ فـ«الليخ» و«الميدار» و«القرقور» و«الضغوة» وغيرها تنال حيّزاً من الذِّكر والإشارة.

للترويح مكان

لا ينفصل التراث البحريّ عن أهازيجه وأغانيه وأدائه الفني، فلولاها لَملّ البحّارة ولَسئم الغاصة ولَاكتأب المسافرون ولَضجّ العاملون، فهي ترويح عن النّفس وتشويق للهوى وتطييب للخاطر وتصبير للقلب، ومن هنا كان للنهّام دور كبير في الأداء الفنّي العالي الراقي الذي حرص عليه مُلّاك سفن الغوص ونواخذة البحر منذ القِدم.

ومن شدّة تعلّق طواقم الأسفار والغوص بالصوت الجميل، ولهذا جعلوا لكلّ حركة نهمة، فما أجمل الأسلاف، وما أروعهم وما أصفى نفوسهم، خاصّة أنّ ظروف الغوص وصعوبة الحياة على السفن، وحالات المعيشة في تلك الفترة وفي تلك المواسم، تتطلّب ترويحاً وتهدئة وتصبيراً.

نفسيّات وأشواق

هذه الأجواء أثّرت بشكل كبيرٍ في نفسيّات طواقم الغوص فأنتجت حزناً وعواطف ومشاعر ألهبت أحاسيس الشّعراء، وألهمتْهم قولاً ونظماً عبّروا فيه عن ذلك الواقع المعاش آنذاك، ويدلّ على قوّة تحمّل أو ضعف أو تحدٍّ أو قبول أو رفض أو عطاء أو بُخل، وهي كلّها تكوّن مشاعر تعبيريّة واقعيّة.

شعراء مجيدون

أجاد فهد المعمري في كتابه " البحر في التراث الشعبي الإماراتي"، في تخيّر الأشعار وانتقاء الأراجيز واصطفاء الشَّعراء الذين عبّروا بصدق عن ذلك الواقع، ودلّل من خلال نظمهم على مشاركتهم الوجدانيّة والعاطفيّة.

وما أجمل تعبيراتهم حين أدخلوا «الخَبّ» و«الخُواهر» و«السنيار» و«السّنّان» و«المعلّي» و«الفشت» و«الثبر» و«السَّجِي» و«الهَلْس» و«اليَزوى» وغيرها في معانٍ وتلميحات وإشارات رائعة. ومن روائع الشّعراء الذين استشهد بأشعارهم الأستاذ فهد: المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، طيب الله ثراه، بأشعار زاخرة بالحكم والأوصاف والمعاني.

ولصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، أشعار رائعة وأقوال حكيمة لامس بها الواقع وعبّر بها عن تراث البحر بأبيات رقراقة جميلة.

كما استشهد الباحث بأشعار: الماجدي بن ظاهر والشيخ سعيد بن طحنون الفلاحي وراشد الخضر وسعيد بن عتيج الهاملي وعبدالله بن سلطان بن سليّم وراشد بن طنّاف وحميد بن ذيبان وغانم بن عبيد بن خليفة المطروشي وأحمد بن خلف العتيبة وعلي بن قمبر وسالم بن حميد البحري السويدي وأحمد بن خليفة الهاملي وعلي بن رحمة الشامسي وربيّع بو سنّاد وعبدالعزيز بن أحمد الشويهي وخلفان بن يدعوه المهيري وراشد بن حميد المزروعي ويعقوب الحاتمي وسلطان الشاعر وربيّع بن ياقوت وأحمد بن عبدالله بن حميّد السويدي وغيرهم، وتبقى العهدة على الكاتب في توثيق هذه الأشعار ونسبتها إلى قائليها.

أمثال ورمزيّة وخراريف

ولا يتمّ الحديث عن تراث البحر دون الحديث عن الأمثال البحريّة، كقولهم: «إذا ضبّبتْ خبّبتْ» و«البحر له ناس لفّيحة يعرفون التّوح من اليَرّة هُوبْ كلّ مَن عقّ سرّيحه قال هذا خيط بايِرّه» و«البِلْد شرات عكّاز العَمَي» و«حصباة فيها دقّة» و«خَذْنا بِشراع ومِيداف» وغيرها كثير.

وإضافةً إلى ذلك فإنّ الكنايات البحريّة لها إشارات مثل قولهم: «إضرب يوش» و«البحر فيه لاغش» و«خاطف اشْراعه» و«دِقَل» و«على مَايْتِه» و«اموقّظْ اللّوه» إلى غير ذلك من الكنايات.

ومن الملاحَظ أنّ كلّ هذه الأمثال والكنايات تحكي واقعاً، أو تصف حالاً، أو تنتقد وضعاً خاطئاً، أو تنصح مخطئاً، أو تنعت شخصاً، أو تلفت نظراً، أو تقدّم عملاً رائداً، أو تنبّه غافلاً، أو ترشد ضالّاً، أو تحمّس متكاسلاً، أو ترفع من قيمة أحد، أو تُعلي من شأن فرد. وهي كلّها تتصل بالبحر وأهواله وأحواله وأفعاله وتقلّباته وتعكس كلّ ذلك على حياة الإنسان على هذه الأرض المباركة المعطاءة التي تفاعل فيها آهلوها مع حياة البحر.

أمّا القصص البحريّة فتشمل سوالف أهل البحر سواء كانت المحكيّة أو المرويّة شِعراً، والخراريف، وهذه تحديداً نالت جزءاً وافراً من الذّاكرة الشّعبيّة الإماراتيّة التي جعلت من البحر ودوابّه وكائناته ميداناً خصباً للخيال فكان لِخرّوفة «بابا درياه»، ولِخرّوفة «خطّاف رفّاي»، ولِخرّوفة «سلامة وبناتها» تأثير في النّفسيّة والشّخصيّة التي تعاملتْ مع البحر.

وأضاف المعمري إلى هذه القصص ما دعاه القصّة الرمزيّة وهي الحكاية التي لا واقع لها، ولها أبطالها، وتجري بين النّاس مجرى القصّة الحقيقيّة، ولها هدف ومغزى ومعنى. مثل: حكاية المرأة وابنها اليتيم، واليد البشريّة التي تخرج من وسط البحر، والغيص الشجاع كالدّانة في خربة. وفي آخر الكتاب ملاحق تضمّ صوراً لأسماك وسفن وبعض أجزاء السفينة والأشرعة وأدوات الصيد.

البُعد النفسي والفلسفي

لا يكتمل الحديث عن تراث البحر وآماله ومآلاته وحالاته دون الحديث عن العمق الفلسفي والنّفسي لتلك العلاقة بين أهالي الساحل والبحر، وهذا ما حاول الكاتب المبدع علي أبو الريش الإجابة عليه في كتابه «البحر في الذّاكرة الإماراتيّة»، فهو هنا يؤكّد أنّ أبناء الساحل تكون أحلامهم منبعثة من أتون الماء، فهم حتى في أحلامهم لا ينفكّون عن البحر بأهواله وأمواجه وتقلّباته وخيراته وعطاءاته بكلّ ما فيه، وبكلّ ما هو له.

ومن هنا تنطلق تلك العلاقة المتجذّرة في نفوس سكّان الساحل فهم على قربهم أو بُعدهم عن الساحل في تواصل دائم مع البحر، ومنه تحدّرت قصصهم وحكاياتهم وخراريفهم التي عدّها الأستاذ علي قناعة مغلوطة ولكنّها راسخة، وفي الوقت نفسه يراها سلوكاً إنسانيّاً عامّاً لا علاقة له بالتطوّر العقليّ.

وهذا ما دفع الأهالي عبر العصور إلى مرافقة هذه الخرافة والحكاية والقصّة بطقوس معيّنة تجعل منها سلوكاً مرتبطاً بالحياة على البحر. ومن هنا ينطلق للبحث عن خرّوفتي «بابا درياه» و«خطّاف رفّاي» على اعتبار أنّهما مرتبتطان كلياً بالبحر وكائناته.

ويحلّل أبو الريش شخصيّة هذا الكائن الخرافي، وهو يراه في الأصل يمثّل مظهراً من مظاهر الفحش والغباء والسرقة والعدوان الذي كان يوماً ما حقيقة جعلتْ منه العامّة عفريتاً عظيم الخلقة تخيف به الأطفال في البداية ثمّ تطوّر الحال ليكون حكاية متطاولة كبرت وتضخّمت مع مرور الزمن، وقدّمتْه الذّاكرة في حالة غموض وخفاء. ومع هذه الصورة المهولة لهذا الكائن العظيم فإنّه على أهالي الساحل مقاومته والاستعداد لدفع ضرّه، والتشجّع في مواجهته.

البحر في الوجدان والذاكرة

وهو البحر نفسه الذي سكن الوجدان الإماراتي ليس لكونه مصدراً للرزق فحسب، بل مطهّراً للذّات وللنّفس، وشكلاً من أشكال القوّة اللامتناهية. ومع حبّهم للبحر وللرزق الذي يأتي منه فإنّه كذلك محل مهابة تختزن في الأعماق ما للبحر من مخاطر وأهوال.

ومهما كانت قوّة «بابا درياه»، ومهما كانت علاقته بالبحر، ومهما كان ضرّه على المبحرين إلا أنّ البحر أعظم منه، وأكبر عطاء منه، وهو الذي لا يكف المحرون التواصل معه، وهو أصلهم الذي إليه يرجعون، وإليه يفيئون.

ويستنتج أبوالريش من كلّ ذلك أنّ مثل هذه الحكايات نشأت في وقت انعدام الأنوار، والتفاف الظلام بكلّ شيء، في الغرف، وفي البيوت، وفي السكك، وفي الأزقّة، وفي الزوايا، في كلّ موضع، إلا مَن يتمكّن من حمل مسرج أو مصباح لا يكاد يضيء ما حوله. ومع كلّ هذه الحالات إلا أنّ حبّ أهالي الساحل لبحرهم يتنامى ويسود القلوب ويحيي النّفوس فتنتعش عواطفهم ويتمثّل في نفوسهم الأمل والطموحات.

ويلمح أبوالريش إلى أنّ البحر هو الأب الحنون الذي يضفي وجوده وُجوداً على الوجود، وهو مصدر القوّة ومثال الصبر والتحمّل. وهو القدرة التي تدرأ خطر «بابا درياه» الذي يخرج من البحر وليس من الصحراء، وهذا من المفارقات العجيبة.

ومهما قيلت من عبارات تحذّر من ركوب البحر، فقالوا: «البحر غدّار، لا أمان له» وهي مقولة تحذيريّة للأطفال من الذّهاب إلى سِيف البحر بمفردهم، وتخويفهم من السباحة فيه وأطرافهم غضّة لا تقاوم دفع الأمواج.

بينما الحقيقة أنّ الكبار هم أول مَن يرتاد البحر صيداً وغوصاً وسفراً. ومن تلمحيات الأستاذ علي أنّ النّاس يخافون من «بابا درياه» وهم في حقيقة الأمر لم يلتقوا به، وإنّما يخافونه فقط لأنّه كائن مرعب، يخطف الرجال، ويسلبهم حياتهم.

ومن جماليّات التلميحات قوله: إنّ الإنسان الواحد يكون عدّة أشخاص في اليوم الواحد، فتراه سعيداً، وتراه بعد فترة حزيناً، ثمّ تراه منبسطاً مرتاحاً، وبعد فترة تراه منقبضاً كئيباً، وهكذا دواليك، ثمّ يعكس كلّ تلك المشاعر على تعاملاته مع الآخرين، ومع المكان كذلك.

حقيقة متأصّلة

يمثّل البحر عند أهل الإمارات الحقيقة الواعية المتأصّلة في الأذهان والوجدان، تلك الحقيقة التي لا تغادر ذكرياتهم أبداً. ولهذا فهم حين يكونون على ظهور السفن فهم يتحرّكون وفق متطلّبات الحياة، وهم في تلك البحار يلجؤون إلى ترنيمة النّهام التي تخرج مجلجلة، شجيّة، شادية تعلن للوجود أنّهم يجوبون البحار طلباً للحياة.

وفي هذا الغناء عودة للأصول، واتّحاد مع الوجود الكلّيّ، ولأنّ كلّ ما في الوجود يغنّي ويطرب للأغنية والصوت، فهم أيضاً يتجاوبون مع ذلك كلّه، وهذا ما يؤدّيه النّهّام. وحين يكون أهل الإمارات مبحرين، فإنّ أشواقهم لِمَن في البرّ تزيدهم ولهاً وتعلّقاً بالأحبّة وبأرض الأحبّة التي يدعون الله أن يصلوا إليها سالمين غانمين، ولهذا يشدون ويغنّون ويطربون ويقولون الأشعار.

 

 

 

 

Email