عدسة الأيام

المُـسلّــم.. صاحب «ساحل الذهب الأسود»

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر محمد سعيد بن موسى بن ضيف بن حسن بن علي بن عبدالله المسلم من أوائل الأدباء والمؤرخين والشعراء السعوديين الذين وضعوا مؤلفاً حول تاريخ مدينة القطيف بصفة خاصة وتاريخ شرق المملكة العربية السعودية بصفة عامة، وذلك حينما نشر في بيروت كتابه الموسوم «ساحل الذهب الأسود» في عام 1962، وهو الكتاب الذي وضع مقدمته علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، وصار مذاك مرجعاً مهماً لتاريخ الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية.

دعونا نقرأ ما كتبه المؤلف عن كتابه، ولماذا سماه «ساحل الذهب الأسود».

«ليس هذا الكتاب تاريخاً لمدينة القطيف فحسب، وإنما هو تاريخ للقطيف بمفهومها التاريخي القديم، الذي يشمل منطقة الخليج العربي كلها، بما فيها المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. تلك المنطقة التي اشتهرت منذ القدم بمصائد اللؤلؤ الطبيعي، وتصدير التوابل والعطور إلى أنحاء العالم، وكانت بحكم موقعها الاستراتيجي همزة وصل بين الشرق والغرب.

وقد لعبت هذه المنطقة دوراً خطيراً في التاريخ، فانبثقت منها حضارة الفينيقيين والجهرائيين (...).

وهي اليوم مطمح أنظار العالم، لأنها خزان البترول العالمي الذي يحوي أضخم احتياطي بترولي على سطح الكرة الأرضية، كما قرر الخبراء، فهي على حق أن يُتخذ لها هذا الاسم الجديد.. ساحل الذهب الأسود».

أما الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، فقد قال في مقدمته: «كتابة التاريخ ليست بالأمر اليسير، إذا قــُصد بها أنْ ترسم صورة واضحة المعالم، صادقة التعبير (...)، وهذا ما حملني على الاستغراب حينما أخبرني أحد الإخوان بأن الأستاذ محمد سعيد المسلم يقوم بطبع كتاب ألفه عن تاريخ الجزء الشرقي من بلادنا ــ المعروف الآن بالمنطقة الشرقية، وقديماً باسم الخط (...)، وهذا الاستغراب مبعثه الأول هو الإشفاق على شاب أديب عرفته شاعراً رقيق الشعور والإحساس، ولم أعرفه باحثاً مؤرخاً جلداً على قضاء الساعات ــ أو الأيام والليالي ــ للعثور على نص تاريخي، في كتاب يبلغ مئات الصفحات، مخطوطاً أو مطبوعاً.

حقاً لقد أشفقتُ على هذا الشاعر الصديق من تصديه للكتابة عن تأريخ هذا الجزء الحبيب من بلادنا، وقلت في نفسي: أترى يستطيع الوصول إلى غاية وهو يسير في بيداء لا يبصر السائر فيها طريقه صوى ولا مناراً؟.

ولكن الأستاذ المسلم كان قد اتخذ للأمر أهميته، فأمضى سنوات تقارب العشر، باحثاً ومنقباً، حيث مجال البحث والتنقيب خصب ــ حتى خرج على المعنيين بمعرفة تاريخ بلادنا بسفر ممتع».

1922

وُلد المسلم في حي السدرة من قلعة القطيف في 15 أكتوبر 1922 ابناً لأسرة ميسورة الحال من ملاك بساتين النخيل، هي أسرة «المسلم» أو «آل مسلم» التي ورد ذكرها في دليل الخليج للبريطاني لوريمر سنة 1908.

ومحمد سعيد المسلم هو الابن السابع عشر لأبيه من بعد موت إخوانه غير الأشقاء الستة عشر من زوجة والده الأولى «سلامة بنت مهدي الخنيزي»، إذ كانت وفيات الأطفال أمراً شائعاً في القطيف وما جاورها في تلك الفترة بسبب قلة الوعي والرعاية الصحية، ولهذا السبب فإنه حظي بعد أن ولدته أمه «زهراء بنت محمد بن محمد علي الماحوزي» برعاية استثنائية من قبل والده كي لا يكون مصيره الموت المبكر على نحو ما حدث لإخوته السابقين من أبيه.

صرامة وجدّية

وهكذا عاش المسلم سنوات طفولته في جو أسري تسوده الصرامة والجدية من جهة، وبحبوحة العيش والدلال من جهة أخرى، على الرغم من تأثر ثروة والده كغيره بظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية.

لقد كان خوف والده عليه استثنائياً، بدليل أنه حرّم عليه اللعب مع أقرانه من الأطفال في أزقة و«دواعيس» القطيف، كما تجلّى خوف والده عليه في رفضه اقتراحاً في فترة لاحقة من قبل الشيخ «علي أبو الحسن الخنيزي» لإرساله إلى النجف كي يتبحر في علوم الدين، حدث هذا على الرغم من أنّ والده صمم منذ البداية على تربيته بطريقة تؤهله ليصبح أحد علماء الدين، لكون علماء الدين يتميزون بمنزلة اجتماعية كبيرة في القطيف وما جاورها، خصوصاً أن أخاه الأكبر الشيخ عيسى المسلم كان من رجال الدين المعروفين، وأخاه الأصغر عيسى المسلم كان يحظى بالاحترام والتقدير بسبب ديوانه الشعري «نزهة القلوب وفرجة المكروب»، وبسبب ممارسته الطب الشعبي الذي تعلمه من قراءاته في كتب ابن سينا وداود الأنطاكي وغيرهما، ناهيك عن أنّ جدّ محمد سعيد المسلم لأمه الشيخ «محمد الماحوزي»، وكذا عم والدته الشيخ «عبد علي الماحوزي»، كانا من أحفاد سلسلة من رجال الدين المعروفين على مدى أجيال في القطيف والبحرين.

وسط هذه الظروف، ترعرع المسلم عاشقاً للقراءة والكتابة بتأثير من والدته التي كانت شغوفة بالقراءة والاطلاع، على الرغم من إصابتها في سن السادسة والعشرين بمرض عضال، مما جعل ابنها يلازمها طويلاً، فتعلم منها الحزم والهدوء وتنظيم وقته وأموره، والتحكم في سلوكه، مما جعله إنساناً منضبطاً رقيقاً وصاحب شخصية متحضرة في حياته الأولى، قبل أن يخرج من أسوار قلعة القطيف، وينفتح خارجها على الحياة العصرية الملونة التي كان لها بالغ الأثر في ثقافته واطلاعه ونبوغه الأدبي والشعري.

مجالس العلماء

دراسياً، بدأ المسلم حياته بالاحتكاك منذ سنوات طفولته بمجالس العلماء وكبار مثقفي القطيف، إذ أدخله والده الكتـّـاب التقليدي في سن السابعة، فختم القرآن خلال سبعة أشهر على يد الشيخ محمد صالح البريكي، ثم تعلم مبادئ الخط والإملاء والإنشاء والحساب على يد أساتذة عصره ممن رأوا فيه تلميذاً متفوقاً وذكياً، وهو ما جعل الشيخ البريكي يقترح على والده أن يرسله إلى الشيخ ميرزا حسين البريكي كي يتعلم على يد الأخير مبادئ علم النحو والصرف، فقرأ الآجرومية، وعلوم النحو والصرف، وكتاب «قطر الندى وبلّ الصدى» لابن هشام الأنصاري، وكتاب «ألفية ابن مالك»، علاوة على كتب أخرى عديدة في علوم اللغة والدين والعروض، خصوصاً أنه كان شغوفاً بزيادة تحصيله العلمي بقدر الإمكان.

بعد أن اشتد عوده وتعلّم الكثير، قرّر صاحبنا أن يكرّس وقته أكثر في التحصيل، فقسمه بين الدرس والتدريس، فبرز من بين تلامذته الشاعر «محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي»، والشاعر «عبد الواحد بن حسن الخنيزي»، وأخوه عبد الرؤوف، و«أحمد بن الشيخ منصور البيات»، و«محمد سعيد بن الشيخ محمد علي الخنيزي»، و«ملا علي الطويل»، وغيرهم.

أما مهنياً، فقد بدأ المسلم مشواره بالعمل مع والده في إدارة أملاكه من بساتين النخيل والإشراف عليها ومتابعتها، وكتابة الاتفاقيات الخاصة بضمان تأجير تلك البساتين بين والده والفلاحين، علماً بأنه انغمس في هذه الأعمال بحرّية تامة بعد وفاة والده، وصار في مقدوره التصرف في عوائدها، فلم يضطر سنوات طويلة إلى البحث عن وظيفة، كما أن عوائد بساتين النخيل مكّنته من الإنفاق على أهله والسفر للسياحة في البلاد العربية، ولا سيما العراق الذي سافر إليه في أوائل الخمسينيات، حينما تيقن أن العمل في الزراعة لم يعد كما كان في الماضي بسبب تغير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مجتمعات القطيف وما حولها على إثر اكتشاف النفط وإنتاجه وتصديره شرقي السعودية، وبالتالي هجرة فلاحي القطيف لمزارعهم من أجل العمل في منشآت وأعمال شركة أرامكو النفطية بأجور أعلى.

لم يسافر المسلم إلى العراق فحسب، وإنما مارس فيه أيضاً العمل الحر من خلال تأسيس شركة تجارية بشارع الرشيد ببغداد مع أحد أقاربه العراقيين، وكانت شركته هذه متخصصة في تسويق الآلات الزراعية دانماركية المنشأ، غير أن هذا العمل كان يتطلب جهداً كبيراً وتفرغاً دائماً، بحيث لم يترك له مجالاً لمواصلة نشاطه الأدبي، وتوطيد علاقاته مع رواد الأدب والفكر النهضوي في العراق، فقرر تصفية الشركة المذكورة، لكنه في عام 1958 اشترك مع أحد معارفه من البحرينيين المقيمين بالعراق في تأسيس مكتبة تجارية تحت اسم «مكتبة الخليج العربي»، بالقرب من باب المعظم ببغداد، وهي المكتبة التي تعرضت للحرق عمداً سنة 1959 على أيدي الشيوعيين، حينما شهدت بغداد اضطرابات وصراعات سياسية.

ومما ورد في سيرة الرجل المنشورة في الموسوعة الحرة أنه أثناء إقامته بالعراق مارس الصحافة عبر الكتابة في صحيفة «الجمهورية» العراقية، ودرس المحاسبة والأعمال المصرفية في معهد الثقافة، كما درس اللغة الإنجليزية في المعهد البريطاني، وهو ما أتاح له ــ بعد عودته من العراق إلى وطنه في سنة 1960 ــ فرصة تقلّد أول عمل وظيفي في حياته، والتحق بفرع بنك الرياض بمدينة الدمام القريبة من مسقط رأسه موظفاً، واختار الدمام مقراً لإقامته، وبعد أن أثبت جدارته وكفاءته في العمل المصرفي، أُسندت إليه مهمة تأسيس فرع لبنك الرياض بالقطيف، فأسّس ما عُـرف بأول بنوك القطيف.

بعد ذلك أسهم في تأسيس فرع آخر للبنك بجزيرة تاروت، وصار مديراً له، وبقي في هذا المنصب حتى تقاعده سنة 1989. وخلال عمله المصرفي كان يُلقّب بشاعر بنك الرياض تقديراً لمواهبه الشعرية، وكان موضع احترام الجميع لتاريخه الأدبي والعلمي، وخصاله الحميدة، وجديته وانضباطه في العمل. من ناحية أخرى، تأثر الرجل خلال إقامته وعمله في العراق ببعض الأفكار السياسية الرائجة آنذاك في العالم العربي، من تلك التي حاول ترويجها في وطنه بعد عودته إليه، فتعرض لبعض المتاعب والإشكاليات التي أدت به إلى السجن بعض الوقت، قبل أن يُــعفى عنه.

قلنا إن المسلم انشغل بالأدب في سن مبكرة، ومن مظاهر هذا الانشغال أنه بدأ أولى محاولاته الشعرية في سن الرابعة عشرة بدعم من الشاعر الخليجي المجدد «خالد محمد الفرج» الذي كان صديقاً لأستاذه البريكي، وكان يعمل آنذاك مسؤولاً عن بلدية القطيف بأمر من الملك عبد العزيز بعد هجرته إلى السعودية من البحرين. أما أول قصيدة نظمها فكانت في عام 1940 في حفل تأبين «السيد سعيد العوامي»، وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.

في هذه السن المبكرة بدأ المسلم تكوين أولى مجموعاته الشعرية التي فاجأ بها الجميع، وكانت دافعاً لأقرانه إلى الاقتداء به والدخول في منافسة معه عبر تنظيم القصائد وكتابة الخواطر. ومن هنا تواصلت وتتابعت اجتماعاته ولقاءاته مع من كانوا شغوفين بالأدب والشعر من أبناء القطيف وما جاورها من قرى وبلدات، وهو الأمر الذي تحولت معه تلك الاجتماعات إلى ما يشبه أول نادٍ أدبي في المنطقة، وقد ضم هذا النادي آنذاك كلاً من المسلم، والشعراء: محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي، وعبد الواحد الخنيزي، ومحمد سعيد الجشي، وعلي السيد باقر العوامي، وغيرهم ممن كانوا يجتمعون دورياً في منازلهم كل يوم جمعة.

آثار هذا النادي العفوي تعدتْ القطيف وشرقي السعودية لتصل إلى صحف لبنان ومصر والبحرين والكويت في عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، فمثلاً نشرت مجلة «الأديب» اللبنانية أول قصيدة للمسلم في عام 1948، كما نشرت إنتاج المسلم الشعري والأدبي مجلات أخرى، مثل: «العرفان»، و«العالم العربي» اللبنانيتين، و«الرائد» الكويتية، و«الكتاب» المصرية، و«صوت البحرين» البحرينية، وغيرها.

وفي السياق ذاته، تقدمت إذاعة الشرق الأدنى البريطانية من القدس بطلب إلى المسلم ليقدم لها بعض دراساته، ويلقي منها بعض قصائده، فاستجاب الرجل للطلب، وأسهم في برامج هذه الإذاعة في الفترة 1950 ــ 1951.

للمسلم العديد من الأعمال المخطوطة التي لم يتسنَّ له نشرها، كما أنه أحرق دواوينه الشعرية الأولى (آمال وآلام، الوتر الباكي، الصدى الحائر)، لأنه لم يكن راضياً عنها، وكان يعتقد أنه كتبها على عجل، وبالتالي فهي غث وزبد وليست جيدة ولن يــُكتب لها الخلود.

أما مؤلفاته المطبوعة التي انتشرت فتشمل: ديوان «شفق الأحلام» الصادر في عام 1955، وهو باكورة شعره ونتاجه الأدبي؛ وكتاب «ساحل الذهب الأسود.. دراسة تاريخية إنسانية لمنطقة الخليج العربي» الصادر في عام 1962؛ وديوان «عندما تشرق الشمس» الصادر في عام 1989؛ وكتاب «واحة على ضفاف الخليج» الذي هو طبعة منقحة وأوسع صادرة من الرياض لكتابه «ساحل الذهب الأسود».

قيل إن تفكير المسلم الفلسفي يشبه تفكير الشاعر الفارسي عمر الخيام، وضربوا مثلاً على ذلك ببيتين من أوائل قصائده، وهما:

فــُزْ بما تستلذ بالعيش واعلم

                  أنما الناس كلهم للذهـــــابِ

وإذا فرصـــــــــة أتـــــت فاغتنمـها

                      إنما مرُّها كمرّ السحابِ

وهما بيتان يشبهان فعلاً قول الخيام:

لا تشغل البال بماضــــي الزمانْ

                 ولا بباقي العيش قبــــل الأوانْ

واغنم من الحــــاضر لذاتـــــــهِ

                 فليس من طبع الليالي الأمـــانْ

من قصائده قصيدة بعنوان «سيمفونية الخليج»، قال فيها:

خليج يا نغمــــــا من أرغن الضادِ

                  ومشرقاً لحضــــــارات وأمجــــــــــادِ

يا منبت الدر يا من كان مفخــــرةً

                   محاره لأكـــــــاليل وأجيــــــــــــــــــادِ

يا من غدا هدفاً للطامعــــين علـى

                    مرّ العصـــــــور ومرتاداً لقصّـــــــــادِ

على صعيدك شعّ الحرف وانطلقتْ

                    شمس الحضــــــــارة من وادٍ إلى وادِ

أبناء ديلمون من جابـــوا البحــــار ومن

                            أرسوا حضارات صيدونٍ وآرادِ

توفي المسلم في الثاني من مايو سنة 1994 بمستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض الذي كان يُعالَج فيه، ودُفن بمسقط رأسه في القطيف، فنعاه ورثاه الكثيرون نثراً وشعراً، وفي مقدمتهم صديقه الأستاذ محمد سعيد البريكي الذي نظم فيه قصيدة بعنوان «دمعة على المسلم».

وقد جمع ابنه فايز المسلم وأخوه عبد الواحد موسى المسلم لاحقاً كل ما قيل في رثائه ونعيه، ونشراه في كتاب من قرابة 425 صفحة، حمل عنوان «ذكرى مؤرخ وشاعر»، وطُبع في الرياض.

3

تزوّج المسلم بامرأتين من قطيف، فأنجب من الأولى (كريمة أستاذه الشيخ محمد صالح البريكي) ابنه البكر المهندس فايز المسلم، رحمه الله، وابنته فايزة المسلم (حرم حسن علي بن الشيخ طاهر بن الشيخ حسن علي البدر)، رحمها الله، وأنجب من الثانية ثلاث بنات، هن: عبير وعــُلا وعرين، وبين هذين الزواجين تزوّج سيدة لبنانية أنجبت له أبناءه: الدكتور سامي، وسمير، والمهندس سلام، وسناء، وسهى.

Email